Skip to main content

Full text of "waq79660"

See other formats


أحجار على رقعة الشطرنج

1التطبيق العملي للبروتوكولات!!!

 

 عندما بدأت الحرب العالمية الأولى، كان (وليم كار) قد انضم الى البحرية الأميركية.. وفي الوقت الذي كان فيه يتدرج على سلم المراتب، كان يواصل دراسته لخطوات المؤامرة اليهودية الكبرى.

 

قبل وفاته الغامضة أصدر كتابه "الشيطان أمير العالم" و"ضباب أحمر فوق أميركا"، بالإضافة لكتابه هذا، الذي اعتبره المفكرون صوت النذير لعقلاء العالم لكي يتحدوا في مسيرة الخير لدحر قوى الشر اللئيم.

 

أنا أنصح بشدّة بقراءة هذا الكتاب.. لكن يجب ألا تصدق كلّ شيء بدون تمحيص.

 

فمثلا: هو يتحدث عن النورانيين عبدة الشيطان..

 

قد لا تتقبل عقولنا هذا.. وقد تكون محاولة لتلافي الاتهام المباشر لليهود (الذين يصورهم كأتباع مخدوعين لأسيادهم النورانيين!!)، وذلك حتّى لا يتهموه بعداء السامية!!

 

أيضا تجد أنّ هناك تحاملا كبيرا على الروس.. قد تكون للحرب الباردة تأثيراتها في هذا.. كما أنّه عمل في خدمة الدين المسيحيّ بعد أن ترك البحرية، مما قد يجعله يتحامل على الروس بسب الشيوعية الملحدة.

 

عموما، كلّ الاحتمالات واردة..

 

ولكنّ هذا لا يمنع أنّ هناك الكثير مما يستحق القراءة في الكتاب، خاصة فيما يتعلق بسيطرة اليهود على اقتصاد العالم..

 

فرجاء: لا تفوّت فرصة قراءة هذا الكتاب، الذي قام أحد أعضاء المنتدبات بتكليف من يكتبه على الكمبيوتر.. فهذه أوّل نسخة ألكترونيّة منه.  

 

 

 

 2مراحل المؤامرة

 

 في عام 1784 وضعت مشيئة الله تحت حيازة الحكومة البافارية براهين قاطعة علي وجود المؤامرة الشيطانية المستمرة:

 

كان آدم وايزهاوبت Adam Weishaupt أستاذا يسيوعيا للقانون في جامعة انغولد شتات Ingoldstadt، ولكنه أرتد عن المسيحية ليعتنق المذهب الشيطاني.. في عام 1770 استأجره المرابون الذين قاموا بتنظيم مؤسسة روتشيلد، لمراجعة وإعادة تنظيم البروتوكولات القديمة علي أسس حديثة.. والهدف من هذه البروتوكولات هو التمهيد لكنيس الشيطان للسيطرة علي العالم، كما يفرض المذهب الشيطاني وأيديولوجيته علي ما يتبقى من الجنس البشريّ، بعد الكارثة الاجتماعية الشاملة التي يجري الإعداد لها بطرق شيطانية طاغية.

 

وقد أنهي وايزهاوبت مهمته في الأول من أيار (مايو) 1776.

 

ويستدعي هذا المخطط الذي رسمه وايزهاوبت تدمير جميع الحكومات والأديان الموجودة.. ويتم الوصول إلي هذا الهدف عن طريق تقسيم الشعوب ـ التي سماها الجوييم (لفظ بمعني القطعان البشرية، يطلقه اليهود علي البشر من الأديان الأخرى) ـ إلي معسكرات متنابذة تتصارع إلي الأبد، حول عدد من المشاكل التي تتولّد دونما توقف، اقتصادية وسياسية وعنصرية واجتماعية وغيرها.

 

ويقتضي المخطط تسليح هذه المعسكرات بعد خلقها، ثم يجري تدبير "حادث" في كل فترة، لتنقص هذه المعسكرات علي بعضها البعض، فتضعف نفسها محطمة الحكومات الوطنية والمؤسسات الدينية.

 

وفي عام 1776 نظم وايزهاوبت جماعة النورانيين لوضع المؤامرة موضع التنفيذ.. وكلمة النورانيين تعبير شيطاني يعني "حملة النور".

 

ولجأ وايزهاوبت إلي الكذب، مدعيا أن هدفه الوصول إلي حكومة عالمية واحدة، تتكون من ذوي القدرات الفكرية الكبرى ممن يتم البرهان علي تفوقهم العقليّ.. واستطاع بذلك أن يضمّ إليه ما يقارب الألفين من الأتباع، من بينهم أبرز المتفوقين في ميادين الفنون والآداب والعلوم والاقتصاد والصناعة.. وأسس عندئذ محفل الشرق الأكبر ليكون مركز القيادة السريّ لرجال المخطط الجديد.. وتقتضي خطة وايزهاوبت المنقّحة من أتباعه النورانيين اتّباع التعليمات الآتية لتنفيذ أهدافهم:

 

1.  استعمال الرِشوة بالمال والجنس، للوصول إلي السيطرة علي الأشخاص الذين يشغلون المراكز الحساسة علي مختلف المستويات، في جميع الحكومات وفي مختلف مجالات النشاط الإنساني.. ويجب عندما يقع أحدهم شراك النورانيين، أن يستنزف بالعمل في سبيلهم، عن طريق الابتزاز السياسيّ، أو التهديد بالخراب المالي، أو يجعله ضحية لفضيحة عامه كبري، أو بالإيذاء الجسدي، أو حتى بالموت هو ومن يحبهم.

 

2.  يجب علي النورانيين الذين يعملون كأساتذة في الجامعات والمعاهد العلمية، أن يولوا اهتمامهم إلي الطلاب المتفوقين عقليا والمنتمين إلي أسر محترمة، ليولّدوا فيهم الاتجاه نحو الأممية العالمية، كما يجري تدريبهم فيما بعد تدريبا خاصا علي أصول المذهب العالميّ، بتخصيص منح دراسية لهم.. ويلقّن هؤلاء الطلاب فكرة الأممية أو العالمية، حتى تلقي القبول منهم، ويرسخ في أذهانهم أن تكوين حكومة عالمية واحدة في العالم كله، هو الطريقة الوحيدة للخلاص من الحروب والكوارث المتوالية.. ويجب إقناعهم بأن الأشخاص ذوي المواهب والملكات العقلية الخاصة، لهم الحق في السيطرة علي من هم أقل كفاءة وذكاء منهم، لأن الجوييم يجهلون ما هو صالح لهم جسديا وعقليا وروحيا.. ويوجد في العالم اليوم ثلاث مدارس متخصصة بذلك.. تقع الأولي في بلده غوردنستون Gorodonstoun في سكوتلندا، والثانية في بلده سالم Salem في ألمانيا، والثالثة في بلدة أنا فريتا Anavryta في اليونان.. وقد درس الأمير فيليب زوج ملكه إنكلترا اليزابيث الثانية في غوردنستون، بتدبير من عمه اللورد لويس ماونتباتن Lord Louis Mountbatten، الذي أصبح بعد الحرب العالمية الثانية القائد الأعلى للبحرية البريطانية.

 

3.  مهمة الشخصيات ذات النفوذ التي تسقط في شباك النورانيين والطلاب الذين تلقوا التدريب الخاص، هي أن يتم استخدامهم كعملاء خلف الستار، بعد إحلالهم في المراكز الحساسة لدي جميع الحكومات، بصفة خبراء أو اختصاصيين، بحيث يكون في إمكانهم تقديم النصح إلي كبار رجال الدولة، وتدريبهم لاعتناق سياسات تخدم في المدى البعيد المخططات السرية لمنظمة العالم الواحد، والتوصل إلي التدمير النهائي لجميع الأديان والحكومات. 

 

4.  السيطرة علي الصحافة وكل أجهزة الإعلام الأخرى، ومن ثم تعرض الأخبار والمعلومات علي الجوييم بشكل يدفعهم إلي الاعتقاد بأن تكوين حكومة أممية واحدة هو الطريق الوحيد لحل مشاكل العالم المختلفة.

 

***

 

ولما كانت فرنسا وإنكلترا أعظم قوتين في العالم في تلك الفترة، أصدر وايزهاوبت أوامره إلي جماعة النورانيين لكي يثيروا الحروب الاستعمارية لأجل إنهاك بريطانيا وإمبراطوريتها، وينظموا ثورة كبري لأجل إنهاك فرنسا.. وكان في مخططه أن تندلع هذه الأخيرة في عام 1789.

 

هذا وقد وضّع كاتب ألماني أسمه سفاك Zwack نسخة وايزهاوبت المنقحة عن المؤامرة القديمة، علي شكل كتاب جعل عنوانه "المخطوطات الأصلية الوحيدة" Einige Original Scripten.

 

وفي عام 1784 أرسلت نسخة من هذه الوثيقة إلي جماعة النورانيين، الذين أوفدهم وايزهاوبت إلي فرنسا لتدبير الثورة فيها.. ولكن صاعقة انقضت علي حامل الرسالة وهو يمر خلال راتسبون Ratisbon في طريقه من فرانكفورت إلي باريس، فألقته صريعا على الأرض، مما أدي إلي العثور علي الوثيقة التخريبية من قبل رجال الأمن لدي تفتيشهم جثته، وسلم هؤلاء الأوراق إلي السلطات المختصة في حكومة بافاريا.

 

وبعد أن درست الحكومة البافارية بعناية وثيقة المؤامرة، أصدرت أوامرها إلي قوات الأمن لاحتلال محفل الشرق الأكبر ومداهمه منازل عدد من شركاء وايزهاوبت من الشخصيات ذات النفوذ، بما فيها قصر البارون باسوس Bassus في سندرسدورف Sandersdorfv.

 

وأقنعت الوثائق الإضافية ـ التي وجدت إبان هذه المداهمات ـ الحكومة البافارية بأن الوثيقة هي نسخة أصلية عن مؤامرة رسمها الكنيس الشيطاني الذي يسيطر علي جماعة النورانيين.

 

وهكذا أغلقت حكومة بافاريا محفل الشرق الأكبر عام 1785، واعتبرت جماعة النورانيين خارجين على القانون.

 

وفي عام 1786 نشرت سلطات بافاريا تفاصيل المؤامرة، بعنوان "الكتابات الأصلية لنظام ومذاهب النورانيين".. وأرسلت نسخا منها إلي كبار رجال الدولة والكنيسة.. ولكن تغلغل النورانيين ونفوذهم كانا من القوة، بحيث تجوهل هذا النذير، كما تجوهلت قبله تحذيرات المسيح للعالم.

 

انتقل نشاط النورانيين منذ ذلك الوقت إلي الخفاء، وأصدر وايزهاوبت تعاليمه إلي أتباعه بالتسلل إلي صفوف ومحافل جمعية الماسونية الزرقاء، وتكوين جمعية سرية في قلب التنظيمات السرية.

 

ولم يسمح بدخول المذهب النورانيّ، إلا للماسونيين الذين برهنوا علي ميلهم للأممية، وأظهروا بسلوكهم بعدا عن الله.. وهكذا استخدم النورانيون قناع الإنسانية لتغطية نشاطهم التخريبي الهدام.. وعندما شرعوا في التمهيد للتسلل إلي المحافل الماسونية في بريطانيا، وجهوا الدعوة إلي جون روبنسون لزيارة الدول الأوروبية.. وكان روبلسون أحد كبار الماسونيين في سكوتلندا وأستاذا للفلسفة الطبيعية في جامعة أدنبره وأمين سر الجمعية الملكية فيها.. ولكن خدعتهم لم تنطلِ علي روبنسون، ولم يصدق أن الهدف الذي يريد العالميون الوصول إليه هو إنشاء دكتاتورية محبة وسماحة.. إلا أنه احتفظ بمشاعره لنفسه.. وعهد إليه النورانيون بنسخة منقحة من مخطط مؤامرة وايزهاوبت لدراستها والحفاظ عليها.

 

وفي عام 1789 تفجرت الثورة في فرنسا، بسبب رضوخ رجال الدولة والكنيسة فيها للنصح الذي وُجّه إليهم بتجاهل التحذيرات التي تلقوها.

 

ولكي ينبّه الحكومات الأخرى إلي خطر النورانيين، عمد روبنسون إلي نشر كتاب سنه 1798، أسماه "البرهان علي وجود مؤامرة لتدمير كافة الحكومات والأديان".. ولكن هذا التحذير تُجوهل أيضا كما تجوهلت التحذيرات التي سبقته!

 

كان توماس جيفرسون قد أصبح تلميذا لوايزهاوبت، كما كان من أشد المدافعين عنه حينما أعلنته حكومة بلاده خارجا علي القانون.. وعن طريق جيفرسون تم تغلغل النورانيين في المحافل الماسونية حديثة التشكيل آنئذ في "إنجلترا الجديدة" New England.

 

ومع علمي أن هذه المعلومات ستهز الكثير من الأمريكيين إلا أنني أرغب في تسجيل الحقائق التالية:

 

في عام 1789 حذر جون روبنسون الزعماء الماسونيين من تغلغل جماعة النورانيين في محافلهم.

 

وفي التاسع عشر من تموز 1798 أدلي دافيد باين رئيس جامعة هارفارد بنفس التحذير إلي المتخرجين، وأوضح لهم النفوذ المتزايد للنورانيين في الأوساط السياسية والدينية في الولايات المتحدة الأميركية.

 

كان جون كوينسي آدا مز John Quincy Adams قد نظم المحافل الماسونية في أميركا.. وقرر عام 1800 ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية ضد جيفرسون، فكتب ثلاث رسائل إلي الكولونيل وليم ستون، شارحا كيف استخدم جيفرسون المحافل الماسونية لأهداف تخريبية.. ومما يؤكد صحة مضمون هذه الرسائل، نجاح جون كوينسي أدامز في انتخابات الرئاسة.. ولا تزال هذه الرسائل محفوظة في مكتبه ريتنبورغ سكوير Ritenburg في مدينة فيلادلفيا.

 

وفي عام 1826 رأي الكابتن وليام مورغان أن واجبه يقتضي منه إعلام بقية الماسونيين والرأي العام بالحقيقة فيما يتعلق بالنورانيين ومخططاتهم السرية وهدفهم النهائي.. وكلف النورانيون واحدا منهم ـ هو الإنجليزي ريتشارد هوارد ـ بتنفيذ حكمهم الذي أصدروه علي مورغان بالموت كخائن.. وحذر الكابتن مورغان من الخطر، فحاول الهرب إلي كندا، ولكن هوارد تمكن من اللحاق به بالقرب من الحدود، حيث اغتاله علي مقربة من وادي نياغارا.. وعثر التحقيق علي شخص من نيويورك اسمه آفيري ألين Avery Allen أقسم يمينا أنه سمع هوارد وهو يقدم تقريرا في اجتماع لجمعية سرية في نيويورك اسمها "فرسان المعبد" Knights Templars، حيث شرح في هذا التقرير كيف نقد حكم الإعدام بالكابتن مورغان.. وأفاد كيف اتخذت الترتيبات لنقل القاتل بعيدا إلي إنجلترا. 

 

لا يعلم سوي القليلين اليوم، أن هذا الحادث أدي آنئذ إلي استياء وغضب ما يقرب من 40% من الماسونيين في شمالي الولايات المتحدة وهجرهم للماسونية.. ولدي نسخ عن تفاصيل محاضر اجتماع ماسوني كبير عقد آنئذ لمناقشة هذه الحادثة.. ونستطيع تصوّر مقدار نفوذ القائمين علي المؤامرة الشيطانية، إذا تذكرت بأنهم استطاعوا حذف حوادث بارزة كهذه من مناهج التاريخ التي تدرس في المدارس الأمريكية!!

 

وفي عام 1829 عقد النورانيون مؤتمرا لهم في نيويورك، تكلم فيه نورانيّ إنجليزي اسمه رايت Wright، وأعلم فيه المجتمعين أن جماعتهم قرّرت ضم جماعات العدنيين Nihilist والإلحاديين Atheist وغيرهم من الحركات التخريبية الأخرى، في منظمة عالمية واحدة تعرف بالشيوعية.. وكان الهدف من هذه القوة التخريبية التمهيد لجماعة النورانيين لإثارة الحروب والثورات في المستقبل.. وقد عين كيلينتون روزفلت Clinton Roosevelt ـ الجد المباشر لفرانكلين روزفلت ـ و(هوارس غريلي) و(تشارلز دانا) لجمع المال لتمويل المشروع الجديد.. وقد مولت هذه الأرصدة (كارل ماركس) و(إنجليز) عندما كتبا "رأس المال" و "البيان الشيوعي" في حي سوهوفي العاصمة الإنجليزية لندن.

 

وفي عام 1830 مات وايزهاوبت بعد أن ادّعي أن النورانية ستموت بموته، ولكي يخدع مستشاريه الروحانيين، تظاهر بأنه تاب وعاد إلي أحضان الكنيسة.

 

وهكذا ففي الوقت الذي كان فيه كارل ماركس يكتب "البيان الشيوعي" تحت إشراف جماعة من النوارنيين، كان البروفيسور (كارل ريتر) من جامعة فرانكفورت يعد النظرية المعادية للشيوعية، تحت إشراف جماعة أخري من النورانيين، بحيث يكون بمقدور رؤوس المؤامرة العالمية استخدام النظريتين في التفريق بين الأمم والشعوب، بصورة ينقسم فيها الجنس البشري إلي معسكرين متناحرين، ثم يتم تسليح كل منها ودفعهما للقتال وتدمير بعضهما والمؤسسات الدينية والسياسية لكل منهما.

 

وقد أكمل العمل الذي شرع به ريتر، ذلك الألماني الذي وصف بالفيلسوف (فردريك وليام) الذي أسس المذهب المعروف باسمه "النيتشييزم".

 

وكان هذا المذهب هو الأساس الذي تفرع عنه فيما بعد المذهب النازي.. وهذه المذاهب هي التي مكنت عملاء النورانيين من إثارة الحربين العالميتين الأولي والثانية.

 

وفي عالم 1834 اختار النورانيون الزعيم الثوري الإيطالي جيوسيبي مازيني Guiseppi Mazzini ليكون مدير برنامجهم لإثارة الاضطرابات في العالم.. وقد ظل هذا المنصب في يدي مازيني حتى مات عام 1872.

 

في عام 1840 جيء إليه بالجنرال الأميركي بابك Albert Pike، الذي لم يلبث أن وقع تحت تأثير مازيني ونفوذه.. وكان الجنرال بابك شديد النقمة آنئذ، لأن الرئيس جيفرسون دافيس سرح القوات الهندية الملحقة بالجيش، والتي كانت تحت قيادته، بسبب ارتكابهم فظائع وحشية تحت قناع الأعمال الحربية العادية.. وتقبل الجنرال بابك فكرة الحكومة العالمية الواحدة، حتى أصبح فيما بعد رئيس النظام الكهنوتي للمؤامرة الشيطانية.. وفي الفترة بين عامي 1859 و1871 عمل في وضع مخطط عسكريّ لحروب عالمية وثلاث ثورات كبري، اعتبر أنها جميعها سوف تؤدي خلال القرن العشرين إلي وصول المؤامرة إلي مرحلتها النهائية.

 

قام الجنرال بابك بمعظم عمله في قصره في بلدة ليتل روك في ولاية أر كاس عام 1840.. وعندما أصبح النورانيون ومعهم محافل الشرق الأكبر موضعا للشبهات والشكوك، بسبب النشاط الثوري الواسع الذي قام به مازيني في كل أرجاء أوربا، أخذ الجنرال بابك علي عاتقة مهمة تجديد وإعادة تنظيم الماسونية، حسب أسس مذهبية جديدة، وأسس ثلاثة مجالس عليا أسماها "البالادية"، الأول في تشارلستون في ولاية كارولينا الجنوبية في الولايات المتحدة، والثاني في روما بإيطاليا، والثالث في برلين بألمانيا.. وعهد إلي مازيني بتأسيس ثلاثة وعشرين مجلسا ثانويا تابعا لها، موزعة علي المراكز الاستراتيجية في العالم.. وأصبحت تلك المجالس منذئذ وحتى الآن مراكز القيادة العامة السرية للحركة الثورية العالمية.. وقبل إعلان ماركوني اختراعه اللاسلكي (الراديو) بزمن طويل، كان علماء النورانيين قد تمكنوا من إجراء الاتصالات السرية بين بابك ورؤساء المجالس المذكورة.. وكان اكتشاف هذا السر هو الذي جعل ضباط المخابرات يدركون كيف أن أحداثا غير ذات صلة ظاهرية مع بعضها تقع في أمكنة مختلفة من العالم وفي وقت واحد، فتخلق ظروفا وملابسات خطيرة، فلا تلبث أن تتطور حتى تنقلب إلي حرب أو إلي ثورة.

 

كان مخطط الجنرال بابك بسيطا بقدر ما كان فعالا.. كان يقتضي أن تنظم الحركات العالمية الثلاث: الشيوعية والنازية والصهيونية السياسية، وغيرها من الحركات العالمية، ثم تستعمل لإثارة الحروب العالمية الثلاث والثورات الثلاث.. وكان الهدف من الحرب العالمية الأولي هو إتاحة المجال للنورانيين للإطاحة بحكم القياصرة في روسيا، وجعل تلك المنطقة معقل الحركة الشيوعية الإلحادية. وتم التمهيد لهذه الحرب باستغلال الخلافات بين الإمبراطوريتين البريطانية والألمانية، التي ولّدها بالأصل عملاء النورانيين في هاتين الدولتين.. وجاء بعد انتهاء الحرب بناء الشيوعية كمذهب واستخدامها لتدمير الحكومات الأخرى وإضعاف الأديان.

 

أما الحرب العالمية الثانية فقد مهدت لها الخلافات بين الفاشستيين والحركة الصهيونية السياسية.. وكان المخطط المرسوم لهذه الحرب أن تنتهي بتدمير النازية وازدياد سلطان الصهيونية السياسية، حتى تتمكن أخيرا من إقامة دولة إسرائيل في فلسطين.. كما كان من الأهداف تدعيم الشيوعية حتى تصل بقوتها إلي مرحلة تعادل فيها مجموع قوي العالم المسيحي، ثمّ إيقافها عند هذا الحد، حتى يبدأ العمل في تنفيذ المرحلة التالية، وهي التمهيد للكارثة الإنسانية النهائية. 

 

أما الحرب العالمية الثالثة، فقد قضي مخططها أن تنشب نتيجة للنزاع الذي يثيره النورانيون بين الصهيونية السياسية وبين قادة العالم الإسلامي، وبأن توجّه هذه الحرب وتدار بحيث يقوم الإسلام والصهيونية بتدمير بعضهما البعض، وفي الوقت ذاته تقوم الشعوب الأخرى بقتال بعضها البعض، حتى تصل إلي حالة من الإعياء المطلق الجسماني والعقلي والروحي والاقتصادي.

 

وفي 10 آب (أغسطس)1871، أخير الجنرال (بابك) (مازيني) أن الذين يطمحون للوصول إلي السيطرة المطلقة علي العالم سيسبّبون يعد نهاية الحرب العالمية الثالثة أعظم فاجعة اجتماعية عرفها العالم في تاريخه.. وسوف نورد فيما يلي كالماته المكتوبة ذاتها (مأخوذة من الرسالة التي يحتفظ بها المتحف البريطاني في لندن بإنكلترا):

 

"سوف نطلق العِنان للحركات الإلحادية والحركات العدمية الهدامة، وسوف نعمل لإحداث كارثة إنسانية عامة تبين بشاعتها اللا متناهية لكل الأمم نتائج الإلحاد المطلق، وسيرون فيه منبع الوحشية ومصدر الهزة الدموية الكبرى.. وعندئذ سيجد مواطنو جميع الأمم أنفسهم مجبرين علي الدفاع عن أنفسهم حيال تلك الأقلية من دعاة الثورة العالمية، فيهبون للقضاء علي أفرادها محطمي الحضارات.. وستجد الجماهير المسيحية آنئذ أن فكرتها اللاهوتية قد أصبحت تائهة غير ذات معنى، وستكون هذه الجماهير متعطشة إلي مثال تتوجه إلية بالعبادة.. وعندئذ بأتيها النور الحقيقي من عقيدة الشيطان الصافية، التي ستصبح ظاهرة عالمية، والتي ستأتي نتيجة لرد الفعل العام لدي الجماهير بعد تدمير المسيحية والإلحاد معا وفي وقت واحد"!

 

ولما مات مازيني في عام 1872، عين بابك زعيما ثوريا إيطاليا آخر أسمه (أدريانو ليمي) خليفة له.. وعندما مات ليمي بعد ذلك خلفه لينين وتروتسكي، وكانت النشاطات الثورية لكل هؤلاء تموّل من قبل أصحاب البنوك العالمية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.. وعلي القارئ، هنا، أن يتذكر أن أصحاب البنوك العالمية هم اليوم ـ كما كان صرافو النقود والمرابون في أيام المسيح ـ عملاء للنورانيين أو أدوات بيدهم.

 

ولقد أدخل في روح الجماهير أن الشيوعية حركة عمالية قامت للدفاع عن حقوق العمال ولتدمير الرأسمالية.. ويُظهر هذا الكتاب "أحجار علي رقعة الشطرنج" وكتاب "ضباب أحمر يعلو أمريكا"، أن ضباط الاستخبارات في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا قد حصلوا علي وثائق وبراهين صحيحة، تثبت أن الرأسماليين العالميين هم الذين موّلوا بواسطة مصارفهم الدولية، كل الأطراف في كل الحروب والثورات منذ 1776.

 

إن أتباع الكنيس الشيطاني هم الذين يوجّهون في عصرنا الحاضر حكوماتنا ويجيرونها علي الاشتراك في الحروب والثورات، ماضين قدما في تحقيق مخططات الجنرال بابك، التي ترمي إلى الوصول بالعالم المسيحي بأسره إلي خوض حرب شاملة علي مستوي الأمة وعلي مستوي العالم كله.

 

وهناك العديد من الوثائق التي تبرهن بصورة قاطعة أن بابيك كان بدوره الرئيس الروحي للنظام الكهنوتي الشيطاني، مثل وايزهاوبت في عصره.. وبالإضافة إلى الرسالة التي كتبها لما زيني عام 1871، فقد وقعت رسالة أخري بأيد غريبة، وكان قد كتبها بتاريخ 14 تموز 1889 إلي رؤساء المجالس العليا التي شكلها سابقا.. وقد كتبت هذه الرسالة لتشرح أصول العقيدة الشيطانية فيما يتعلق بعبادة إبليس والشيطان.. وجاء ضمن ما قاله في هذه الرسالة:

 

"يجب أن نقول للجماهير إننا نؤمن بالله ونعبده، ولكن الإله الذي نعبده لا تفصلنا عنه الأوهام والخرافات.. ويجب علينا نحن الذين وصلنا إلي مراقب الإطلاع العليا أن تحتفظ بنقاء العقيدة الشيطانية.. نعم إن الشيطان هو الإله.. ولكن للأسف، فإن أدوناي (وهذا هو الاسم الذي يطلقه الشيطانيون علي الإله الذي نعبده) هو كذلك إله.. فالمطلق لا يمكن إلا أن يوجد كإلهين!!! 

 

وهكذا فإن الاعتقاد بوجود إبليس وحده هو كفر وهرطقة.. وأما الديانة الحقيقية والفلسفة الصافية فهي الإيمان بالشيطان كإله مساو لأدوناي.. و لكن الشيطان، وهو إله النور وإله الخير، يكافح من أجل الإنسانية ضد أدوناي إله الظلام والشر"!!!

 

ولا تذكر الكتابات المقدسة الشيطان إلا في مواضع قليلة "أشعيا 14، لوقا: 10".. ولكن العقيدة الشيطانية تنص بشكل قاطع علي أن الشيطان هو الذي قاد الثورة في السماء، وأن إبليس هو الابن الأكبر لأدوناي، وهو شقيق ميخائيل الذي هزم المؤامرة الشيطانية في السماء.. وتقول التعاليم الشيطانية إن ميخائيل قد نزل إلي الأرض بشخص يسوع لكي يكرر علي الأرض ما فعله في السماء، ولكنه فشل.. وبما أن الشيطان هو أبو الكذب فيظهر جليا أن قوي الظلام الروحية تلك تخدع أكبر عدد ممكن من هؤلاء الذين يدعون بالمثقفين لفعل ما يريدون، تماما كما فعلوا في السماء.

 

إن الدعاية التي بثها بين الجماهير موجهو المؤامرات الشيطانية، جعلت الرأي العام يعتقد أن خصوم المسيحية هم جميعا من الملحدين.. ولكن الحقيقة هي أن هذا كذب موجّه مقصود، والهدف منه تمويه المخططات السرية لكهّان المذهب الشيطانيّ، الذين يشرفون علي الكنيس الشيطانيّ ويوجهونه، بصورة يتمكّنون معها من منع الإنسانية من تطبيق دستور العدالة الإلهية في الأرض.. وهؤلاء الكهان يعملون في الظلام ويبقون دائما خلف الستار، يحافظون علي سرية شخصياتهم وأهدافهم حتى عن الأغلبية العظمي من أتباعهم المخدوعين.. ولقد أنبأتنا الكتابات المقدسة بأن مخططات مثل مخططات وايزهاوبت وبابك سوف توضع وتنفذ فعلا حتى يأتي اليوم الذي تستطيع فيه قوي الشر الروحية أن تسيطر علي الأرض.

 

وتخبرنا إحدى الآيات أنه بعد أن تمر الأحداث التي تكلمنا عنها، فإن الشيطان سيكون مقيدا لمدة ألف عام (((يتضح من هنا أنّ الكلام عن المسيخ الدجال، وليس عن إبليس.. وهذا اقرب للمنطق))).. وأنا لا أدعي معرفة ما تفيد هذه الآية بتحديدها هذه الفترة الزمنية أو مقدار هذه الفترة بمقاييسنا الإنسانية، ولكن ما يهمّني الآن هو أن دراسة المؤامرة الشيطانية علي ضوء ما ذكرته الكتابات المقدسة، أقنعتني أنه من الممكن أن يتم تقييد الشيطان واحتواء القوي الشيطانية بسرعة أكبر، إذا ما نشرت الحقيقة الكاملة فيما يختص بوجود المؤامرة الشيطانية المستمرة لكل الناس في كل الأمم المتبقية وبأكبر سرعة ممكنة.

 

بعيدا عن الجدل، يجب على أي مسيحي أن يعلم أن هناك قوتين خارقتين اثنتين، الأولي هي الله "وقد ذكرت له التوراة عدة أسماء"، والثانية هي الشيطان الذي له أيضا أسماء عدة.. والمهم الذي يجب أن نذكره، هو أنه حسب ما تقول رسالات الوحي، فان هناك يوم حساب نهائي.

 

وسيكسر إبليس القيد الذي قيده ألف عام وسيعود من جديد ليخلق الفوضى علي هذه الأرض.. وسيتدخل الله بعد ذلك إلي جانب النخبة وسيفصل بين الخراف والماعز".. ونحن نعلم أن الذين سيحيدون عن جانب الله سيحكمهم الشيطان أو إبليس بالفوضى والاضطراب الأبدي، حتى إنهم سيكرهون حاكمهم ويكرهون بعضهم البعض، لأنهم سيعلمون أنهم قد خدعوا لإبعادهم عن الله، وأنهم قد فقدوا محبته وصداقته إلي الأبد.

 

وفي عام 1952 نشر نيافة الكاردينال كارو دودريغز، أسقف مدينة سانتياغو عاصمة تشيلي، كتابا أسمه "نزع النقاب عن سر الماسونية"، شرح فيه كيف خلق النورانيون وأتباع الشيطان وإبليس جمعية سرية في قلب جمعية سرية أخري.. وأبرز في كتابة عددا كبيرا من الوثائق القاطعة التي تبرهن أنه حتى رؤساء الماسونية أنفسهم، أي الماسونيون من الدرجات 32، 33، يجهلون ما يدور في محافل الشرق الأكبر وفي المحافل المجددة التي أوجدها بابك، أي محافل الطقوس البالادية والمحافل الخاصة التابعة لها، التي يجري فيها تدريب النساء اللواتي سيصرن عضوات في المؤامرة العالمية وتلقينهن الأسرار.. واستشهد الكاردينال بالصفحة 108 من كتابة بالمرجع الثقة "مارجيوتا" ليبرهن أن ليمي Lemmi قبل أن يختار بابك لخلافة ما زيني كموجة للحركة الثورية العالمية، كان من أتباع إبليس الملتزمين والمتعصبين.

 

***

 

ويتطلب مخطط وايزهاوبت ما يلي:

1.    إلغاء كل الحكومات الوطنية.

2.    إلغاء مبدأ الإرث.

3.    إلغاء الملكية الخاصة.

4.    إلغاء الشعور الوطني.

5.  إلغاء المسكن العائلي الفردي، والحياة العائلية، وإلغاء فكرة كون الحياة العائلية الخلية التي تبني حولها الحضارات.

6.  إلغاء كل الأديان الموجودة، تمهيدا لمحاولة إحلال العقيدة الشيطانية ذات الطابع المطلق في الحكم وفرضها علي البشرية.

 

***

 

مركز قيادة المؤامرة:

 

كان مركز قيادة المؤامرة حتى أواخر القرن الثامن عشر في مدينة فرانكفورت بألمانيا، حيث تأسست أسرة روتشيلد واستقرت وضمت تحت سلطانها عددا من كبار الماليين العالميين الذين "باعوا ضمائرهم إلى الشيطان".. ثم نقل كهان النظام الشيطاني مركز قيادتهم إلي سويسرا، بعد أن فضحتهم حكومة بافاربا عام 1786، ولبثوا هناك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلوا إلي نيويورك وأصبح مركز قيادتهم في مبني هلرولد يرات.. وفي نيويورك حل آل روكفلر محل آل روتشيلد فيما يختص بعمليات التمويل.

 

***

 

والآن سأختم هذا المدخل بمقتطفات أقتبسها من محاضرة ألقاها أحد رؤساء المجالس الماسونية البالادية على أعضاء محفل الشرق الأكبر في باريس بفرنسا في بداية هذا القرن: 

 

"تم إنزال نسبة تطبيق قوانين "الجوييم" إلي أدني مستوي، وتم نسف هيبة القانون بواسطة التأويلات المتحررة التي أدخلناها في هذا المجال.. وسيحكم القضاة في المسائل الرئيسية المهمة حسب ما نملي عليهم: أي يحكمون علي ضوء القواعد التي نضعها لهم ليحكموا الجوييم بموجبها، ويتم ذلك بالطبع عن طريق أشخاص هم دمي بين أيدينا بالرغم من عدم وجود أية رابطة ظاهرية بيننا وبينهم.. وهناك حتى شيوخ وأعضاء في الإدارة يقبلون بمشورتنا".

 

هل يستطيع أي شخص عاقل أن ينكر أنه قد تم تطبيق المراحل المتوالية للمؤامرة كما صاغها وايزهاوبت في نهاية القرن الثامن عشر، وكما رسم الجنرال بابك مخططاتها في نهاية القرن التاسع عشر؟

 

لقد تحطمت الإمبراطوريتان الروسية والألمانية، وتحولت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية إلي قوي من الدرجة الثانية والثالثة، وتساقطت الرؤوس المتوجة (الملوك) كالثمار الناضجة.. وقد تم تقسيم العالم مرتين إلي معسكرين متنازعين، نتيجة للدعايات التي بثها النورانيون.. واشتعلت نيران حربين عالميتين سفك فيها العالم المسيحي الغربي دماء بعضه بعشرات الملايين، دون أن يكون لدي أي واحد من المشتركين في هذه المجازر أي سبب شخصيّ ضد أي من الآخرين!!.. وقد أصبحت الثورة الروسية والثورة الصينية أمرا واقعا، وتمت تنمية الشيوعية وتقويتها حتى أصبحت معادلة في القوة لمجموع العالم المسيحي الغربي.. أما في الشرقيين الأدنى والأقصى فالمؤامرة ماضية في التمهيد للحرب العالمية الثالثة!!

 

ويجب الآن وفي هذا الوقت بالذات إيقاف هذا المخطط، عن طريق إعلام الرأي العام العالمي بأن الكارثة الاجتماعية النهائية قادمة لا محالة، وسوف يتلوها الاستبعاد المطلق الجسدي والعقلي والروحي للإنسانية.

 

إن اتحاد الجمهور المسيحي Federation of Christ Layman الذي لي شرف رئاسته، قد وضع في متناول الجميع كل المعلومات التي استطاع الحصول عليها، لإلقاء الضوء علي الأوجه المختلفة للمؤامرة.. وقد نشرنا هذه المعلومات في كتابين هما "أحجار علي رقعة الشطرنج" و "ضباب أحمر يعلو أميركا"، بالإضافة إلي منشورات أخري.. ونحن إذ نتنبأ بالأحداث التي تلي نبني علي معرفتنا بالمؤامرة المستمرة، وقد تحققت هذه الأحداث إلي حد أنها أثارت اهتمام المفكرين في جميع أقطار العالم.

 

 

توقيع: وليام غاي كار

كليرواتر – فلوريدا

في 13 تشرين الأول "أكتوبر" 1958

 

 

 

المؤامرة لم تتوقّف لحظة:

 

من الجليّ أنّ معظم المخططات المذكورة أعلاه قد حدث في نصف القرن الماضي!

 

وحتّى الآن ما زلنا نرى مراحل المؤامرة تترى، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من غزو أفغانستان والعراق!

 

ولنرَ بعض الأصابع الخفية في غزو العراق:

 

كتب (عبد العزيز آل محمود) رئيس تحرير (الجزيرة نت):

 

"هاجمت وسائل الإعلام المستقلة كلا من إدارة الرئيس (بوش) ورئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) بسبب الكذب الذي استخدم لتبرير الحرب على العراق، وخصوصا الادعاءات بخصوص امتلاك بغداد لأسلحة الدمار الشامل التي قيل إن الرئيس العراقي السابق يستطيع أن ينشرها خلال خمسة وأربعين دقيقة من إصدار أوامره، ولم تجد قوات الاحتلال أيا من تلك الأسلحة المزعومة أو حتى وسائل إنتاجها!

 

لقد خرجت تلك الأكاذيب من خلية أنشأها اليهود في وسط الإدارة الاميركية، أسموها مكتب المخططات الخاصة، هذا المكتب يديره (إبرام شالسكي) بعدد لا يتعدى العشرين شخصا من اليهود الصهاينة، الذين يجمعون كل المعلومات ثم يحللونها، ويضيفون عليها ما يريدون من معلومات أو يشوهونها، ثم توضع على مكاتب صناع القرار في البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية وإدارة الأمن القوميّ.. وما قضية شراء العراق لليورانيوم من أفريقيا التي رددها بوش ووزير دفاعه رامسفيلد ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، والتي بسببها استقال رئيس المخابرات الاميركية، سوى لعبة من ألاعيب ذلك المكتب.

 

نشرت صحيفة the nation الأمريكية مقالا للكاتب روبرت درايفوس، ذكر فيه أن رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون قد انشأ مكتبا موازيا لمكتب المخططات الخاصة الأمريكي، وعلى اتصال مباشر به.. وقد نقل الكاتب عن سفير أمريكي سابق على صلة وثيقة بالمخابرات الاميركية، قوله إن هناك معلومات تصل عن طريق المعارضة العراقية في الخارج، من ضمنها المجلس الوطني العراقي الذي يرأسه احمد جلبي، الذي أكد للأمريكيين إن الشعب العراقي سيرحب بهم ترحيب المحررين وبأيد مفتوحة!!.. وبسبب اقتناع وزير الدفاع الأمريكي بما قاله الجلبي، خالف قادته العسكريين الذين كانوا يشكّون فيما يقوله ذلك المعارض، ولهذا السبب طلب القادة العسكريين المزيد من القوات لحفظ الأمن في المدن العراقية، لان أعداد العسكريون الأمريكيين لم تكن كافية!

 

ومن ضمن المعلومات المغلوطة التي تصل إلى مكتب المخططات الخاصة، تلك التي يرسلها مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون، الذي كان يدبلج تقارير مكتوبة باللغة الإنكليزية إلى شالسكي مباشرة.. وإحدى تلك الرسائل كانت تتهم العراق بمحاولة الحصول على اليورانيوم من النيجر.

 

بدأت أعين بعض المراقبين الغربيين تتفتح على معرفة كمية الكذب التي كانت تصل إلى رؤسائهم.. هذا الكذب الذي يصل مباشرة من إسرائيل أو يحرّف من قبل جماعة شالسكي.. وحتى المناصرين للمشروع الصهيوني بدأوا يتخوفون من سيطرة اليهود على مفاصل صناعة القرار في بيوت الحكم الاميركية والأوروبية.. وقد يكون هناك  من بدأ يكتب منتقدا تصرف اليهود وسوء أخلاقهم، كما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان الذي دعمهم بكل ما يملك، ثم أساؤوا معاملته بطريقة فجة وقحة.. وقد يكتشف بوش وبلير أنهما كانا أحجارا على رقعة شطرنج يحركهما يهودي لا يتمنى لهما ولا لشعبيهما ولا للعالم الخير!

 

  

 

 

 

 
3حركة الثورة العالمية

 

 يجب علينا أن ندرس التاريخ، لأن التاريخ فعلا يكرر نفسه، وذلك لأنّ هدف الصراع المستمر هو نفسه منذ أزمنة سحيقة.. الصراع الدائم القديم بين قوي الخير وقوي الشر، لتقدير ما إذا كانت إرادة الله العلي القدير هي التي ستسيطر، أم أن العالم سوف يعمّه الشر والفساد.

 

والواقع هو أن كلا من قوي الخير وقوي الشر، قد انقسمت بدورها إلى أحزاب متعددة، تتصارع فيما بينها في محاولتها الوصول إلي الهدف المشترك.. وهذه الخلافات في الرأي كانت نتاجا لوسائل الإعلام، التي كانت تستعمل لنشر الأكاذيب أو الحقائق الناقصة علي الجماهير، بدلا من أن تستغل لنقل الحقيقة الكاملة إليها فيما يتعلق بأية حادثة أو موضوع. 

 

وقد استخدم تجار الحروب وسائل الإعلام، لتقسيم الإنسانية إلي المعسكرات متناحرة لأسباب سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية، بحيث كان بإمكانهم دوما استثارة كل منها حتى يصلوا بهما إلي درجة الهيجان التي ينقص فيها بعضهم علي البعض الآخر ويُدمروا جميعا!

 

***

 

تثبت الدراسة المقارنة للأديان في الماضي انه وجد حتى عند أفراد القبائل المنعزلة حسا دينيا يدفعهم إلي المناقشة والتفكير في أسئلة مثل: لماذا ولدنا؟.. وما هو الهدف من حياتنا؟.. وما هي الغايات التي نخدمها و نسعى إليها؟.. وأين سنذهب بعد الموت؟.. حتى أكثر القبائل تأخرا في أفريقيا الوسطي وفي أستراليا، يبدو أنه لم يكن لديها شك حول وجود إله وعالم روحي وحياة أخري تذهب إليها النفوس بعد موت الأجساد الفانية.

 

كما تدلنا الدراسة المقارنة للأديان أن معظم الديانات التي تتناول تعاليمها الإيمان بإله علويّ، تنطلق من مبدأ نظامي سامٍ، يحثّ علي عبادة الله العليّ القدير، واحترام الوالدين والمسنين، ومحبة الجيران والمحسنين، والصلاة علي الموتى من الأقارب والأصدقاء.. ثم جاء الأشرار بأطماعهم وشهواتهم وشرورهم للتسلط بالقوة علي الآخرين، فهبطوا بالأديان من مستوياتها السامية المبدئية إلي المستوي الذي نراها فيه اليوم.. ولقد انحطت بعض الديانات لدرجة أن كهانها كانوا يقدمون القرابين البشرية للتقرب من الله!!.. وحتى المسيحية التي هي من أحدث الديانات، فقد هبطت وانحطت وانقسمت إلي عدد كبير من الشيع والمذاهب، حتى بات من العسير تصور تلك الأكثرية الساحقة من الذين يعلنون انتماءهم للمسيحية كجنود للمسيح!!

 

 وبصورة عامة، فان المسيحية قد انحدرت فيما يختص بأعمال الخير والصلاح.. في الماضي وجدت الألفة والمحبة وخلقت الوحدة والتماسك في الحظيرة المسيحية.. فالتعريف الحقيقي "للجار" هو أنه ذلك الشخص الذي برهن عن محبة وإحسان تجاهك، ويمكنك الاعتماد عليه.. وتحثنا الكتب المقدسة علي حب جيراننا كأنفسنا.. والوسيلة الوحيدة لصنع الجيران الطيبين هي في أن تقوم الأعمال الطبية من دون شعور بالأنانية، ففقدان أعمال الخير الفردية معناه فقدان روح الوحدة وروح التلاحم الجماعي السليم.

 

ولقد تبنينا في هذه الأيام طريقة باردة للقيام بالأعمال الصالحة، فنحن نترك القيام بالأعمال الخيّرة للموظفين القائمين علي مصالح المجتمع.. وهذا أشاع التعبير الذي يقول "بارد كالإحسان المهني"!!.. ومن الأفضل أن نتذكر أنه حق تشريعات الضمان الاجتماعي التي تقوم بها الحكومة لا تعفي الفرد من القيام بحقوق الجوار.. فالصلاة بدون العمل الصالح لا تجدي نفعا، وتقوم قوة المذهب الإلحادي علي ضعف الإيمان وتفكيكه.

 

ولسبب أو لآخر فإن المذاهب المسيحية تفقد سيطرتها بسرعة علي عنصر الشباب في البلدان المدعوة بالعالم الحر.. وكل شاب تفقده المسيحية يتحول عادة إلي العلمانية، وسرعان ما يصبح "رفيقا" في أحد المذاهب الإلحادية، الشيوعية أو النازية.

 

والغالبية العظمي ممن يعتنقون المسيحية ليسوا في الحقيقة "جنودا للمسيح"، بينما نجد أن علي كل منتسب إلي أحد الحزبين الشيوعي أو النازي أن يقسم يمين الولاء المطلق لقادته، وأن يخصص كل ساعة من ساعات يقظته للسير قدما بالقضية، وأن يساهم بعشر دخله لتمويل نشاطات الحزب.

 

***

 

وإذا استثنينا الملحدين وأتباع دارون، فإن معظم الناس يتقبّلون ما يسمي بقصة الخليفة. ولكن يبدو أن هناك اختلافات شاسعة في الآراء فيما يتعلق بقصة آدم وحواء وجنة عدن.

 

و ما يهم هنا، هو أن كل المخلوقات البشرية قد مُنحت قدرا من حرية الإرادة، يُمكّنها من تقرير ما إذا كانت تؤمن بوجود إله وشيطان، أم أنها تعتنق العقيدة الإلحادية المادية.. فمن آمن بوجود إله وشيطان فعليه أن يقرر لمن يتوجه بالخدمة والعبادة.. أما الملحد فيعتنق نظرية الحكم المطلق، ويتوجه بالولاء للحزب وللدولة.. أما عقوبة الانحراف فهي المعاناة والسجن وغالبا ما تكون الموت.

 

ونحن نري الملحدين ينفون نفيا قاطعا وجود القوي الغيبية، ويحتجون بأن الله نفسه لم يثبت وجوده حتى الآن.. وهناك العديد من فرق الملحدين: هناك الشيوعيون الحقيقيون، وهناك ماسونيو محفل الشرق الأكبر، وهناك المفكرون الأحرار، وهناك أعضاء الرابطة اللا ربانية، وهنك النورانيون والعدميون والفوضويون والنازيون الحقيقيون والمافيا.. وهناك غير المؤمنين الذين يخجلون من ممارسة النشاطات الإلحادية في المجموعات النازية والشيوعية، ولكنهم يتجهون إلي الانتماءات العلمانية متعددة الأشكال. 

 

ويقيم معظم الإلحاديين معتقداتهم علي المبدأ القائل بأن هناك حقيقة واحدة وهي المادة، وأن القوي العمياء لهذه المادة "ويسمونها أحيانا بالطاقة" قد تطورت حتى ظهرت علي شكل النبات فالحيوان فالإنسان.. وهم يُنكرون إطلاقا وجود الروح وإمكانية وجود حياة أخري بعد الموت.

 

 

 

الشيوعية والنازية:

 

تم تأسيس الشيوعية الحديثة عام 1773، من قبل مجموعة من سادة المال العالميين (بارونات المال)، واستعملوها منذئذ لإقامة دولة إلحادية العقيدة تقوم علي الدكتاتورية الشاملة.. وقد بيّن لينين ذلك بوضوح في كتابة "شيوعية الجناح اليساري"، إذ يقول في الصفحة 53 منه:

 

"إن نظريتنا ليست مذهبا عقائديا، بل هي أداه للعمل".

 

وكان كارل ماركس (1818 – 1883) ألمانيا من أصل يهودي.. وقد طرد من ألمانيا ثم فرنسا بسبب نشاطاته الثورية، فمنحته إنكلترا حتى اللجوء إليها.. وفي عام 1848 نشر ماركس "البيان الشيوعي".. وقد اعترف أن مخطط تحويل العالم إلي اتحاد جمهوريات اشتراكية سوفيتية قد يستغرق قرونا عديدة.

 

أما كارل ريتر (1779 – 1859) وهو ألماني أيضا، فقد كان أستاذا للتاريخ والعلوم الجيوسياسية.. وقد جاء بنظرية معاكسة " للبيان الشيوعي"، ووضع مخططا أعلن فيه أن باستطاعة العرق الآري أن يسيطر علي أوربا ثم علي العالم أجمع بعد ذلك.. وقد تبني عدد من الزعماء الآريين الملحدين مخطط ريتر، فأسسوا النازية لتحقيق هدف السيطرة علي العالم وتحويله غلي دولة إلحادية تخضع لدكتاتوريتهم الشاملة.

 

ويتفق زعماء كلتا المجموعتين الإلحاديتين علي سلطة الدولة، وعلي اعتبار رئيس الدولة إلها علي الأرض، وهذا المعتقد يضع موضع التنفيذ فكرة تأليه الإنسان.

 

واكتملت القناعة لدي كارل ريتر بعد دراساته التاريخية بأن حفنة من كبار الماليين العالميين الذين لا يدينون بالولاء لأي بلد ولكنهم يتدخلون في قضايا جميع البلدان، أسوا عام 1773 ماسونية الشرق الأكبر الحرة، بغرض استخدام حركة الثورة العالمية لتحقيق مطامحهم السرية.. وقد أعلن ريتر أن معظم هؤلاء الماليين العالميين ـ إن لم يكن كلهم ـ من اليهود أو من أصل يهوديّ، بصرف النظر هما إذا كانوا يمارسون بالفعل طقوس الدين اليهودي.

 

وقد ناقش ريتر في رده علي البيان الشيوعي لكارل ماركس، الأخطار التي ستنجم لو أذن العالم لهذه الحفنة من الرجال بالاستمرار في السيطرة السياسية علي الشيوعية العالمية وتوجبيها حسب مخططاتهم.. وأنهي ذلك بأن قدم إلي سادة الحرب الآريين الألمان اقتراحات واقعية وعملية لمكافحة مؤامرة بارونات المال العالميين، راسما لهم مخططا مقابلا للمخطط الأول في اتساعه وبعد أمده، ويستهدف بدوره السيطرة علي موارد العالم الطبيعية لمصلحة العرق الآري.

 

وأشار ريتر بتأسيس النازية واستعمال الفاشية "أي الاشتراكية الوطنية" كوسيلة لتحقيق مطامعهم بتخريب مخططات بارونات المال العالميين وغزو العالم.. وأشار إلي قضية أخري، وهي أنّ بارونات المال العالميين ينوون استعمال السامية في كل الأوجه لتحقيق مخططاتهم، ولذا فعلي الزعماء الآريين أن يستعملوا اللا سامية من كل وجوهها لتمضي قدما بالقضية الآرية.

 

وتضمن مخطط كارل ريتر المقترحات التالية:

 

1.  إخضاع جميع الأقطار الأوروبية لسيطرة ألمانيا.. وشدد ريتر علي أهمية إقناع الشعب الألماني بتفوقه الجسماني والعقلي علي الأجناس السامية.. وكانت هذه الفكرة هي النواة التي بني حولها رجال الإعلام الآري نظرية "العرق الألماني السيد".. وكانت هذه النظرية هي الوسيلة التي اتخذها هؤلاء لمجابهة دعايات الماليين العالميين، الذين كانوا يدعون أن الجنس السامي هو شعب الله المختار، وأنه هو الذي اختارته العناية الإلهية ليرث هذه الأرض.. وهكذا انقسم الملايين من البشر إلي معسكرين متجابهين.

 

2.  وأوصي كارل ريتر باتباع سياسة مالية معينة ت منع أصحاب المصارف العالميين من السيطرة علي اقتصاديات ألمانيا (مثلما سيطر هؤلاء علي اقتصاديات إنكلترا وفرنسا وأميركا). 

 

3.  وأوصي ريتر بإنشاء طابور خامس نازي لمجابهة التنظيمات الشيوعية السرية، هدفه إقناع الطبقات العليا والوسطي في البلدان التي تنوي ألمانيا إخضاعها، بأن الفاشية هي الوسيلة الوحيدة المؤهلة لمجابهة الشيوعية، واستقبال الجيوش الألمانية علي أنها الحامية لتلك الأقطار من الخطر الشيوعي.

 

4.  وأوصي ريتر بتدمير الشيوعية تدميرا كاملا، واستئصال شافة العرق اليهودي عن بكرة أبيه، لكي يتمكن الزعماء الآريون من التوصل للسيطرة الكاملة علي القضايا والأمور العالمية.

 

***

 

إن الصراع والتصميم للسيطرة علي العالم، يتيح لكل من زعماء الكتلتين الإلحاديتين أن يحيكوا أخبث المؤامرات، وأن يرتكبوا كل أنواع الجرائم من الاغتيال الفردي إلي الإبادة الجماعية.. وهم يثيرون الحروب لمجرد إنهاك الأمم التي ينوون إخضاعها.

 

وتدل الدراسة المقارنة للأديان، أن النازية والشيوعية لا تمكن مقارنتهما بأي شكل من الأشكال بأي من الأديان التي تنادي بالإيمان بالله العليّ القدير.. وقد يسمح الزعماء الملحدون في البلدان المخضعة بممارسة الأديان التي تقوم علي تعاليم الأيمان بالله لفترة من الوقت، ولكنهم لا يسمحون لرجال الدين بالعمل إلا علي هامش المجتمع.. ولذلك فهم يمنعون رجال الدين من ممارسة أي نفوذ أو توجيه للسلوك الاجتماعي أو السياسي لأبناء طوائفهم.. والهدف الأبعد لكل من العقيدتين الإلحاديتين، هو أن يمحوا من عقول البشر أية معرفة بوجود الله السامي أو بوجود الروح أو بالحياة الأخرى.. وهم يستخدمون لذلك ما أمكنهم من الوسائل، كالقتل وبرامج غسل الدماغ المستمرة والتي تنفذ بإحكام.. وإذا ما عرفنا هذه الحقائق أدركنا تماما أن أي كلام عن تعايش سلمي بين المؤمنين والملحدين إما أن يكون هراء مطلقا أو نوعا من الدعاية والإعلام.

 

***

 

إن ابسط وسيلة لفهم ما يجري في عالمنا الحاضر هو دراسة أحداث التاريخ علي ضوء ما ذكرناه أي علي اعتبار نقلات في لعبة الشطرنج العالمية.. ولقد قسم زعماء النورانيين العالم إلي معسكرين، واستعملوا الملكات والملوك والرهبان والفرسان، تماما كما يحدث في لعبة الشطرنج.. واستعملوا جماهير الناس بيادق في اللعبة.. وتدفعهم سياساتهم القاسية التي لا تعرف الرحمة إلي اعتبار الناس مجرد أحجار يمكن التصرف بها، فهم قد يضحون بقطعة كبيرة أو بمليون من البيادق إذا كان يقربهم ولو خطوة إلي هدفهم النهائي، السيطرة الطاغية للشيطان.

 

ونقل عن لسان البروفيسور ريتر، أن المرحلة الحاضرة من المؤامرة انطلقت من مصرف آمشيل مايروباور (الشهير بروتشيلد) والواقع في فرانكفورت بألمانيا، حيث اجتمع ثلاثة عشر من كبار تجار الذهب والفضة، وقرروا أزالة كل الرؤوس المتوجة في أوروبا، وتدمير كل الحكومات الموجودة، وإزالة كل الأديان المنظّمة، قبل أن يباشروا في تأمين سلطتهم المطلقة علي الثروات والموارد الطبيعية والبشرية في العالم بأسره، ومن ثَمّ يقيمون حكم الشيطان الطغياني.. وكان في مخططهم استعمال مبادئ مادية التاريخ والديالكتيكية للمضي في تنفيذ مشاريعهم.

 

وعندما يخامر أدني شك تلك القوي الخفية، أن أحد آلاتهم من الزعماء يعرف أكثر مما ينبغي، يأمرون بتصفيته فورا.. من أجل هذا دُبّرت حوادث الاغتيال الفردية والكثير من الثورات والحروب التي أزهقت عشرات الأرواح البشرية بالإضافة إلي الملايين من المشردين.. ومن العسير علي أي قائد عسكري أن يأتي بتبرير لحادث إلقاء القنبلة الذرية علي هيروشيما أو ناغازاكي، حيث قتل مئة ألف شخص في غمضة عين، وأصيب ما يقرب من ضعف هذا العديد بجراح خطيرة.. كانت القوات اليابانية قد هزمت، وكانت قضية التسليم مسألة ساعات أو أيام، ولم يكن هناك أي داع لتنفيذ مثل هذا العمل الجهنميّ.. والتعليل المنطقي الوحيد هو أن القوي الخفية قد قررت استعراض هذا السلاح الأحدث بين أسلحة الدمار، لتذكير ستالين بما يمكن أن يحدث إذا ما تمادي في مطالبه.. وهذا هو العذر الوحيد، وهو لا يشكل حتى مجرّد شبه تبرير لهذه الجريمة الشنعاء التي ارتكبت ضد الإنسانية.

 

 ولكن القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية لم تعودا الآن أشد الأسلحة المدمرة فتكا.. إن غاز الأعصاب الذي شرعت الكتلتان الشيوعية والرأسمالية بتجميعه في المخازن قادر علي مسح كل المخلوقات الحية من علي وجه الأرض.. إن إفناء كل أثر للحياة البشرية في منطقة ما، أصبح الآن يخضع للمتطلبات العسكرية والاقتصادية التي تخدم أهدافهم.

 

وتستطيع القوات الغازية بعد أيام قليلة من استعمال الغاز، اجتياز المناطق الملوثة دون ما خطر، وستكون هذه المناطق آنئذ مناطق أموات، بيد أن الأبنية والآلات تبقي سليمة دون مساس.

 

***

 

كتب أدمون بورك ذات مرة: "كل ما تحتاج إليه قوي الشر لتنتصر هو أن يمكث أنصار الخير بدون عمل ما".. وإنها لحقيقة كبيرة تلك التي كتبها بورك. 

 

إن دراسة الأديان المقارنة، بالعلاقة مع الظروف التي نخبرها اليوم، تسلم الدارس غير المتحيز إلي الاستنتاج الذي يقول أن هؤلاء الذين يؤمنون بالله والحياة الأخرى ينعمون بعقيدة قائمة علي الحب والأمل، أما الإلحاد فيقوم علي الحقد واليأس الأسود.. ولم يحدث في التاريخ أن شهد العالم محاولة لإدخال العلمانية إلى حياتنا كما حدث سنة 1846، حينما أصر هوليوك وبراد لو وأمثالهما علي رأيهم القائل إن اهتمامات الإنسان يجب أن تقتصر علي مصالحة الحياتية الحاضرة.

 

ودعاة العلمانية هؤلاء هم السابقون لهذا القطيع من الرسل المزيفين وأشباه المسيح من مثل كارل ماركس وكارل ريتر ولينين وستالين وهلتر وموسوليني.. لقد خدع هؤلاء الملايين من البشر بالإمارات والعجائب التي صنعوها، كما خدعوا العديد من المسيحيين المؤمنين الذين كان عليهم أن يكونوا أكثر فهما وإدراكا.  

 

 

 

 
4اليهود

 

 أصل اليهود:

 

نحن نطلق اليوم اسم اليهودي بشكل عام علي كل شخص اعتنق يوما الدين اليهودي.. والواقع هو أن الكثيرين من هؤلاء ليسوا ساميين من حيث الأصل العرقي، ذلك أن عددا ضخما منهم منحدرون من سلالات الهيروديين أو الأيدوميين ذوي الدم التركي المنغولي.

 

شرعت الأعراق غير الساميّة والتركية والفنلندية في القدوم إلي أوربا، قادمة من آسيا منذ القرن الأول الميلادي، عبر الممر الأرضي الواقع شمالي بحر قزوين.. ويطلق علي هذه الشعوب الوثنية اسم "الخرز".. وقد استقروا في أقصي الشرق من أوروبا، حيث شكلوا مملكة الخرز القوية، ثم بسطوا سلطانهم شيئا فشينا بواسطة الغزوات المتكررة، حتى سيطروا في نهاية القرن الثاني علي معظم المناطق الواقعة في أوروبا الشرقية غربي جبال الأورال وشمالي البحر الأسود.

 

وقد اعتنق الخرز اليهودية آنئذ، مفضلين إياها علي المسيحية أو الإسلام، وبنوا الكنائس والمدارس لتعليم الدين اليهودي في سائر أنحاء مملكتهم.. وكان الخرز إبان ذروة قوتهم يجبون الجزية من خمسة وعشرين شعبا قهروهم.

 

وقد عاشت دولة الخرز ما يقارب الخمسمئة عام، حتى سقطت في نهاية القرن الثالث عشر في أيدي الروس الذين هاجموهم من الشمال.

 

وقد انتقلت الروح الثورية من الخرز اليهود إلي الإمبراطورية الروسية، واستمرت حتى ثورة تشرين الأول الحمراء سنة 1917.

 

إن غزو الخرز في القرن الثالث عشر يبيّن لنا أن الكثير من الناس الذين نطلق عليهم اسم اليهود قد بقوا في الواقع داخل الإمبراطورية الروسية.

 

والحقيقة الأخرى هي أن الفنلنديين والمجموعات الأخرى التي تصنف تحت الجنس الروسي، لم تكن من أصل آري.. وقد اعتبرها الشعب الألماني أعداء وعاملها علي هذا الأساس.

 

 

 

المرابون:

 

سيرة حياه المسيح ترينا أنه أحب كل الناس ماعدا مجموعة واحدة خاصة.. لقد كره المرابين بعنف يبدو صدوره غربيا من رجل له مثل وداعه المسيح.. وهاجمهم بقوة مرات متكررة لأكلهم الربا، وفضحهم ووسمهم بعبادة المال، وقال عنهم: إنهم من كنيس الشيطان.. وجاء التعبير القويّ عن كره المسيح لصرافي النقود، عندما أخذ السوط وطردهم خارج الهيكل، مقرعا إياهم بهذه الكلمات: "كان هذا الهيكل بيتا للرب.. ولكنكم حولتموه إلي مغارة للصوص".. وبقيام المسيح بهذا العمل الانتقاميّ ضد صرافي النقود، كان يوقع وثيقة موته بنفسه.

 

ويرينا التاريخ أن صرافي النقود العالميين أخذوا يستعملون الغوغاء في مخططاتهم السرية.. إن النورانيون يوجهون كل القوي الشريرة في العالم.

 

يثبت التاريخ أن سينيكا الفيلسوف والمصلح الروماني (4 ق.م ـ 65 م) قد مات لأنه حاول ـ كما فعل المسيح من قبله ـ فضح العمليات الفاسدة والنفوذ الشرير اللذين يمارسهما المرابون الذين تسربوا إلي روما.. وكان سينيكا مربي نيترون ومعلمه الخاص، وعندما أصبح هذا إمبراطورا لبث الفيلسوف مستشاره وصديقة المخلص.. ولكن نيترون ما لبث أن تزوج من يوبايا التي أوقعته في حبائل المرابين الأشرار.. وهكذا أصبح نيترون واحدا من أسوأ حكام التاريخ سمعة، وانحدرت شخصيته إلي الدرك الأسفل من السفالة واللؤم، حتى إنه ما كان يعيش إلا لتحطيم كل شيء صالح، وأخذت أعماله الانتقامية تأخذ شكل العدوان العلني.. وهكذا فقد سينيكا كل تأثير كان له علي نيترون ولكنه لم يتوقف أبدا عن التقريع العلني للمرابين بسبب نفوذهم الشرير وممارستهم الفاسدة.

 

وفي النهاية طالب المرابون نيترون أن يتخذ الإجراء الذي يسكت سنيكا الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة.. وهكذا أمر نيترون سنيكا أن ينهي حياته بنفسه!

 

كانت تلك أول حاله شهيرة أجبر فيها المرابون شخصية شرعت في إثارة المتاعب بوجههم، علي الانتحار، ولكنها لم تكن الحالة الأخيرة إذ تجد عبر التاريخ عددا من قصص الانتحار المماثلة وجرائم القتل التي أضفي عليها طابع الحوادث أو الانتحار.

 

إن قضية جيمس فورستال هي واحدة من أسوء الأمثلة علي ذلك في السنوات الأخيرة.. في عام 1945 كان اقتناع فورستال يتجه إلي أن أصحاب المصارف الأميركيين يشكلون خفية جماعة واحدة، مع أصحاب المصارف العالميين الذين يسيطرون علي ماليات فرنسا وإنكلترا وسائر الدول.. واقتنع، كما تقول مذكراته، أن بارونات المال العالميين كانوا هم المسئولين المباشرين عن اندلاع نيران الحربين العالميتين الأولي والثانية.. ولقد حاول إقناع الرئيس روزفلت وسائر رسميي الحكومة علي أعلي المستويات بهذه الحقيقة.. ولا نعلم بعد ذلك ما إذا كان قد فشل في ذلك وانتحر نتيجة ليأسه، أم أنه قد اغتيل لإطباق فمه إلي الأبد.. وقد أصبحت عمليات القتل التي يُضفي عليها طابع الانتحار وسيلة سياسية مقبولة في المؤامرات العالمية عبر القرون.

 

 

 

الاحتكارات اليهودية في التاريخ:

 

أصدر الإمبراطور الروماني يوستنيافوس الأول (483 – 565 م) قانونه المعروف باسم "القوانين المدنية"، والذي حاول فيه وضع حد للأعمال غير المشروعة التي كان التجار اليهود يلجأون إليها في التجارة والمبادلات.. ولكن التجار اليهود لم يكونوا سوي عملاء للنورانيين، وقد تمكنوا بواسطة التجارة غير المشروعة وعمليات التهريب واسعة النطاق الحصول علي امتيازات مجحفة علي غيرهم من اتجار، وهكذا تمكنوا من إفلاسهم وإخراجهم من ساحة العمل.. وقد بقي قانون يوستنيانوس حتى القرن العاشر المصدر الحقوقي الأساسي، ولا يزال يعتبر حتى يومنا هذا من أهم المراجع في الحقوق والأحكام.. ولكن المرابين استطاعوا بدهائهم أن يقلبوا الخير الذي كان يوستنيانوس في سبيل القيام به.. وتصف موسوعة فنك أند واغناز Funk and Wagnalls اليهودية وضع التجار اليهود في تلك الأيام كما يلي: "لقد تمتع اليهود آنئذ بكامل حريتهم الدينية، حتى إن بعض المراكز الصغرى في الدولة كانت مفتوحة لهم.. وكانت تجارة العبيد تشكل المصدر الأول لثروة بعض اليهود الرومانيين، ولكن قوانين عديدة صدرت لمحاربة هذه التجارة في السنوات 335 و336 و384 م".

 

ويكشف لنا التاريخ أن التجار اليهود وصرافي النقود لم يقتصروا في أعمالهم غير المشروعة علي تجارة العبيد، بل كانوا ينظمون ويحتكرون التجارات الفاسدة، من مخدرات ودعارة وتهريب المسكرات والعطور والجواهر والبضائع الثمينة الأخرى.. وتأمينا لمصالحهم وحماية لعملياتهم غير المشروعة، كانوا يلجأون إلي الرشوة وشراء ذمم المسؤولين الكبار.. وهكذا استطاعوا بواسطة المخدرات والمسكرات والنساء تقويض أخلاق الشعب.. ويسجل التاريخ أن يوستنيانوس، وهو إمبراطور روما القوي، لم يكن بالقوة الكافية لوضع حد لتلك النشاطات.

 

وقد بحث المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون (1737 – 1794) في التأثيرات المفسدة للتجار والمرابين اليهود، ووصفهم بأنه كانت لهم يد طولي في "انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية".. وكان هذا هو عنوان كتابه.. وتحدث جيبون بإسهاب عن الدور الذي لعبته بوبابا زوجة نيترون، في التمهيد لتلك الظروف التي جعلت الشعب الروماني ينظر كالمخمور بدون مبالاة إلي انهياره السريع وتحطمه.. وبسقوط الإمبراطورية الرومانية تأسست السيطرة اليهودية، ودخلت أوروبا ما يدعوه المؤرخون "بالعصور المظلمة". 

 

وتقول الموسوعة البريطانية حول هذا الموضوع ما يلي: "كان لدي التجار والمرابين اليهود ميل شديد للتخصص بالتجارة، وكان مما ساعدهم علي الامتياز في ذلك الحقل، مهارتهم وانتشارهم في كل مكان.. وكان معظم تجارة أوروبا في العصور المظلمة في أيديهم، وخاصة تجارة الرقيق".


 

ونستطيع أن نلمس آثار تلك السيطرة اليهودية المطلقة، حين نري مثلا قطع عمله قديمة بولونية وهنغارية تحمل نقوشا يهودية.. ويكشف لنا إلحاح اليهود بهذه الصورة للسيطرة علي النقد وجعل إصدار العملة في أيديهم، أن المرابين اليهود اعتنقوا منذ تلك الأزمنة الشعار الذي اشتهر به بعد ذلك (آمشل ماير باورر (1743 – 1812 م) وهو: "دعنا نتول إصدار النقد في أمة من الأمم والأشراف عليه، ولا يهمنا بعد ذلك من الذي يسنّ القوانين لهذه الأمة"!!

 

وقد طرح آمشل ماير باورر هذا الشعار علي شركائه، ليشرح لهم جوهر الدافع الذي حدا بالمرابين اليهود السعي للحصول علي السيطرة علي مصرف إنكلترا عام 1694.

 

 

 

الحروب الصليبية:

 

صمم البارونات ـ وهم الذين كانوا رؤوس الآرية ـ علي كسر الاحتكار اليهودي في التجارة و العملة والمبادلات في أوروبا.. وكان هذا هو الدافع الحقيقي لقيامهم عام 1095 بالحصول علي بركة بعض الزعماء المسيحيين لشن الحروب الصليبية أو الحروب المقدسة.

 

وبين عامي1095 و 1271 نظّمت ثماني حملات صليبية، الهدف الظاهر لها هو حماية الحجاج المسيحيين إلي مهد المسيح، وإقامة الحكم المسيحي في فلسطين.. أما حقيقة الواقع فهي أنها كانت حروبا لتقسيم سكان أوروبا إلي معسكرين متناحرين: الأول مع اليهود والثاني ضدهم. 

 

عام 1215 عقدت الكنيسة الكاثوليكية المؤتمر المسكوني الرابع، وكان الموضوع الأساسيّ قيد الدرس هو التعديات اليهودية في سائر الأقطار الأوروبية.. خلال هذه الحقبة من التاريخ كان زعماء الكنيسة وزعماء الدول يعملون متحدين.. ولقد عبر زعماء الكنيسة عن رضاهم التام لجانب استمرار الحملات الصليبية.. وأصدروا كذلك المراسيم والقرارات للحد من الربا الفاحش الذي كان اليهود يمارسونه.. وللتوصل إلي ذلك أصدرت مراسيم تقضي بتحديد إقامة اليهود في المستقبل بأحيائهم الخاصة، كما منعوا إطلاقا من استخدام المسيحيين لديهم كأجراء أو توكيلهم في معاملاتهم، وذلك لمنع المرابين والتجار اليهود من اتخاذ المسيحيين واجهات لهم في أعمالهم، فقد كانوا يعقدون الصفقات المشبوهة بواسطة بعض العملاء المسيحيين، الذين كانوا يتحملون الوزر والعقوبة حين افتضاح الأمور.. كما حظرت القوانين علي اليهود استخدام المسيحيات في منازلهم أو مؤسساتهم، فقد كانوا يغوون تلك الفتيات ويحولونهن إلي عاهرات، يستعملونهن في الحصول علي المال والنفوذ.. ومنعت قوانين أخرى بعد ذلك اليهود من ممارسة بعض العمليات التجارية.. ولكن الكنيسة بكل سلطانها، مدعومة بزعماء الدول، لم تستطيع أن تخضع سادة المال للقوانين.. وساهمت تلك القوانين في إذكاء نار حقد النورانيين علي كنيسة المسيح، وشرعوا في التخطيط لإضعاف الكنيسة وفصلها عن الدولة.. وللوصول إلي هذا الهدف، أخذ النورانيون يبثّون بين العامة فكرة العلمانية واللا دينية.

 

 

ملاحقة اليهود في أوروبا:

عام 1253 عمدت الحكومة الفرنسية إلي حل جذريّ لمشكلة اليهود، فطرتهم جميعا لمخالفتهم القوانين، فاتجه قسم كبير من المطرودين إلي إنكلترا التي ألجأتهم.. وحتى عام 1255 كان اليهود قد تمكنوا من السيطرة علي عدد من كبار الرجال السلك الكنسي الإنكليزيّ، وعلي الكثير من النبلاء والسادة الإقطاعيين.. وكان هؤلاء المرابون ومن يسمونهم حكماء اليهود ينتمون إلي النورانيين.. وقد تم اكتشاف ذلك خلال التحقيق الذي أمر الملك هنري الثالث بإجرائه، في فضائح الاحتيال والرشوة والجرائم التي فاحت روائحها، بعد مقتل سان هيوأوف لينكولن عام 1255.. وقد أثبتت التحقيق أن ثمانية عشر يهوديا كانوا هم الذين ينظمون تلك العمليات فقدموا إلي المحاكمة، وحكم عليهم بالإعدام.

 

مات الملك هنري عام 1272، وخلفه علي عرش إنكلترا الملك إدوار الأول، الذي أصدر أمرا حرم بموجبة علي اليهود ممارسة الربا.. ثم استصدر من البرلمان عام 1275 قوانين خاصة سميت "الأنظمة الخاصة باليهود".. وكان الهدف منها تقليص سيطرة المرابين اليهود علي كافة مدينيهم، ليس فقط من المسيحيين بل حتى من الفقراء اليهود أنفسهم.. ولا يمكن وصمم هذه الأنظمة بأنها معادية للسامية لأنها حمت فيمن حمت اليهود المتقيدين بالقوانين.

 

وقد ظن المرابون اليهود أنهم في هذه المرة أيضا، سيتمكنون من تحدي أوامر الملك.. وكان خطؤهم كبيرا، إذ أن الملك عمد إلي إصدار قانون بطرد جميع اليهود من إنكلترا.. وكان ذلك بدء المرحلة التي يسميها المؤرخون "الإجلاء الأكبر".

 

بعد أن خطا الملك إدوار الخطوة الأولى، سارع ملوك ورؤساء أوروبا إلي الإقتداء به.

 

عام 1306 طردت فرنسا اليهود، وتبعتها سكسونيا عام 1348، وهنغاريا عام 1360، وبلجيكا عام 1370، وسلوفاكيا عام 1380، والنمسا عام 1430، والأراضي المنخفضة (هولندا) عام 1444، وأخيرا أسبانيا عام 1492.

 

ويتخذ طرد اليهود من أسبانيا أهمية خاصة.. ففي القرن الرابع عشر تمكن المرابون اليهود للمرة الأولي من جعل الحكومة الإسبانية تمنحهم حقّ جباية الضرائب من الشعب مباشرة، كضمان للقروض التي كانوا يقدّمونها للحكومة.. واستغل المرابون اليهود هذا الوضع أبشع استغلال، وأبدوا من القسوة والوحشية في طلب "أقّة اللحم" من الأهالي ما ملأ أفئدتهم بالحقد والغضب، بحيث أضحت شرارة واحدة كافية لتفجير النقمة.. فكانت هذه الشرارة في الخطابات اللاهية التي ألقاها فرناندو مارتسنسز، والتي هبّ علي أثرها الشعب لارتكاب واحدة من أكثر المجازر المعروفة دموية.. وهذا أحد الأمثلة التي دفع فيها اليهود الأبرياء جزاء سياسة زعمائهم المجرمة بحق الإنسانية.

 

وقد طرد اليهود من ليتوانيا عام 1495، ومن البرتغال عام 1498، ومن إيطاليا عام 1540، ومن بافاريا عام 1551.

 

وتجدر الإشارة هنا إلي أنه خلال هذه الإجراءات، كان بعض المتمولين والمتقنفذين من اليهود، يتدبرون أمر الحصول علي ملاجئ وسكن لهم في بوردو وأفينيون، وبعض الممتلكات البابوية، وفي مرسيليا وشمالي الألزاس وقسم من إيطاليا الشمالية.. وكان الأمر كما تقول الموسوعة البريطانية: "ووجدت جماهير اليهود نفسها تصب ثانية في طريق الشرق، وعلي الأخص في الإمبراطوريتين البولونية والتركية.. أما الجاليات الضئيلة التي فضّلت معاناة البقاء في الغرب، فقد كانت خاضعة لكافة القيود التي كانت مفروضة عليها في المرحلة السابقة".

 

وهكذا يمكن القول بأن العصور المظلمة لدي اليهود بدأت مع بشائر عصر النهضة في أوروبا.. وهذه الحقيقة تدعم صحة النظرية التي يقول بها بعض المؤرخين والتي فحواها أن أمم أوروبا لم تستطيع البدء بعصر النهضة والازدهار، إلا بعد أن تمكنت من تحرير نفسها من براثن السيطرة الاقتصادية اليهودية.

 

حُصرت الجاليات اليهودية في أوروبا بعد حركات التهجير الكبرى، داخل أحيائها التي سميت بالجيتو، والتي يسميها اليهود الكاحل، حيث فرض علي اليهود أن يعيشوا معزولين عن جماهير الشعوب، يحكمهم حاخاماتهم أو حكماؤهم، الذين كانوا بدورهم خاضعين لتوجيهات النورانيين وكبار المرابين اليهود، الذين لبثوا في مراكزهم التي تمكنوا من الحصول عليها في بعض المدن الأوروبية.. وكان عملاء النورانيين منبثين في أحياء الجيتو، ينفثون سموم الحقد والكراهية وروح الانتقام في قلوب الجماهير اليهودية، من أولئك الذين هجروهم وعزلوهم.. كما كان الحاخامين بدورهم يلقنوهم أنهم "شعب الله المختار"، وأن يوم الانتقام آت دون ريب، وسيرثون الأرض ومن عليها.

 

وتجدر هنا الإشارة إلي أن معظم اليهود الذين انتقلوا إلي أوروبا الشرقية، فرض عليهم بدورهم العيش في "مناطق الإقامة" التي سمح لهم بها، والواقعة بصورة عامة علي الحدود الغربية لروسيا، من سواحل البحر البلطيقي في الشمال حتى سواحل البحر الأسود في الجنوب.. وكان معظمهم من اليهود الخرز في الأصل.. ويشتهر الخرز من اليهود بثقافتهم المعروفة بـ "اليديش" (وهو اسم لغتهم التي يتكاملون بها)،  كما يعرفون بخبثهم وبخلهم الشديد، وأساليبهم المنحطة في الأمور المالية، وأخلاقهم الدنيئة.. ويجب أن نميز هنا بينهم وبين العبرانيين القدماء الذين ذكرتهم التوراة، فهؤلاء كانوا من الرعاة المهذبين في الغالب.

 

كان عملاء النورانيين داخل أحياء الجيتو يذكون نار الحقد ورغبة الانتقام.. وأخذوا بتنظيم واستغلال هذه الظروف، حتى تحولت إلي حركة ثورية عالمية، هدفها الرعب والتخريب.

 

 

 

نشوء السوق السوداء في أوروبا

 

طور سادة المال هذه الحركة الثورية، حتى حولوها إلي الشيوعية العالمية التي نعرفها اليوم.. كانوا ينظمون أعمال العنف الفردية حتى أصبحت حركة ثورية منظمة ووضعوا فيما بعد خطة منظمة لعودة اليهود للبلاد التي طردوا منها عن طريق التسلل، حيث إنهم كانوا ممنوعين قانونيا من الرجوع إلي تلك البلاد.. وحيث إنهم كانوا ممنوعين من الإقامة والحصول علي وظيفة، فقد زودوا بمبالغ وأرصدة لإنشاء نظام السوق السوداء، ومارسوا في هذه الأسواق كل أنواع التجارات والمبادلات المحرمة.. وكانوا يعملون حسب منهج الشركة الاحتكارية الخفية، مما أتاح لبارونات المال الذين يمولون هذه الشبكات أن يبقوا في الخفاء.

 

وقد اتجهت شكوك عدد من المؤلفين والمؤرخين ـ أمثال الكونت دي بونسين والسيدة نيستا وبستر والسير والترسكوت ـ إلى أن النورانيين كانوا هم القوة الخفية وراء حركة الثورة العالمية.. يقول الكاتبان وليم فوس وسيسيل غيراهتي في كتابهما "الحلبة الإسبانية": "إن مسألة معرفة من هم الزعماء الحقيقيون للشركة الاحتكارية الخفية التي تسيطر علي العالم وكيف يصل هؤلاء إلي أهدافهم، هي مسألة خارج مجال هذا الكتاب.. ولكنها ستبقي واحدة من أهم المسائل التي يجب أن تحل.. والذي سيتمكن من كشف هذا اللغز يوما ونشره علي الناس، سيكون رجلا من الشجاعة في القمة، وسيعتبر أن حياته لا قيمة لها إذا ما قيست بالواجب الذي ينتظره، وهو تنبيه العالم ألي ما تبنته جماعة الشيطان الذين نصبوا أنفسهم كهنة لدين خفي يريدون فرضه علي العالم".

 

إننا نستطيع الحكم علي نجاح مخطط تسلل اليهود إلي البلاد التي طردوا منها، بدراستنا للوقائع التالية: فقد عاد اليهود إلي إنكلترا عام 1600م، وإلى هنغافوريا سنة 1500 ولكنهم طردوا منها ثانية عام 1582.. وعادوا إلى سلوفاكيا سنة 1562 ليطردوا منها عام 1744.. وعادوا إلي ليتوانيا عام 1700.. وبصرف النظر عن عدد المرات التي طردوا فيها، فإنهم في كل مرة كانوا يتركون وراءهم الشبكات الخفية التي كانت تدير وتخطط النشاطات الثورية والاضطرابات للقوي الخفية.  

 

 

 

 
5النورانيون

 

من المعروف إن حاخامي اليهود، يزعمون لأنفسهم السلطة المطلقة في تفسير ما يسمونه المعاني السرية للكتابات المقدسة، وذلك بواسطة إلهام إلهي خاص.. وليس لهذا الادعاء أهمية تذكر في حد ذاته، إذا لم يكن بيد هؤلاء جمعية بوسيلة ليضعوا ما تلقوه في الوحي موضع التنفيذ.. وهكذا اجتمع عدد من المرابين وكبار الحاخامين والمديرين والحكماء، وقرروا أن يؤسسوا مجمعا سريا يعمل علي تحقيق أغراضهم، وأسموه "المجتمع النوراني" The Illuminati.. وكلمة نوراني مشتقة من كلمة "لو سيفر" Lucifer التي تعني "حامل الضوء" أو "الكائن الفائق الضياء".. وهكذا، فإن المجمع النورانيّ قد أنشئ لتنفيذ طقوسهم الخاصة.. وهكذا نري صوابية تسمية المسيح لهم بكنيس الشيطان.

 

وكان المجلس الأعلى للمجمع النورانيّ مؤلفا من ثلاثة عشر عضوا.. ويشكل هؤلاء اللجنة التنفيذية لمجلس "الثلاثة وثلاثين".

 

ويدّعي رؤوس المجمع النوراني اليهوديّ امتلاك المعرفة السامية، فيما يتعلق بشؤون الدين والعقائد والاحتفالات الدينية والطقوس.. وكان هؤلاء هم الذين صمموا العقيدة الإلحادية المادّية، التي نشرت عام 1848 في "البيان الشيوعي" الذي كتبه كارل ماركس.

 

كان عم ماركس حاخاما من حاخامات اليهود، ولكنه انفصل رسميا من السلك الكهنوتي الأعلى.. وهكذا نجد أن اليهود يعودون مرة أخري إلي مبدأ الشركة الخفية. 

 

 

شعار النورانيين:

 

الهرم:

يرمز إلي المؤامرة الهادفة إلي تحطيم الكنيسة الكاثوليكية ـ كممثلة للمسيحية العالمية ـ وإقامة حكم ديكتاتوري تتولاه حكومة عالمية علي نمط الأمم المتحدة.

 

العين التي في أعلي الهرم ترسل الإشعاعات في جميع الجهات: 

 

ترمز إلي وكالة تجسس وإرهاب ـ علي نمط الجستابو ـ أسسها وايزهاوبت تحت شعار الأخوة، لحراسة أسرار المنظمة وإجبار الناس علي الخضوع لقوانينها عن طريق الإرهاب.

 

وكان لهذه الوكالة دور عظيم في حكم الإرهاب الذي أعقب الثورة الفرنسية.

 

والكلمتان المحفورتان في أعلي الشعار Annuit Coeptis 

 

تعنيان: أن مهمتنا (مؤامرتنا) قد تكللت بالنجاح.

 

أما الكلمات المحفورة في أسفل الشعار Novus Ordo Seclorum:

 

فتفسر طبيعة المهمة، ومعناها "النظام الاجتماعي الجديد".

 

والجدير بالملاحظة أن هذا الشعار لم تتبنّه الماسونية، إلا بعد دمج الأنظمة الماسونية بالأجهزة النورانية إبان مؤتمر فيلمسباد في سنة 1782م.  

 

 

 

 
6الثورة الإنجليزية 1640 - 1660

 

 لما كان الملك إدوار الأول ملك إنكلترا، هو أول من طرد اليهود من بلاده، فقد قرر سادة المال اليهود في فرنسا وألمانيا أن تكون إنكلترا بالذات هي هدفهم الأوّل.

 

وهكذا شرعت خلاياهم بإثارة الشقاق والمتاعب بين الملك وحكومته، وبين أرباب العمل والمستخدمين، وبين العمال والمالكين، ثم بين الدولة والكنيسة.. ودس المتآمرون نظريات ووجهات نظر متناقصة، تنادي بحلول مختلفة في أمور السياسة والدين، لشق صف الشعب الإنكليزي وتحويله إلي معسكرات متنابذة.. فقسموا الشعب الإنكليزي أولا إلي معسكرين: بروتستانتي وكاثوليكي.. ثم انقسم المعسكر البروتستانتي إلى طائفتين: الملتزمين والمستقلين.

 

ولما وقع الخلاف بين ملك إنكلترا شارل الأول وبين البرلمان، اتصل عملاء المرابي اليهودي (مناسح بن إسرائيل)، بالقائد الإنكليزي المعارض أوليفر كرومويل، وعرضوا عليه مبالغ طائلة من المال إن استطاع تنفيذ مشروعهم الخفيّ، الرامي إلي الإطاحة بالعرش البريطاني.

 

وكان الزعيم البرتغالي اليهودي فرنانديز كارفاجال يلعب دور المخطط الرئيسي للشؤون العسكرية لعمليات كرومويل، فأعاد تنظيم أنصار كرومويل المعروفين بـ "الرؤوس المستديرة"، وحولهم إلي جيش نموذجيّ، وجهزهم بأحسن ما يمكن من الأسلحة والمعدات.. وعندما كانت المؤامرة في طريق التنفيذ، كان يتم تهريب المئات من المخربين المدربين إلي إنكلترا، للانخراط في الشبكات الخفية التي كان يديرها اليهود.. والشيء ذاته يجري في أميركا اليوم.

 

وكانت الشبكات اليهودية الخفية في إنكلترا آنذاك برئاسة يهودي اسمه دي سوز.. ولقد تمكن اليهودي فرنالديز كارفاجال بنفوذه من تعيين (دي سوز) سفيرا للبرتغال في إنكلترا.. وكان زعماء الاضطرابات اليهود يجتمعون ويخططون لمؤامراتهم وألاعيبهم في داره المتمتعة بالحماية الدبلوماسية. 

 

وقد قر قرار المتآمرين أول الأمر علي شق الشعب الإنكليزي وإيقاع الخلاف بين الكنيسة والدولة.. وللوصول إلي ذلك أدخلوا إليها مذهب كالفن الذي كان من صنع اليهود.. والاسم الأصليّ لكالفن هو كوهين، وكان قد غيره إلي كلوفين إبان انتقاله من سويسرا إلي فرنسا للتبشير بدعوته.. و لما انتقل إلي إنكلترا أصبح أسمه كالفن.. ويبين لنا التاريخ كيف أن سويسرا كانت المنشأ الأول للعديد من الثورات والمؤامرات.. كما يبين لنا كيف أن الزعماء الثوريين من اليهود كانوا يغيرون أسماءهم لإخفاء أصلهم الحقيقي.

 

في عام 1936 وخلال احتفالات منظمة "بناي بريث" اليهودية في باريس، أكد المحتفلون بحماس بالغ أن كالفن كان يهودي الأصل.

 

وبالإضافة إلي المجادلات الدينية، كان الزعماء الثوريون ينظمون الجماعات المسلحة لزيادة حدة الاضطرابات في السياسة والعمل.. ونجد الشرح الوافي لهذه الناحية من خفايا الثورة الإنكليزية والتفاصيل المرتبطة بهذه الفترة في جزئي المجلد الضخم "حياة الملك شارل الثاني"، الذي وضعه اسحق دزرائيلي (1766 – 1848) أحد كبار اليهود الإنكليز ورئيس الوزارة عدة مرات ووالد بنيامين لورد بيكونسفيلد.. ويبين إسحاق دزرائيلي في كتابه، أنه حصل علي معلومات قيمة من ميلخوار دي سالم Melchior de Salem، اليهودي الذي كان مندوبا لفرنسا لدي الحكومة البريطانية آنذاك.. ويسلط دزرائيلي الضوء في كتابه، علي التشابه الغريب والتماثل، في أنماط التخطيط والإعدادات، للعمليات التي سبقت كلا من الثورتين الإنكليزية والفرنسية.. وهكذا فإننا نستطيع أن نري بجلاء أثر الأيدي الخفية لمنظمي حركة الثورة العالمية في كلتا الثورتين.

 

إن الدليل الكامل علي إدانة كرومويل باشتراكه في المخطط الثوري اليهودي العالمي، حصل عليه اللورد (الفريد دوغلاس)، الذي كان رئيسا لتحرير المجلة الأسبوعية "بلين إنجلش"، التي كانت تصدرها شركة النشر الشمالية في بريطانيا.. وفي مقال له ظهر في عدد 3 أيلول 1921 من هذه المجلة، يشرح اللورد دوغلاس كيف وصل إلي حوزة صديقه السيد (ل. د. فان فالكرت) من أمستردام في هولندا، مجلد مفقود من سجلات كنيس مولجيم.. وكان هذا المجلد قد فقد خلال الحروب النابليونية، وهو يحتوي السجلات والرسائل التي تلقاها ورد عليها مديرو هذا الكنيس.

 

وهذه السجلات والرسائل مكتوبة بالألمانية. وواحدة منها، وهي مؤرخة في السادس من حزيران 1647، مرسلة من أ.ك. ـ أي أوليفر كرومويل ـ إلي إبنزربرات Ebenezer Pratt وهي تقول:

 

"سوف أدافع عن قبول اليهود في إنكلترا، مقابل المعونة المالية.. ولكن ذلك مستحيل طالما الملك شارل لا يزال حيا.. لا يمكن إعدام شارل دون محاكمة، ولا نمتلك في الوقت الحاضر أساسا وجيها يكفي لاستصدار حكم بإعدامه، ولذلك فنحن ننصح باغتياله.. ولكننا لن نتدخل في الترتيبات لتدبير قاتل، غير أننا سوف نساعده في حاله هربه".

 

وجوابا علي هذه الرسالة، كتب الحاخام برات بتاريخ 12 تموز 1647، رسالة يقول فيها:

 

"سوف نقدّم المعونة المالية، حالما تتم إزالة شارل ويقبل اليهود في إنكلترا.. والاغتيال خطر جدا.. ينبغي إعطاء شارل فرصة للهرب، وعندئذ يكون القبض عليه ثانية سببا وجيها للمحاكمة والإعدام.. وسوف تكون المعونة وافرة.. ولكن لا فائدة من مناقشة شروطها قبل البدء بالمحاكمة".

 

وفي الثاني عشر من تشرين الثاني من ذلك العام، مهدت الفرصة للملك شارل الأول للهرب.. وقد ألقي القبض عليه بالطبع.. ويتفق المرخان البريطانيان الكبيران هوليس ولودلو ـ وهما الحجة في تاريخ تلك الحقبة ـ علي أن هرب الملك ثم إيقافه كان من تدبير كرومويل.. وقد جرت الأحداث بعد إيقاف الملك بسرعة، فقد صفي كرومويل جميع أعضاء البرلمان الإنكليزي الموالين للملك.. ولكن المجلس في جلسته التي عقدها طوال ليلة 5 كانون الأول من عام 1648، قرر ـ بالرغم من هذه التصفية وبأغلبية أعضائه ـ قبول التنازلات التي تقدم بها الملك، واعتبارها كافية لعقد اتفاق جديد معه.

 

وكان معني ذلك بالنسبة لكرومويل، انتهاء دوره وحرمانه من الأموال التي وعده بها سادة المال العالميون، فتحرك للضرب من جديد.. وأصدر أوامره للكولونيل برايد بتطهير كل أعضاء البرلمان الذين صوتوا إلي جانب عقد اتفاق مع الملك.. والذي حصل بعد ذلك هو ما يعرف في كتب التاريخ المدرسية بـ "تصفية برايد".. ولم يبق في المجلس بعد انتهاء هذه التصفية سوي خمسين عضوا، استولوا لحساب كرومويل علي السلطة المطلقة.. وفي التاسع من كانون الثاني عام 1649 أعلن تشكيل "محكمة العدل العليا"، التي كانت مهمتها محاكمة الملك.. وكان ثلث أعضاء هذه المحكمة من عناصر جيش كرومويل.. وعندما لم يستطيع المتآمرون إيجاد محام إنكليزي واحد يقبل القيام بدور مدع عام ضد الملك، كلف كارفاجال أحد اليهود الأجانب، واسمه (اسحق دوريسلاوس) ـ الذي كان عميلا لمناسح بن إسرائي في إنكلترا ـ بهذه المهمة.. وهكذا أدين شارل الأول بالتهم التي وجهها إليه المرابون العالميون اليهود، لا بالتهم التي وجهها إليه الشعب الإنكليزي.. وفي يوم 30 كانون الثاني 1649 نفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة، علنا أمام دار الضيافة في وايتهول بلندن.

 

وهكذا انتقم المرابون اليهود وكهنة كتيس الشيطان لأنفسهم من طرد الملك أدوار لهم من إنكلترا.. وتلقي كرومويل الأموال ثمن جريمته.

 

لم يكن الانتقام الهدف الوحيد للمرابين العالميين اليهود، بل كان هدفهم الأصيل السيطرة علي اقتصاديات إنكلترا وعلي مقاليد الأمور فيها.. وكانوا يخططون لتوريط إنكلترا في حروب مع الدول الأوروبية، فالحروب تتطلب مبالغ ضخمة من المال، مما يضطر الحكام الأوروبيين للاقتراض من المرابين اليهود.. ويستتبع ذلك ازدياد سريع في القروض الوطنية للدول الأوروبية.

 

وإذا ما تتبعنا تسلسل الأحداث من مقتل شارل عام 1649 إلي إنشاء مصرف إنكلترا عام 1694، لوجدنا كيف أن الديون الوطنية كانت في ازدياد دائم.. وتمكن الصيارفة العالميون من جعل المسيحيين ينقضّون علي بعضهم البعض.

 

 

 

أهم الأحداث:

 

1649: هاجم كرومويل أيرلندا معتمدا علي الأموال اليهودية.. ألقي القبض علي دروغهيدا Drogheda ووكسفورد.. لوم البروتستانت الإنكليز لاضطهادهم الكاثوليك الايرلنديين.

 

1650: ثار القائد الإنكليزي مونتروز علي كرومويل ولكنه فشل وقبض عليه وأعدم.

 

1651: أعد شارل الثاني هجوما علي إنكلترا، ولكنه هزم وأبحر عائدا إلي فرنسا.

 

1652: دخلت إنكلترا الحرب ضد الهولنديين.

 

1653: أعلن كرومويل نفسه "السيد الحامي لإنكلترا".

 

1654: اشتبكت إنكلترا في عديد من الحروب الجديدة.

 

1656: بدأت الاضطرابات في المستعمرات الأمريكية. 

 

1657: موت كرومويل وإعلان ابنه ريتشارد الحامي الجديد لإنكلترا.

 

1659: ريتشارد يشمئز من التآمر المستمر ويعتزل الحكم.

 

1660: الجنرال مونك يحتل لندن.. إعلان شارل الثاني ملكا.

 

1661: كشف الستار عن المؤامرات التي اشترك فيها كرومويل وبعض أعوانه، مثل براد شو وإيرتون، وحدوث هياج شعبي في لندن، حيث نبشت الجثث وعلقت علي المشانق.

 

1662: صراع ديني بين الطوائف البروتستانتية، واضطهاد الطوائف التي لم تقبل بالخضوع للكنيسة الرسمية في إنكلترا (الانجليكانية).

 

1664: تشتبك إنكلترا من جديد بالحرب مع هولندا.

 

1665: أزمة اقتصادية شديدة تحيق بإنكلترا.. البطالة والمجاعة تأخذان بخناق الشعب، وانتشار الطاعون الأكبر.

 

1666: إنكلترا تخوض حربا جديدة ضد فرنسا وهولندا.

 

1667: بدأ عملاء الكابال Cabal صراعا سياسيا ودينيا جديدا.

 

1674: استتباب السلام بين إنكلترا وهولندا.. القوي الخفية تعيد توزيع الأدوار.. ترفيع السيد (وليام مستراد هولدر) الساذج إلي رتبة القائد العام للقوات الهولندية، وأصبح اسمه وليم أمير أورانج.. ترتيب لقاء بينه وبين ماري ابنة دوق يورك.. إبعاد الدوق عن وراثة عرش إنكلترا.

 

1677: تتزوج الأميرة الإنكليزية ماري من وليم أوف أورانج.. ولإيصال وليم إلي عرش إنكلترا، كان ينبغي القضاء علي شارل الثاني ودوق يورك.

 

1683: تدبير مؤامرة منزل راي، التي كان هدفها القضاء علي شارل الثاني ودوق يورك.. ولكن المؤامرة فشلت.

 

1685: وفاة الملك شارل الثاني وصعود دوق يورك إلي العرش باسم الملك جيمس الثاني.. نشوب حملة إشاعات لتلطيخ سمعه الملك.. إقناع دوق مونمارث ـ أو رشوته ـ بتزعم حركة عصيان لقلب الملك.. وفي 30 حزيران نشبت معركة سيدجمور، التي هزم فيها مونمارت وألقي القبض عليه، وتم إعدامه في 15 تموز.. وفي آب شن القاضي جيفريز حملة محاكمات دموية، ذهب ضحيتها حوالي 3000 من أنصار مونمارت، وحكم علي 1000 آخرين بالبيع كالعبيد.

 

1688: أمرت القوي الخفية وليم أمير أورانج، بإنزال قواته في إنكلترا علي شاطئ تورباي، مما أجبر الملك جيمس الثاني علي التنازل والهرب إلي فرنسا، فقد أصبح مكروها من الشعب بسبب حملة الإشاعات التي لطخت سمعته، والمؤامرات ضده.. وكذلك بسبب غبائه وعدم كفاءته الشخصية.


 

1689 إعلان وليم وماري ملكا وملكة علي إنكلترا.

 

 

 

السيطرة على اقتصاد انجلترا:

 

لم يكن الملك جيمس الثاني ينوي أن يترك العرش هكذا بدون دفاع.. ولكن لما كان الملك جيمس كاثوليكيا، فقد حاولت القوي الخفية إبراز وليم أمير أوارنج كبطل للبروتستانتية.. نزل الملك جيمس في الخامس من شباط علي شاطئ ايرلندا. ثم جرت معركة بورني التي وقف فيها الكاثوليكيون والبروتستانت وجها لوجه.. ويحتفل البروتستانت في الثاني عشر من تموز من كل سنة بانتصارهم في هذه المعركة.. وربما لا يعلم واحد منهم أن هذه المعركة كانت من تدبير المرابين العالميين للوصول إلي السيطرة علي مقدرات إنكلترا الاقتصادية والسياسية.. وكان هدفهم الأول والحصول علي إذن بإنشاء مصرف إنكلترا، وتأمين الديون الوطنية التي استدانتها إنكلترا منهم للقيام بتلك الحروب.. ويرينا التاريخ كيف أنهم ساروا قدما في تنفيذ مخططاتهم.. إن الدول والشعوب التي اشتركت في تلك الحروب والثورات، لم تحصل في النهاية علي أية نتيجة ذات فائدة حقيقية.. كما لم يتم التوصل إلي أي حل مُرضٍ لأي من المشاكل السياسية أو الدينية أو الاقتصادية.. وكان الرابح الوحيد هو تلك الجماعة الصغيرة من المرابين وتجار الحروب الذين كانوا يتولون تمويل تلك الحروب والثورات، وأصدقاؤهم وعملاؤهم الذين كانوا يتاجرون بالأسلحة والذخائر والسفن.

 

وما أن وصل ذلك القائد الهولندي إلي العرش الإنكليزي، حتى أقنع الخزانة الإنكليزية باستدانة مبلغ 1.250.000 جنيها من الصيارفة اليهود الذين كان لهم الفضل في إيصاله إلي العرش.. وتلقّن كتب التاريخ المدرسية أطفالنا اليوم أن المفاوضات التي جرت بشأن هذا القرض أجراها عن إنكلترا مبعوثان هما (جون هوبلن) و(وليام باترسون).. أما الطرف الآخر في المفاوضات من المرابين المقرضين، فلا تشير إليهم الكتب المدرسية بشيء!!.. وقد بقيت هويتهم مكتومة عبر التاريخ.

 

وتكشف الوثائق التاريخية التي تسجل تلك المفاوضات، أنها جرت داخل كنيسة مغلقة محافظة علي السرية التامة.. ووافق المرابون العالميون علي منح الخزانة الإنكليزية قرضا بقيمة 1.250.000 جنيها، شرط أن يكونوا هم واضعو بنود وشروط الاتفاق.. وقد وافق الجانب الإنكليزي علي ذلك.. أما الشروط فهذه بعضها:

 

1.    تبقي أسماء الذين قدّموا القرض سرية، ويُمنحون ميثاقا بتأسيس مصرف إنكلترا.

2.    يمنح مديرو مصرف إنكلترا الحق بتحديد سعر العملة بالنسبة للذهب.

3.  يعطي مديرو المصرف حق إصدار قروض بقيمة عشرة جنيهات، مقابل كل جنية ذهبي يملكونه في أرصدتهم بالمصرف. 

4.  يسمح لهم بتوثيق القرض الوطنيّ، وتأمين دفع الأقساط الرئيسية منه، مع دفع مبالغ الفوائد عن طريق فرض ضرائب مباشرة علي الشعب.

 

وهكذا باع الملك وليام أوف أورانج الشعب الإنكليزي للمرابين اليهود بمبلغ 1.250.000 جنية إسترليني!!.. ووصل هؤلاء أخيرا إلي مآربهم يجعل مصرف إنكلترا تحت سيطرتهم الاقتصادية، وحصلوا علي حق إصدار العملة البريطانية، ولم يعد يهمهم بعد ذاك من كان يسن القوانين لتلك الأمة!!

 

ولإدراك ماذا يعني مبدأ معادلة العملة بالذهب، يكفي أن نذكر مثالا بسيطا:

 

باستطاعة مدراء مصرف إنكلترا إصدار قرض بمبلغ 1000 جنيه، مقابل كل 100 جنية ذهبيّ يضعونه في أرصدتهم كضمانة.. فإذا كانت نسبة الفائدة تبلغ 5% استطاعوا أن يحصلوا علي مبلغ 50 جنيه في السنة، وهذا ما يعادل نصف قيمة مبلغ المئة جنيه الذي رصدوه لضمانه القرض!!.. وإذا ما رغب أحد الأشخاص أو المؤسسات أن يستدين من المصرف مبلغا من المال، كان مدراء المصرف يجبرونه علي تقديم رهان من عقار أو سهم أو ممتلكات، يفوق بكثير قيمة القرض.. وإذا ما تأخر عن تسديد الفوائد المترتبة أو المبالغ الأصلية، كان مدراء المصرف يتخذون الإجراءات اللازمة لوضع يدهم علي الممتلكات المرهونة.. وبذلك يتمكنون من الحصول علي مبالغ تفوق بكثير المبالغ المقترضة.

 

وكانت النية المبيتة لدي الصيارفة الدوليين، تتجه لعدم تمكين إنكلترا من تسديد القروض القومية أبدا.. كانت خطتهم ترمي إلي خلق ظروف دولية تؤدي إلي توريط جميع الأمم الواقعة بين أيديهم أكثر فأكثر في الديون.

 

ولعبت القوي الخفية دورها من وراء الستار وحركت الدمي المناسبة، ومهدت الطريق للحروب التي عرفت "بحرب الوراثة الإسبانية".. وفي عام 1701 عين دوق مارلبورو قائدا عاما للقوات الهولندية المسلحة، كما نال ـ علي حد قول الموسوعة اليهودية ـ مرتبا سنويا يبلغ 6000 جنيه، من المرابي اليهودي الهولندي سولومون مدنيا.

 

وترينا الأحداث التي تسلسلت حتى قادت إلي الثورة الفرنسية عام 1789، كيف تضخّم مقدار القرض القومي البريطاني، حتى وصل إلي مبلغ 885 مليون جنيه بين عامي 1668 و1815.. وفي عام 1945، بلغ القرض مبلغا خياليا يفوق 22 مليار جنيه!!.  

 

 

 

 
7الثورة الفرنسية 1789

 

إن كلمة "أيدوم" Edam لها دلالتها في التاريخ اليهودي كما جاء في الموسوعة اليهودية، وهي تعني "أحمر".

 

ويقص علينا التاريخ، كيف أن صائغا يهوديا يدعي (آمشل موسى باور)، أنهكه التجوال في أراضي أوروبا الشرقية، فقرّ قراره علي الاستقرار نهائيا في فرانكفورت بألمانيا عام 1750، حيث افتتح محلا للصرافة في منطقة جود ينسراس.. وفوق باب دكانه كان يعلق درعا أحمر رمزا لمهنته.. وهنا يجدر بنا أن نذكر أن الثوريين اليهود في أوروبا الشرقية اعتمدوا أيضا البيرق الأحمر شعارا لهم، لأن اللون الأحمر يرمز إلي الدم.

 

ومن المهم لدي دراسة حركة الثورة العالمية أن نتذكر أن "العلم الأحمر" كان رمزا للثورة الفرنسية ولكل ثورة تلتها حتى الآن.

 

والأكثر من ذلك دلالة، هو أن لينتين عندما قلب الحكومة الروسية بتمويل من الصيارفة العالميين وأسس الدكتاتورية الطاغية الأولي عام 1917، كان تصميمه لراية الدولة علما أحمر في طرفه مطرقة ومنجل، وتعلو ذلك كله نجمه يهوذا.

 

 

 

روتشلد وإمبراطورية المال اليهودية:

 

كان لآمشل موسى باور ابن من مواليد عام 1743، اسمه آمشل ماير باور.. توفي الأب عام 1754 عندما كان ابنه في الحادية عشرة من عمره.. وكان والده قد دربه علي كل ما يتعلق بأمور مهنة الصياغة والربا.

 

بدأ الابن حياته ككاتب في مصرف أوبنهايمر.. ولم تمض فترة طويلة حتى برهن عن حذاقة وموهبة في شؤون الصيارفة، مما حدا بأصحاب المصرف إلى أن يكافئوه، بإدخاله شريكا جزئيا في المصرف.. ثم لم يلبث أن عاد إلي فرانكفورت ليتسلم ويدير المؤسسة التي خلّفها أبوه.. وكان الدرع الأحمر لا يزال معلقا بأبهة وفخر فوق الباب.. ولمعرفته بالدلالة السرية لهذا الدرع، قرر آمشل مايروباور أن يتخذ اسما جديدا لعائلته.. ومعني الدرع الأحمر بالألماني روت شيلد Roth Schild.. وهكذا انبثقت إلي الوجود عائلة روتشيلد.

 

توفي (آمشل ماير باور) عام 1812، وكان له خمسة من الأولاد دربهم تدريبا دقيقا ليصبحوا من جهابذة المال والذهب.. وكان أقدر هؤلاء الأبناء ناثان، الذي أظهر مقدرة خارقة في شؤون المال.. حتى إنه أوفد إلي إنكلترا وهو في عامه الواحد والعشرين، بهدف السيطرة علي مقدرات إنكلترا الاقتصادية.. وقد تلقي ناثان روتشيلد لدي سفره مبلغ 20.000 جنيه، فاستطاع إثبات مقدرته المالية بتحويلها إلي 60.000 جنيه خلال سنوات ثلاث فقط.

 

وفي عام 1773 كان ماير روتشيلد لا يزال في الثالثة والثلاثين من عمره.. وقد دعا لملاقاته في فرانكفورت اثني عشر رجلا من كبار الأغنياء، لإقناعهم بتجميع ثرواتهم وتأسيس مجموعة واحدة، ليكون بإمكانهم أن يمولوا الحركة الثورية العالمية.

 

وكشف لهم روتشيلد كيف تم تنظيم الثورة الإنكليزية، وبيّن لهم الأخطاء التي ارتكبت.. وكانت الثورة بطيئة جدا وأخذت وقتا طويلا.. ولم تتم تصفية الرجعيين بالسرعة والقسوة الكافيتين.

 

ويعتمد المخطط الخاص بفرنسا، علي المناورة بثرواتهم الضخمة المتحدة، مما سيؤدي إلي خلق ظروف اقتصادية مشبعة بالقلق، بحيث تنقشى البطالة بصورة شاملة بين جماهير الشعب الفرنسي، فتدفعها إلي حالة قريبة من المجاعة، فتنصب مسؤولية الانهيار الاقتصادي علي عاتق الملك والبلاط والنبلاء والكنيسة والصناعيين وأرباب العمل، ويندس المحرضون والدعاة المأجورون بين صفوف الشعب، ليشيعوا مشاعر الحقد والبغضاء، ويطالبوا بالانتقام من الطبقات الحاكمة، التي يشهّرون بها بالفضائح الجنسية، كما يلصقون بها كل أنواع الاتهامات الحقيقية والباطلة.

 

وفيما يلي نسخة ملخصة لخطة العمل هذه تبين طبيعة المؤامرة التي رسمها هؤلاء آنئذ للسيطرة علي الثروات والموارد الطبيعية واليد العاملة في العالم (لاحظ أنّ الكلام التالي هو بروتوكولات حكماء صهيون):

 

1.  بدأ روتشيلد كلامه بشرح أبعاد الخطة قائلا: بما أن أكثرية الناس تميل إلي الشر أكثر من ميلها إلي الخير، فإن الوسيلة المثلي للحصول علي أطيب النتائج في الحكم هي استعمال العنف والإرهاب، وليس استعمال المناقشات العلمية الهادئة.. فالقانون بحسب رأيه ليس إلا القوة المقنعة.. وتوصل إلي الاستنتاج المنطقي الذي يقول إن "قوانين الطبيعة تقضي بأن الحق هو القوة".

 

2.  ثم أكد روتشيلد أن الحرية السياسية ليست إلا فكرة مجردة ولن تكون حقيقة واقعة.. ويستنتج من ذلك أن كل ما يقتضيه الوصول إلي السلطان السياسيّ، هو أن يبشر شخص ما أو هيئة ما بالتحرر السياسي بين الجماهير، حتى إذا آمنت هذه الجماهير بتلك الفكرة المجردة، قبلت أن تتنازل عن بعض امتيازاتها وحقوقها دفاعا عن تلك الفكرة.. ويستطيع المتآمرون آن يستولوا علي هذه الامتيازات والحقوق.

 

3.  وأكد روتشيلد بعد ذلك أن سلطة الذهب قد تمكنت من انتزاع مقاليد الحكم من الحكام الأحرار.. وذكر مستمعيه بأن الدين كان هو المسيطر علي المجتمع ذات يوم.. ثم لما استعيض عن الدين بالحرية، أضحي الناس لا يعرفون كيف يستعملون هذه الحرية باعتدال.. ودفعه ذلك إلي الاستنتاج أن بإمكان المتآمرين أن يستعملوا فكرة الحرية لإثارة النزاعات الطبقية داخل المجتمع الواحد.. وأضاف أنه لن يكون مهما بالنسبة لنجاح مخططنا علي الإطلاق أن يتم تدمير الحكومة القائمة من الداخل أو من الخارج، لأن المنتصر كائنا من كان سوف يحتاج إلي "رأس المال" وهو بكامله بأيدينا نحن.

 

4.  وأعلن روتشيلد بعد ذلك أن الوصول إلي الهدف يبرر استعمال أية وسيلة كانت، لأن الحاكم الذي يحكم بموجب القواعد الخلقية ليس بالسياسي الماهر في المناورات لأنه يلتزم بالحق والشرائع ولا يقبل بالكذب علي الجماهير، وهكذا يكون وضعه ضعيفا ومعرضا دائما للهزات. ثم أضاف قائلا: " يجب علي الذين يرغبون في الحكم أن يلجئوا إلي الدسائس والخداع والتلفيق لأن الاجتماعية الكبرى كالصدق والاستقامة ما هي إلا عيوب كبري في السياسة".

 

................ سأختصر هذا الجزء، حيث يمكنك قراءة مختصر البروتوكولات في المقال الخاص بها.

 

***

 

أنا علي اقتناع بأن الوثائق التي وقعت عام 1901 بحوزة البروفيسور نيلوس الروسي، والتي نشرها في كتاب تحت عنوان "الخطر اليهودي" عام 1905 في روسيا، لم تكن إلا نسخة موسعة عن المؤامرة الأصلية.. ويبدو من مقارنة النصوص أن القسم الأول مطابق لما أوردت.. ولكن هناك بعض المعلومات الإضافية التي تكشف كيف أن المتآمرين استعملوا الداروينية والماركسية، وحتى المبادئ التي قامت عليها فلسفة نيتشه.. والأهم من ذلك كله أن تلك الوثائق المكتشفة عام 1901، تكشف كيف أن الصهيونية ستستعمل كسلاح جديد في المؤامرة.. وهنا يجدر بنا أن نذكر أن الصهيونية لم تولد إلا عام 1897.

 

وقد ترجم كتاب "الخطر اليهودي" إلي الإنكليزية السيد فكتور مارسدن، وطبعته شركة مطبوعات بريتونز في لندن بإنكلترا تحت عنوان "بروتوكولات حكماء صهيون" عام 1921.

 

***

 

وقد يدور في الذهن السؤال التالي: ما هو البرهان علي صحة انعقاد تلك الاجتماعات السرية؟.. وإذا تأكدنا من انعقاد هذه الاجتماعات، فكيف نثبت أن مثل هذه المواضيع بحثت خلالها؟

 

والجواب علي ذلك في منتهى البساطة.. إن العناية الإلهية هي التي تولت كشف تلك الخطة الشيطانية.

 

عام 1785 كان أحد الفرسان يغزّ السير بجواده بين فرانكفورت وباريس، حاملا معلومات مفصلة حول الحركة الثورية العالمية عامةً، وتعليمات خاصة حول الثورة الفرنسية.. كانت تلك التعليمات صادرة عن النورانيين اليهود في ألمانيا، وموجهة إلي السيد الأعظم لماسوني الشرق الأكبر في فرنسا.. وكانت محافل الشرق الأكبر الماسونية في فرنسا قد تحولت إلي شبكات سرية تعد للثورة وأعمال العنف، علي يد الدوق دورليان السيد الأعظم لماسوني فرنسا.

 

أصيب ذلك الفارس بصاعقة في طريقه عبر منطقة راتيسبون قضت عليه.. ووقعت الوثائق التي يحملها بحوزة رجال الشرطة، الذين سلموها بدورهم إلي السلطات المحلية في بافاريا.. وهكذا نري في حال دراستنا لتطور الأحداث، الارتباط القائم بين دار روتشيلد واليهود النورانيين في فرانكفورت، والنورانيين المتسللين داخل الماسونية الفرنسية الحرة، والذين أسسوا محافلهم الخاصة المعروفة بمحافل الشرق الأكبر.

 

  

 

تخطيط الثورة:

 

بدأ العملاء النورانيون بالاحتكاك بالمركيز ميرابو.

 

كان ميرابو ينتمي إلي طبقة النبلاء، ويتمتع بنفوذ كبير في أوساط البلاط الملكي.. كما كان صديقا حميما للدوق الذي اختير ليكون الواجهة الظاهرة للثورة الفرنسية.. والأهم من ذلك كله، كان المركيز ميرابو مجردا من الأخلاق، وكانت حياته مليئة بالفواحش، مما أدي إلي وقوعه في الديون الباهظة.

 

كان من السهل إذن علي كبار المرابين، جعل عملائهم يتصلون بمبرابو، الخطيب الفرنسي الشهير.. وتحت ستار الصداقة والإعجاب بالمواهب الخطابية، كان هؤلاء العملاء يعرضون علي ميرابو مساعداتهم المالية لإنقاذه من مصاعبه المادية.. ولكن ما كانوا يقومون به في الواقع، هو تدبير انغماسه في هوة الرذيلة والإباحية إلي أخفض درجاتها.. وهكذا انتهي به الأمر إلي أن أصبح مدينا لهم بمبالغ طائلة، جعلته تحت رحمتهم وطوع إرادتهم.. وفي اجتماع عقد لتوثيق ديونه تم تعريف ميرابو باليهودي الكبير موسى مندلوهن، الذي وضعه تحت رعايته، وتولي تعريفه في الوقت المناسب، بامرأة حسناء اشتهرت بجمالها وسحرها، كما اشتهرت بتجردها من أي وازع أخلاقي.

 

كانت هذه اليهودية الحسناء متزوجة من رجل يدعي هيرز.. ولكن هذا لم يزد ميرابو إلا ولعا بها ورغبه فيها.. ولم تمض فترة طويلة حتى أصبحت تقضي مع ميرابو من الوقت أكثر مما تقضي مع زوجها!.. وهكذا أصبح ميرابو بلا حول ولا قوة، مربوطا بالديون الباهظة ومفتونا بسحر السيدة هيرز من جهة أخري.

 

وهكذا أبتلع الطعم و الصنارة!.. ولكن العملاء، كما يفعل الصيادون المهرة، لم يضيقوا عليه الخناق بادئ الأمر.

 

كانت الخطوة التالية إدخاله إلي النورانية.. وكان عليه أن يقسم أغلظ الأيمان للمحافظة علي السرية والطاعة تحت طائلة التهديد بالقتل.. والخطوة التي تلت ذلك هي زجه بمواقف معينة، أخذت بعد مدة طريقها إلي الشيوع بصورة غامضة.. وقد سمي هذا الأسلوب الذي يؤدي إلي تحطيم الصورة المعنوية والاجتماعية لشخص ما فيما بعد "الفضيحة أو التلطيخ أو التشهير".. وكانت النتيجة المباشرة لهذه الفضائح وحملة التشهير، أن تنكر لميرابو زملاؤه وأقرانه من طبقته الاجتماعية.. وأدت إلي امتلاء ميرابو بمشاعر الحقد، التي تحولت إلي رغبة في الانتقام، وتفجرت باعتناقه مبادئ القضية الثورية. 

 

لقد كانت مهمة ميرابو العمل علي إغراء الدوق دورليان، وإقناعه بأن يقوم بدور القائد للثورة الفرنسية.. وكان الاتفاق الضمنيّ قد تم علي أن ينصّب الدوق دورليان نفسه علي العرش بعد الملك كحاكم ديمقراطي.. وقد حرص مخططوا مؤامرة الثورة الفرنسية علي أن يتجنبوا إعلام أيّ من ميرابو والدوق دورليان أنهم ينوون إعدام الملك والملكة والألوف من النبلاء.. وأقنعوهما بأن هدف الثورة ليس إلا تطهير السياسة والدين من الخرافات والطغيان.

 

وعهد إلي آدم وايزهاوبت بمهمة تنسيق الطقوس والشعائر النورانية لاستعمالها في محافل الشرق الأكبر الماسونية.. كان وايزهاوبت يعيش في فرانكفورت.. ولقد قام ميرابو بتعريف الدوق دورليان وصديقه تاليران إلي وايزهاوبت، الذي تولي بدوره مهمة تعريفهما بأسرار محافل الشرق الأكبر الماسونية.. وشرع الدوق دورليان بإدخال طقوس الماسونية الجديدة ـ ماسونية الشرق الأكبر ـ إلي الماسونية الفرنسية الحرة.. ولم يأت العام 1789 حتى كان هناك أكثر من ألفي محفل في فرنسا تابعة لماسونية الشرق الأكبر، تضم تشعباتها أكثر من مئة آلف عضو.. وهكذا تمكنت النورانية اليهودية بإشراف موسى مندلسوهن، من النفاذ إلي قلب الماسونية الأوروبية الحرة، علي يد آدم وايزهاوبت.

 

وقام النورانيون اليهود بعد ذلك، بتشكيل لجان ثورية سرية داخل المحافل الماسونية.. وهكذا تأسست القاعدة الصلبة للحركة الثورية في فرنسا، في التشكيلات السرية التابعة للمحافل.

 

بعد أن نجح ميرابو بمهمته، أخذ يدفع صديقه للانزلاق في الرذيلة والفجور، حتى هوي إلي نفس الدرك الذي كان هو قد وصل إليه من قبل، وقاده إلي العزلة الاجتماعية.. ولم تمض أربع سنين، حتى ناء كاهل الدوق دورليان بالديون الباهظة، بحيث لم ير مفرا من الاقتناع باللجوء إلي طريقة خطرة، هي الاشتراك في عمليات التهريب والتجارة المحرمة حتى يسترد بعض خسارته.. إلا إن مغامراته كانت دائما تبوء بالفشل ويفتضح أمرها بطريقة غامضة، مما زاد موقفه سوءا وحمله خسائر أفدح.

 

وفي عام 1780 بلغت ديونه مبلغ 800.000 ليره فرنسية.. وحينئذ تقدم المرابون ثانية، وشرعوا يقدمون له النصائح المتعلقة بأعماله المالية، ويمدونه بالمعونة النقدية.. وحبكوا دسائسهم حوله، واستخدموا مهارتهم في المناورة، حتى وصلت أوضاعه إلي درجة من السوء، لم يجد معها بدا من رهن جميع أملاكه وأراضيه وقصوره، بما فيها القصر الملكي المخصص له، كضمان للديون التي بذمته.. ثم وقّع الدوق دورليان عقدا بإذن لدائنيه اليهود، بإدارة كل ما يخصه من أرض وممتلكات، حتى يؤمنوا له مبلغا يكفي لسداد ديونه، ويعطوه دخلا مناسبا ثابتا يمكّنه من العيش.

 

لم يكن الدوق دورليان يوما بالرجل الألمعي فيما يختص بالقضايا المالية.. وكان أغلب الظن لدية وهو يوقع العقد مع الصيارفة اليهود، أن الاتفاق صفقة سليمة.. فقد تعهد المرابون بإدارة ممتلكاته وتحويل عجزه المالي إلي نجاح.. وهل كان يريد أكثر من ذلك؟.. لا ريب في أن الدوق لم يكن يشك أبدا في أنه بتوقيعه ذلك العقد، باع نفسه جسدا وروحا إلي الشيطان.. ولكنه فعل ذلك وأصبح بين أيدي العملاء بكلّيّته.

 

وعينت القوي الخفية يهوديا من أصل إسبانيّ، للإشراف علي أملاك الدوق دورليان وعلي قصره الملكيّ "الباليه رويال".. وكان اسم هذا المشرف اليهودي شودرلوس دي لا كلوس.. وكان شودرلوس معروفا بكتابه "العلاقات الخطرة"، وغيره من الكتب الجنسية الفاضحة.. وكان يدافع علنا عن فسقه المتمادي، بأنه إنما يدرس سياسة الحب من كل جوانبه لأنه مغرم بالسياسة!!

 

وقد حول قصر الدوق الذي عهد به إليه، إلي أضخم وأشهر دار للتهتك عرفها العالم حتى ذلك الوقت.. ليصبح المركز الذي تصمم وتنفذ فيه، تفاصيل الحملة الهادفة إلي تحطيم المعتقدات الدينية والأخلاق العامة في فرنسا.. وكان كل هذا يتم علي أساس المبدأ الحاخامي: "أفضل الثوريين شاب مجرد من الأخلاق"!

 

ولم يكن شودرلوس دي لاكلوس وحيدا في مهمته، بل كان له شريك يهودي أيضا اسمه كاغليوسترو بجوزيف بالسامو من باليرمو.. وقد حول هذا أحد منازل الدوق إلي مركز للطباعة، أخذ يصدر منه المنشورات والإعلانات الثورية.. كما قام بتنظيم لجنه الإعلاميين الثوريين المحرّضين، الذي كانت مهمتهم نشر الأدب الثوري، وتنظيم الحفلات الموسيقية، والمسرحيات والاجتماعات الخطابية للمناقشة.. كان الهدف من كل ذلك إثارة المشاعر لدي الجماهير والتمهيد للثورة.. كما قام بالسامو بتنظيم حلقة من الجواسيس والعيون، لكي ينقلوا معلومات الفضائح لأسيادهم من رجال القوي الخفية، لكي يقوموا باستغلالها في قضايا التشهير بالشخصيات الاجتماعية المرموقة.. وكان الرجال والنساء الذين يقعون في شباك لا كاوس وبالسامو، لا يلبثون أن يصبحوا فريسة للابتزاز، حتى يصبحوا أداه طيعة ينفذون ما يؤمرون به.

 

وهكذا تحولت ممتلكات الدوق دورليان إلي مركز لتدبير الثورة.

 

وتغلغلت الخلايا في قاعات الاجتماعات والمسارح والمعارض الفنية والنوادي الرياضية، فتحوّلت إلي قاعات للمغامرة ومنازل للدعارة وحانات لتعاطي الخمور والمخدرات.. وكان زعماء الثورة الفرنسية المنتظرون محاطين بهذا الجو الموبوء، حيث تتعطل ضمائرهم، ثم يقضي عليها إلي الأبد بتشجيعهم علي الانغماس في أعمال الشر والرذيلة.

 

وكتب سكادر في كتابه "أمير الدم"، في معرض حديثه عن قصر الباليه دويال: "لقد كان هذا القصر يشغل رجال الشرطة، أكثر مما تشغلهم بقية المناطق في باريس كلها مجتمعة".

 

***

 

أرسلت شقيقة الملكة انطوانيت إليها عددا من الرسائل الشخصية، تنبهها فيها بوجود مخطط المؤامرة، واضطلاع أصحاب المصارف العالميين فيها، والدور الذي ستلعبه محافل الماسونية الحرة الفرنسية فيها.. ولكن ماري انطونيت (1755 ـ 1793)، لم تستطع أن تصدق هذه الأشياء المخيفة.. وجوابا علي تحذير أختها بأن النورانيين في فرنسا يعملون تحت ستار الماسونية الخيرية لتدمير الدولة والكنيسة، أرسلت ماري انطوانيت إلي أختها تقول: "إن قلقك مبالغ فيه بشأن الماسونية، فهي هنا أقل أهمية منها في أي مكان آخر في أوروبا".

 

ولقد بين التاريخ مدي الخطأ الذي وقعت فيه ماري انطوانيت، فهي برفضها المستمر أن تعير الاهتمام لتحذيرات أختها، أودت بنفسها وبزوجها إلي المقصلة.

 

ويعتقد معظم دارسي التاريخ، أن الملكة ماري انطوانيت كانت امرأة لعوبا انسافت وراء تيار المرح والملذات الذي كان يسود البلاط الفرنسي، كما يتحدثون عن قضايا غرامية كثيرة ومثيرة ينسبونها إليها كحقيقة واقعة، مثل خيانتها لزوجها مع أصدقائه وحياتها الخليعة المتهورة.. والواقع هو أن صورة ماري انطوانيت تلك، لم تكن إلا الصورة التي قام برسمها بالسامو وزملاؤه، في نطاق حمله التشهير الواسعة التي شنوها عليها.. وساعدهم ترسيخ هذه الصورة في عقول الجماهير، علي جعل الشعب يطالب برأسها بعد الثورة.. ولقد برهن المؤرخون أن الروايات المروية عن ماري أنطوانيت ليست إلا أكاذيب وتلفيقات.. ويؤكد لنا هذه الحقيقة الصبر الشديد الذي قابلت به مكائد أعدائها، والأنفة التي واجهت بها مصيرها، والشجاعة التي تحلت بها عند تقديمها للمفصلة.. وهذه الصفات لا يمكن أن تكون لا امرأة خليعة ماجنة.

 

وللإمعان في تلطيخ سمعه الملكة، ابتكر وايزهاوبت ومندلسوهن قضية عقد الجوهر.. وهذه القضية تتلخص كما يلي:

 

في ذلك الوقت كانت الخزينة الفرنسية في أسوأ حالاتها، وكانت الحكومة الفرنسية تستجدي بارونات المال ليمدوها بالمزيد من القروض.. في ذلك الوقت اتجه عميل سري من عملاء رؤوس المؤامرة إلي جوهريّ البلاط، حاملا إليه طلبا مزعوما باسم الملكة لصنع عقد من الجواهر الثمينة شبيه بالعقود الأسطورية، إذ بلغ ثمنه ربع مليون ليرة فرنسية.. فقام الصائغ بصنع هذا العقد وقدمه إلي الملكة لتحكم عليه، ولكنها رفضت العقد بصورة قاطعة، كما نفت علمها بأية رسالة منها بهذا الصدد.. بيد أن الأقاصيص عن هذا العقد الخياليّ، كانت قد شاعت في كل مكان كما شاء لها المخططون.. ودارت آله الدعاية التي يشرف عليها بالسامو، فلم تلبث ماري أنطوانيت أن غرقت في طوفان من الانتقادات، وتعرضت شخصيتها للتلطيخ، وسقطت سمعتها في الأوحال.. وعندما وصلت الحملة إلي هذه الذروة، ضرب بالسامو ضربته الرئيسية، فدارت مطابعه لتطبع الآلاف تلو الآلاف من المنشورات التي تندد بالملكة، زاعمة أن عشيقا سريا لها هو الذي أهداها هذا العقد إعجابا بمفاتنها!

 

علي أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل ابتكر مخططو التشهير فكرة أكثر خبثا وشيطانية من الأولي لتلطيخ سمعه الملكة.. فقد كتبوا رسالة إلي الكاردينال برنس دي روهان، تحمل توقيعا مزيفا للملكة.. وفي الرسالة طلب من الكاردينال موافاة الملكة في قصر البالية رويال في منتصف الليل، للتباحث بشأن العقد.. وعهد المتآمرون إلي إحدى غانيات هذا القصر بالتنكر بزي الملكة ومقابلة الكاردينال ليلا.. وكان أن وصلت القضية إلي الصحف والمنشورات، وانتشرت الأهازيج الجنسية الرخيصة، التي تتناول اثنتين من كبار شخصيات الدولة والكنيسة.

 

ويسجل التاريخ أن عقد الجوهر ـ بعد أن أدي مهمته الشريرة في فرنسا ـ نقل إلي إنكلترا.. ويقال إن معظم هذه حباته محفوظة بشكلها الأصلي لدي يهودي يدعي إلياسون.

 

وهناك برهان قاطع آخر علي ارتباط المرابين اليهود في إنكلترا بالمؤامرات التي أدت إلي القيام الثورة الفرنسية.. وقد نبشت هذا البرهان الليدي كوينزبورو مؤلفة كتاب "الكهنوت الشيطاني".. وقد تم لها ذلك خلال أبحاثها، عندما عثرت علي مطبوعة قديمة اسمها "العداء للسامية"، كتبها عام 1849 اليهوديّ برتار لازار.. واستنتجت الليدي كوينزبورو من المعلومات الواردة في الكتاب، أن بنيامين جولد شميد وأخوه إبراهام وشريكهما موسى ميكانا وابن أخيه السير موسى مونتيفيور ـ وهؤلاء جميعا كانوا من المتمولين اليهود في إنكلترا ـ كانوا مرتبطين بإخوانهم اليهود في أوروبا وعاملين معهم علي إشعال الثورة الفرنسية.. وقد وجدت براهين أخري أيضا، أثبتت علاقة دانييل أيتشيع من برلين وصهره دافيد فزيدلاندر وهيرز غريبير من الألزاس، بروتشيلد وبالمؤامرة.. وهكذا ينكشف لنا القناع عن الأشخاص الذين كانوا يشكلون في ذلك الوقت القوة الخفية وراء الحركة الثورية العالمية.

 

***

 

وإنه من الأهمية بمكان دراسة الوسائل التي استعملها هؤلاء المرابون لإيقاع الحكومة بعجز مالي، لأن الوسائل ذاتها استعملت فيما بعد في أميركا وروسيا وأسبانيا والبلدان الأخرى.

 

ويعطي الكاتب البريطاني السير والترسكوت في المجلد الثاني من مؤلفة "حياة نابليون"، صورة واضحة عن النقلات الأولية في لعبة الثورة الفرنسية.. ويلخّص سكوت الوضع آنذاك قائلا: "لقد عامل هؤلاء الممولون الحكومة الفرنسية كما يعامل المرابون المسرف المتلاف المفلس.. فهم يقرضونه الأموال اللازمة لبذخه وإسرافه بيد، ليعتصروا باليد الأخرى بقايا الثروات التي تذهب لسداد الفوائد غير المعقولة.. وهكذا تتالت سلسلة طويلة من قروض هؤلاء المرابين الهدامة، تعقبها حقوق وامتيازات مختلفة حصلوا عليها كضمانات لوفاء ديونهم.. وبذلك أصاب الارتباك مالية الدولة الفرنسية".

 

بعد أن بلغت أوضاع الحكومة الفرنسية درجة كبيرة من السوء وجدت نفسها مجبرة علي طلب قروض جديدة لتمويل مشاريعها الحربية التي جرها إليها جماعة المؤامرة.. وتلطف المرابون وعرضوا علي الحكومة الفرنسية تقديم القرض اللازم، شرط أن يتولوا هم كتابة عقد اتفاقية القرض.. وكانت الشروط التي قدموها في الظاهر لينة ومتسامحة، ولكنهم تمكنوا من إدخال الثعبان إلي داخل الغرفة، أي إدخال مندوبهم السيد نيكر Necker إلي الحكومة الفرنسية، الذي طلب الممولون أن يعين وزيرا أعلي للشؤون المالية لدي المجلس الاستشاري للملك.. وادعي الممولون اليهود أن نيكر سيتمكن من انتشال فرنسا من مصاعبها المالية في وقت لا يذكر.. ولكنّ ما حدث في السنوات الأربع التالية، هو أن نيكر أسهم في توريط الحكومة الفرنسية مع الممولين اليهود بأسوأ شكل، حتى إن قيمة القرض الوطني بلغت 170 مليونا من الجنيهات الإسترلينية.

 

((ملحوظة: هذا شبيه بالفترة التي سبقت احتلال الانجليز لمصر، بل وشبيه بما يفعله البنك الدوليّ الآن بدولنا!!!))

 

يصف الكابتن أ. رامزي هذا الوضع وصفا دقيقا في كتابة "حرب دون اسم" فيقول: "الثورة هي ضربة موجهة إلي جسم مشلول.. عندما تشتد قبضة الديون، يسيطر الدائنون علي مختلف مرافق الإعلام والنشاطات السياسية، مع تشديد القبضة علي الصناعة.. وهكذا يصبح المسرح معدا لضربة الثورة.. تتولى اليد اليمني ـ التي هي يد التمويل ـ بث الشلل في الجسم، بينما تمسك اليد اليسرى ـ التي هي يد الثورة ـ بالخنجر وتهوي علي الضحية بالضربة القاضية.. ويتولى الفساد الخلقي تسهيل العملية وتمهيد الطريق لها".

 

وبينما كانت منشورات الإساءة الدعائية تستنزل اللعنات علي رؤوس رجال الكنيسة والدولة، كان عملاء المؤامرة ينظمون ويدرّبون الأشخاص الذين تقرر جعلهم زعماء حكم الإرهاب الذي سيتلو انهيار الملكية.. وكان بين هؤلاء الزعماء روبسبير ودانتون ومارا.. وكان الرجال المنتقون للهجوم علي الباستيل وإطلاق سراح السجناء والمعتوهين يلتقون في دير اليعاقبة.. هكذا رسمت تفاصيل الخطط الدموية بين جدران ذلك المبني المقدس، وهناك وضعت القوائم بأسماء الرجعيين من النبلاء وأنصار الملك الذين تجب تصفينهم.. وتقرر أن ينطلق المجرمون والمجانين الذين أطلق سراحهم فيُعملون الذبح والتقتيل والاغتصاب العلني بين جماهير الشعب، في الوقت الذي تقوم فيه عناصر الخلايا السرية بإدارة مانويل، بتجميع الشخصيات السياسية الكبيرة ورؤوس الإكليروس والضباط المعروفين بولائهم للملك.

 

***

 

 بعيد انفجار الثورة الفرنسية قام اليعاقبة بالاستيلاء علي السلطة.. وطلبوا من الدوق دورليان أن يصوت علي إعدام ابن عمه الملك.. وظن الدوق أنه سيكون الملك الدستوري علي فرنسا، فصوّت علي إعدام ابن عمه، فترك بذلك القوي الخفية والمخطط الحقيقيين بعيدين عن كل لوم أو شك، وجعل من شخصه هدف كل لوم وشك محتمل.. بعد ذلك أمرت القوي بتصفيته هو أيضا، فركزت ضده كل طاقاتها الدعائية والتشهيرية.. وفي وقت قصير كان الدوق في طريقه إلي المقصلة!.. وبينما كان يستقل العربة في الطرقات المكتظة، كان يسمع بأذنيه صراخ الجماهير من كل الطبقات وهي تندد بفضائحه وتعبر عن بغضها له!!

 

وعندما تبين ميرابو أنه لم يكن إلا وسيلة بيد القوي الخفية لتسليط انتقامها علي الناس، شعر بالندم.. وبالرغم من انحلاله الخلقي لم يستطع ميرابو أن يهضم مشاهد العنف البالغ وأعمال العدوان، التي كان اليعاقبة يسلطونها علي كل أولئك الذين يشير إليهم السادة السريون بأصابع الانتقام والتعذيب.. وكان ميرابو في الواقع يعارض إيذاء الملك، وكانت خطته الشخصية تهدف إلي تقليص دور الملك حتى يصبح مجرد واجهة للحكم، ويكون هو بنفسه المستشار الرئيسي للملك الواجهة.. ولذلك فإنه عندما تحقق من أن هدف سادته هو قتل لويس، أقدم علي تدبير محاولة لتهريبه من باريس ونقله إلي مقر قواته, التي كان قادتها لا يزالون مقيمين علي الولاء له.. ولكن خطة ميرابو تسربت وعرف بها اليعاقبة، فأمروا بتصفيته هو أيضا!

 

علي أن الأمر اختلف بالنسبة له، لأن منظمات التشهير لم يكن لديها الوقت الكافي لحبك شبكة الفضائح والاتهامات حوله، فلجأ المنفذون إلي تسميمه، بصورة بدت معها الجريمة وكأنها حادث انتحار.. وفي كتاب حول قضية الجوهر التي أشرنا إليها سابقا جاءت الملاحظة التالية:

 

"ولم يكن لويس يجهل أن ميرابو مات مسموما"

 

***

 

كان دانتون وروبسبير من الشياطين المتجسدة خلال عهد الإرهاب.. وعدما أتم روبسبير ودانتون عملهما بخدمة أهداف النورانيين، جاء دورهما أيضا، فحيكت حولهما شبكة الاتهامات والفضائح ثم أرسلا إلي المقصلة.

 

***

 

أدرك السير والترسكوت ـ الكاتب البريطاني الكبير ـ الكثير من الحقائق حول القوي الخفية التي كانت تقف وراء الثورة الفرنسية.. ويستطيع أي شخص يقرأ كتابة الضخم "حياة نابليون" أن يحسّ أن المؤلف قد اكتشف الجذور اليهودية للمؤامرة.

 

ويشير السير والتر إلي أن الشخصيات الرئيسية في الثورة كانت بمعظمها رجوما أجنبية، كما لاحظ أن هؤلاء كانوا يستعملون تعاير يهودية خاصة مثل "المدراء" و"الحكماء".. كما يشير سكوت إلي تعيين (ما نويل) مدعيا عاما لكومون باريس بطريقة غامضة.. وينص السير والتر أن هذا الشخص كان مسئولا عن انتقال آلاف الضحايا إلى سجون باريس، وهم بعينهم الذين قضوا نحبهم في المجزرة الكبرى التي جرت خلال شهر أيلول من عام 1792، وذهب ضحيتها 8000 من أولئك السجناء في سجون باريس وحدها.. كما لاحظ السير والتر أن كومون باريس (مجلس مقاطعة باريس) أصبح فيما بعد بيد اليعاقبة، الذين كانوا يصرخون طالبين المزيد من الدم.. ويروي سكوت أن روبستر ودانتون ومارا كانوا أعضاء في كنيس اليعاقبة، حتى وقت إتمام مهماتهم وإعدامهم.. وكان مانويل هو الذي أشعل الشرارة في الحملة علي الملك والملكة، التي انتهت باقتيادهما إلي المقصلة.. وكان يساعد مانويل في أعماله شخص آخر اسمه دافيد، وهو أحد الأعضاء في لجنة الأمن العام، وكان يقوم بمحاكمة الضحايا.. وقد اشتهر بمطالبته الدائمة بالتقتيل وسفك الدماء.

 

ويسجل السير والتر أن دافيد هذا كان يستهل أعماله الدموية كل يوم بعبارة "فلنسفك اليوم المزيد من الدماء".. وكان هو نفسه الذي أدخل عبادة الكائن الأعظم (الذي أحلته الثورة الفرنسية فترة محل الدين المسيحي الذي صدر الأمر بإلغائه)!.. وكانت الطقوس الوثنية الممارسة، نوعا من التقليد للحركات والتمتمات أثناء احتفالات الحاخامين بتلقي الوحي من الشيطان.. وقد حلت هذه مكان كل الطقوس المسيحية.

 

وتجب الإشارة هنا، إلي أن مؤلف السير والتر سكوت الضخم (حياة نابليون)، الذي يحوي تسعه مجلدات، والذي يكشف عن الكثير من الحقائق، قد اختفي ولم يعد معروفا اليوم!!

 

يجب التنويه أيضا بكتاب آخر بكتاب آخر ألفه (ج. رينيه) بعنوان "حياة روبسبير"، فهو يكتب وكأنه علي اطلاع ببعض الأسرار.. يقول في إحدى فقرات الكتاب: "بلغ حكم الإرهاب ذروته القصوى في الفترة بين 27 نيسان و28 تموز من العام 1794.. ففي ذلك اليوم الأخير خذل روبسبير، ولم يكن المسئول عن حكم الإرهاب شخصا واحدا، كما أنه لا يمكن أبدا أن يكون روبسبير ذلك الشخص.. وكان عدد الأشخاص الذين يتمتعون بالنفوذ في ذلك الوقت لا يقل عن عشرين".. وفي موضع آخر يقول رينيه: "يوم الثامن والعشرين من تموز ألقي روبسبير خطابا طويلا أمام الجمعية العمومية، شن فيه هجوما عنيفا علي من أسماهم بالإرهابيين المتطرفين.. ولكن هجومه ذلك تضمن عبارات غامضة، صيغت بصورة غير مباشرة، تحمل اتهامات غير محددة.. وكانت الكلمات التي تفوه بها: "إنني لا أجرؤ علي تسميتهم هنا وفي هذا الوقت.. كما أنني لا أستطيع تمزيق الحجاب الذي يغطي هذا اللغز منذ أجيال سحيقة.. غير أنني أستطيع أن أؤكد، أن بين مديري هذه المؤامرة تابعين لذلك المذهب القائم علي الإفساد والإسراف، وهما الوسيلتان الأكثر فعالية بين جميع الوسائل التي اخترعها الغرباء لتفسيخ الدولة، وأعني بهؤلاء كهنة الإلحاد الدنسين ومبدأ الرذيلة الذي يعيشون عليه".. ويضيف رينيه معلقا: "لو لم يتفوه روبسبير بهذه الكلمات لكان من الممكن أن ينتصر.. كان روبسبير قد تلفظ في الواقع بأكثر مما يجب، ولذلك فقد تلقي طلقة نارية في فكه، أخرسته بصورة عملية حتى اليوم التالي الذي سيق فيه المفصلة"!!

 

وهكذا تم القضاء علي ماسوني آخر أتيح له أن يعلم أكثر مما يجب.

 

بعد أن انتهي مخططو المؤامرة من القضاء علي جميع الضحايا الذين تقرر التخلص منهم في الثورة الفرنسية، بدأوا مرحلة جديدة من التآمر العالمي.. فأرسل أنسليم ماير روتشيلد ابنه ناثان ماير إلي إنكلترا، بمهمة افتتاح فرع لمؤسسة روتشيلد في لندن.. وكان الهدف من ذلك توثيق اتصال المرابين العالميين الذين يسيطرون علي مصرف إنكلترا، والمهيمنين علي كل من مصرف فرنسا ومصرف هولندا ومصرف ألمانيا.. بعد ذلك تمر قرار أصحاب المصارف علي استعمال نابليون أداه لتنفيذ مشيئتهم فقاموا بتدبير سلسلة الحروب النابليونية التي كان هدفها الإطاحة بعدد كبير آخر من العروش الأوروبية.

 

 

 

سقوط نابليون بونابرت:

 

بعدما اجتاح نابليون أوروبا بجيوشه، أعلن نفسه عام 1804 إمبراطورا، وعيّن أخاه جوزيف ملكا علي نابولي، ولويس ملكا علي هولندا، وجيروم ملكا علي وستفاليا.

 

وأما ناثان روتشيلد، فدبر الأمور بحيث جعل من إخوته الأربعة ملوك المال في أوروبا، وأصبح هؤلاء بالتالي السلطة الخفية.

 

وكانت سويسرا مركزا لقيادتهم، وقرروا بالتالي جعل سويسرا حيادية، وعدم زجها بأي من المنازعات ضمانا لسلامتهم وسلامة أموالهم.

 

وفي مقر قيادتهم في جنيف بسويسرا أخذوا يحبكون المؤامرات الخفية من جديد، ودبروا الأمور بحيث يستمرون في جني الأرباح الفاحشة من الحروب، التي كانوا يثيرونها دون أن يهمهم في شيء أمر أي من الفريقين المتحاربين أو نتيجة الحرب.. وكانت وسيلتهم إلي ذلك السيطرة علي مصانع السلاح، وعلي صناعة السفن والمناجم، والصناعات الكيماوية وصناعات الأدوية، وأفران الفولاذ الخ.

 

وهكذا جري كل شيء علي ما يرام.. ولكن كان هناك شيء واحد يضايق جماعة المؤامرة، وهو أن نابليون كان يزداد صلفا وأنانية كل يوم، حتى وصلت به الحال إلي تركهم وفضحهم علنا.. وهكذا وضع بنفسه حدا لمغامرته.

 

يسود الاعتقاد بأن شتاء روسيا وبردها القارص، هما اللذان حولا حملة نابليون ـ الظافرة في مطلعها ـ إلي واحدة من أكبر الفواجع العسكرية في التاريخ.. أما الحقيقة فهي أن سبب الهزيمة كان تخريب خطوط الاتصال، الذي منع وصول الإمدادات من الذخائر والمؤن.

 

أصبحت هذه الخطة ـ التي اتبعتها القوي الخفية لتحطيم جيش نابليون وإجباره علي التنازل عن العرش ـ منذئذ منهجا تقليديا للقوة الخفية وراء الثورات في العالم.. وهذه الخطة في غاية البساطة، فهي تقوم علي وضع عملائهم السريين في المراكز الرئيسية في شُعَب الجيش المختلفة، من تجهيز ومواصلات ونقل واستخبارات.. وهكذا يستطيع قادة المؤامرة بث الاضطراب والفوضى، حتى في أكثر الجيوش قوة وتنظيما، وذلك عن طريق تخريب عمليات التجهيز، وقطع الأوامر وإصدار أوامر متناقضة، وإرسال الإمدادات لغير الموضع المطلوب، وأعمال التجسس والتجسس المضاد.. فالخلايا التي توضع في مثل تلك المواضع الحساسة تعادل عشرة آلاف رجل في ساحة المعركة.. وهذه الوسائل عينها التي اتبعت في إسقاط نابليون، اتبعت فيما بعد لتحطيم جيوش روسيا القيصرية أمام الجيوش اليابانية عام 1904، وكذلك عام 1917 حين قامت الثورة الروسية، وفي أحداث التمرد في الجيش الإيطالي عام 1918.. وكان تسلل الشيوعيين إلي المناصب الحساسة في ألمانيا هو الذي دفع ضباط الجيش الألماني إلي طلب الهدنة فمنحوها عام 1918.. كما أن الوسائل عينها استعملت في تحطيم فعالية الجيش الأسباني عام 1936.. والخطط ذاتها تم استعمالها لإنزال الهزيمة بجيوش هتلر في روسيا، بعد حملتها الظافرة هناك في الحرب العالمية الثانية.

 

وهكذا نجد أن التاريخ يعيد نفسه، لأن القوي التي تسيطر علي مجريات الأمور تستعمل الطرق ذاتها مرة بعد أخري.. ولكن الأهم من كل ذلك، أن نذكر أن أحفاد أولئك الذين تسببوا في سقوط نابليون، هم الذين تسببوا في دحر القوات الصينية الوطنية عام 1954 وحتى الآن.. فقد صدرت أوامر غامضة ذهبت بما قيمته ملايين الملايين من الدولارات من الأسلحة إلي قعر المحيط الهندي، بدلا من أن تذهب إلي تشيان كياي تشك وأنصاره.. وواقع الأمر الذي جعل الحكومتين الأميركية والبريطانية تخونان حلفاءنا الذين يحاربون الشيوعية في الصين وفي كوريا، هو أن أصحاب المصارف العالميين كانوا يناورون لبسط السيطرة الشيوعية علي آسيا، فقاموا بخداع السياسيين في هذين البلدين، لجعلهما يتخليان عن القوات المضادة للشيوعية في المنطقة!

 

***

 

يسجل لنا التاريخ كيف تنازل نابليون عن العرش عام 1814 في باريس، حيث تم نفيه إلي جزيرة إليا، وهربه من هناك ومحاولته استرجاع سابق مجده، وكيف أنه هذه المرة كان يلعب ضد رجال يسيطرون علي لعبتهم تماما.. كان ناثان روتشيلد وحلقته العالمية قد ساندوا ألمانيا لإنزال الهزيمة بنابليون.. وكانت خطتهم هي كسب المزيد من المال مهما كانت نتيجة الصراع.. وقبل وقوع معركة واترلو كان ناثان روتشيلد في باريس.. وكان مقيما في قصر يطل مباشرة علي القصر الذي يشغله لويس الثامن عشر.. وقد عمد من ناحية ثانية إلي تنظيم شبكة من الجواسيس والعيون تنقل إليه أولا بأول أخبار معركة واترلو وشيكة الوقوع، عن طريق الحمام الزاجل.. ونظم في الوقت نفسه شبكة أخري لنقل أخبار ملفقة عن المعركة إلي إنكلترا.. ولما تأكد ناثان من تفوق ولنعنون وظفر قواته، أصدر أوامره إلي عملائه بإرسال أنباء معكوسة إلي إنكلترا تؤكد انتصار نابليون وهزيمة الجيش الإنكليزي.. وهذه الواقعة هي التي أوجدت التعبير الشائع "الحمامة هي التي أخبرتني".. فإذا ما سأل أحد الإنكليز صديقا له: "من أين جئت بهذه المعلومات؟"، فسيجيبه صديقة "أوه، إن الحمامة هي التي أخبرتني"!

 

أما حمائم ناثان روتشيلد فقد كانت تخبر الأكاذيب.. ولقد نقلت إلي الشعب الإنكليزي من الأكاذيب الكبيرة، ما جعل الذعر يعم أوساط الجماهير.. انهارت السوق المالية انهيارا كبيرا، بحيث هبط سعر الجنية الإسترليني إلي شلن واحد، وانهارت أسعار الحاجيات بشكل لم يسبق له مثيل.. وكان ناثان قد استأجر سفينة صغيرة لتنقله من فرنسا إلي إنكلترا بمبلغ مائتي جنيه.. ولدي وصوله قام هو وشركاؤه بشراء كل ما يمكن شراؤه من سندات وأسهم وممتلكات.. ولما وصلت الأخبار الحقيقية أخيرا عن انتصار ولنجتون، عادت الأسعار إلي طبيعتها، فجني المرابون العالميون أرباحا وثروات خيالية.

 

وقررت مؤسسة روتشيلد ـ تعبيرا منها عن الفرح بمناسبة المأثرة التي قام بها ولتنون في القضاء علي نابليون ـ إقراض الحكومة الإنكليزية مبلغ 18 مليون دنية إسترليني، والحكومة الروسية مبلغ 5 ملايين.. وذلك، كما جاء رسميا، للقيام بإصلاح الخراب الذي سببته الحرب.. وعندما توفي ناثان روتشيلد عام 1836، كان قد أمّن السيطرة علي مصرف إنكلترا، وكان القرض القومي الإنكليزي قد وصل إلي 885.000.000 من الجنيهات، بسبب المجزرة الاقتصادية الكبرى التي نفذها روتشيلد عام 1815.

 

***

 

يكاد المرء لا يعثر علي ماسوني أوروبي واحد بين آلاف الماسونيين يعلم شيئا عن القصة الحقيقية لتسلل نوراني محافل الشرق الأكبر إلي صفوف الماسونية الأوروبية الحرة.. علي أن السادة العظام للماسونية الحرة في إنكلترا أدركوا حقيقية الأمر، وهذا ما دعاهم إلي توجيه تنبيه إلي إخوانهم الماسونيين يحذرونهم فيه من الاتصال أو الارتباط بأيّ من ماسوني الشرق الأكبر.. كما أن البابا بيوس التاسع أدرك حقيقة أن النورانيين الثوريين يتسللون إلي صفوف الماسونية الحرة في أوروبا، مما جعله يشن حمله علنية علي الشيوعية والماسونية، ويحذر المسيحيين من الانتساب إلي الماسونية.. وإذا كان يخامر البعض أي شك في حقيقة الدور الذي لعبته الماسونية في الثورة الفرنسية، فسنثبت هنا مناقشة جرت حول هذا الموضوع في مجلس النواب الفرنسي عام 1904.. بعد بضعة أسئلة استجوابيه تقدم بها المركيز روزانب حول ما إذا كانت الماسونية الحرة هي صانعه الثورة الفرنسية قال: "إننا متفقون إذن بصورة كاملة علي هذه النقطة بالتحديد، وهي أن الماسونية كانت الصانع الوحيد للثورة الفرنسية، وهذه التصفيات التي أسمعها الآن في المجلس، تبرهن علي أن بعض الموجودين يعلمون بذلك مثلي تماما". 

 

وعندئذ نهض النائب جومل وهو أحد الأعضاء المعروفين لمحفل الشرق الأكبر وقال: "نحن لا نعلم ذلك فحسب، بل إننا نعلنه علي الملأ".

 

وعام 1923 أقيمت حفلة عشاء كبري حضرها العديد من الشخصيات المهتمة بالسياسة الدولية، وكان بينهم من له علاقات بمنظمة عصبة الأمم.. وفي هذه الحفلة اقترح رئيس محفل الشرق الأكبر في فرنسا علي الحاضرين، أن يشربوا نخب الجمهورية الفرنسية وليدة الماسونية الفرنسية الحرة، ونخب الجمهورية العالمية التي ستولد من الماسونية العالمية.

 

كان المرابون العالميون في فرنسا قد تمكنوا من دفع عملائهم وإيصالهم إلي مناصب استشارية حساسة للقادة السياسيين الذين صمموا معاهدة فرساي المشؤومة.

 

وكان أعظم نصر لهم بعد ذلك، هو تمكنهم من إيصال مندوبهم السيد هيريو إلي موقع النفوذ في فرنسا عام 1924.. وهكذا أصبح بإمكان قادة محفل الشرق الأكبر الماسوني في فرنسا، وضع مشاريعهم وسياستهم الداخلية موضع التنفيذ خلال سنة، علي يد حكومة السيد هيريو.. وسنورد هنا مراجعة لبعض الأحداث التاريخية، التي جرت منذ 1923 وصاعدا، للدلالة علي السيطرة نورانيي محافل الشرق الأكبر علي السياسة في فرنسا:

 

1.  في كانون الثاني عام 1923 أصدرت محافل الشرق الأكبر قرارا بإلغاء السفارة الفرنسية في الفاتيكان، ونفذ البرلمان الفرنسي هذا القرار في الرابع والعشرين من تشرين الأول عام 1924.

 

2.  عام 1932 أيضا طالبت المحافل بتطبيق فكرة العلمنة.. وقد أدلي هيريو ببيان وزاري تأييدا لهذه الفكرة في السابع عشر من حزيران 1924.

 

3.  في الحادي والثلاثين من كانون الثاني عام 1923، طالبت محافل الشرق الأكبر بمنح عفو عام عن كل المساجين من المجرمين والخونة.. واستفاد العديد من الزعماء الشيوعيين البارزين من هذا القرار، وكان منهم (مارتي)،  الذي عرف فيما بعد كمنظم للكتائب التي حاربت إلي جانب الشيوعيين في أسبانيا بين 1936 – 1939.. ووافق مجلس النواب علي مشروع العفو، في تصويت جري في الخامس عشر من تموز 1924.. وهكذا أفلتوا علي الشعب الآمن عصابة من المجرمين الدوليين، الذين كانوا يعملون تحت امرة المجلس الأعلى لمحافل الشرق الأكبر، النورانية.

 

4.  في شهر تشرين الثاني من عام 1922، بدأت المحافل حملة كبري، لإقناع الشعب الفرنسي بإقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة السوفيتية، ولكن هذه الحملة لم تتقدم كثيرا إلا بعد وصول السيد هيريو إلي الحكم.. وقد بدأت حملة الصداقة الفرنسية الروسية تلك، عندما نشر في النشرة الرسمية لمحفل الشرق الأكبر في فرنسا، مقالة عن هذا الموضوع، في تشرين الثاني عام 1922 في الصفحة 286.. وأقيمت العلاقات السياسية بين الحكومة الفرنسية وبين الحكومة الثورية الشيوعية في الثامن والعشرين من تشرين الثاني عام 1924.. وقوي الشر ذاتها تعاود الآن الضرب علي نغمة الاعتراف بالصين الشعبية اليوم.

 

***

 

ونجد في كتاب "الحلبة الإسبانية" للمؤلف وليم فوس والذي طبعته دار "نادي الكتاب" في لندن بإنكلترا عام 1939، معلومات وافية ومفصلة عن المؤامرات التي حاكتها محافل الشرق الأكبر في فرنسا وإسبانيا بين عامي 1923 ـ 1939.. ولكي نتبين استمرارية المؤامرة التي قام بها المرابون العالميون سنلقي الأضواء هنا علي بعض الأحداث:

 

ولد ليون بلوم في باريس لأبوين يهوديين عام 1872.. واشتهر بسبب الدور الذي لعبه في قضية دريفوس Dreyfus.. وقد انتخب رئيسا للوزراء في حزيران عام 1936، وبقي في هذا المنصب حتى حزيران 1937.. ثم أعيد انتخابه في آذار 1937 وبقي حتى نيسان 1937. واستطاع مؤيدوه أن يتدبروا عودته إلي السياسة، بجعله نائبا لرئيس الوزراء من حزيران 1937 وحتى كانون الثاني 1938.. وأقدر الآن أن منديس فرانس يلعب نفس الدور اليوم (كان هذا وقت تأليف الكتاب). 

 

وكانت مهمة بلوم خلال ذلك الوقت، هي أن يكيف سياسة الحكومة الفرنسية تجاه إسبانيا بحسب مشيئة القادة السريين للحركة الثورية العالمية.. ولإبعاد كل شبهة عن أنفسهم عمد المتآمرون إلي إبراز دور الجنرال فرا نكو وأنصاره من المعسكرين، بأنهم كانوا هم المخططين والمنفذين للحوادث التي جرّت إلي الحرب الأهلية في أسبانيا.

 

وقد لعب بلوم دورا مهما في تنفيذ مخطط القادة السريين، بإمداد القوات الملكية الإسبانية بالذخائر والأسلحة والأموال.. وقد عمل علي إبقاء طرق جبال البرينية مفتوحة.. كما عمل علي اتباع سياسة عدم التدخل من جهة واحدة، فقد كانت هذه السياسة تطبق علي قوات فرانكو الوطنية.

 

وقد يعتقد بعض القراء أننا نبالغ في أمر النفوذ الذي تمارسه الماسونية في القضايا الدولية.. إننا نحيل هؤلاء إلي كتاب "دكتاتورية الماسونية الفرنسية" لمؤلفة أ.ج. ميشيل.. ففي هذا الكتاب يثبت المؤلف أن محفل الشرق الأكبر في فرنسا أصدر قرارا عام 1924، بوجوب السيطرة علي عصبة الأمم وجعلها أداه تابعة للماسونية الحرة.. وقد كتب تروتسكي في كتابة "ستالين": "يملك ستالين اليوم برج بابل جديدا في خدمته.. وأحد المراكز الرئيسية لهذا البرج في جنيف مهد المؤامرات.

 

وتقع أهمية ما قاله تروتسكي حول التأثير الشيطاني لماسوني الشرق الأكبر داخل عصبة الأمم، في أن ما قاله ينطبق اليوم علي منظمة الأمم المتحدة.. والدارس لمجريات الأمور في الأمم المتحدة، يري أن ما يحدث من مناقشات وقرارات، تبدو غريبة وفارغة من المعني للشخص العادي في الشارع.. ولكننا إذا ما وضعنا هذه القرارات في موضعها الصحيح من المخطط طويل الأمد لجماعة المؤامرة، لبدت واضحة كل الوضوح.. وللقيام بذلك، ما علينا إلا أن نذكر اثنتين من الوقائع المهمة:

 

أولهما: يعتبر النورانيون أنه من الضروري القضاء علي كل أشكال الحكم الدستورية، سواء كانت ملكية أو جمهورية.

 

وثانيها: ينوي النورانيون إقامة الدكتاتورية العالمية فور سنوح الفرصة، وعندما يتأكدون من أن باستطاعتهم اغتصاب السلطة المطلقة.

 

ويقول م.ج. ماركوس: "يقع مركز الماسونية العالمية في جنيف.. وكذلك تقع مكاتب المؤسسات المرتبطة بالماسونية.. وهذا هو المكان الذي يفد للاجتماع فيه مندوبو الماسونية وممثلوها من العالم كله.. وهكذا نجد أن سر تلك المنظمات المرتبطة بالماسونية واضح وظاهر".

 

وهكذا نستطيع أن نفهم ما قاله السيد الأعظم للمحفل الماسوني في أسبانيا، أمام مؤتمر ذلك المحفل عام 1924، إثر عودته من جنيف.. إذ قال: "لقد أسهمت بالمساعدة في عمل اللجان.. وقد استمعت إلي بول بونكور، جوهركس، لو سيور، ودي جو فنال.. وكان إلي جانبي مندوبون عن الحركة الماسونية في فرنسا.. وكان هؤلاء يسألون بعضهم البعض: هل نحن في اجتماع عالميّ أم في سلك ماسونيّ؟.. وكان الأخ جوزيف أفينال الأمين العام للعصبة".

 

وكانت حكومة الولايات المتحدة قد رفضت أن تنضم لعصبة الأمم.. وكانت بعض المصالح وراء هذه السياسة الانعزالية.. وهكذا فقد تقرّر تحطيم عصبة الأمم، وإنشاء منظمة الأمم المتحدة مكانها.. وقد سنحت الفرصة بقيام الحرب العالمية الثانية.. وقد جمعت أشلاء عصبة الأمم علي أنقاضها بناءً جديدا، هو الأمم المتحدة، التي ضمت فيمن ضمت لدي تأسيسها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كأكثر الأعضاء قوة ونفوذا.. والدليل علي سيطرة القوي الخفية علي الأمم المتحدة وتمكنهم من تنفيذ مخططاتهم عبرها، هو أن الأمم المتحدة سلمت فلسطين إلي الصهيونية السياسية، بعد ما كان الصهيونيون يسعون وراء ذلك لمدة نصف قرن من الزمان.. كما أنها سلمت الصين وكوريا الشمالية ومنشوريا ومنغوليا وجزر الهند الشرقية وأجزاء من الهند الصينية إلي الشيوعيين.. وعلينا هنا أن نتذكر أن لينين كان قد تنبأ بأن القوات الشيوعية ستجتاح العالم الغربي من ناحية الشرق.

 

وقد كشف ضباط الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، الدور الذي لعبه أصحاب المصارف العالميون في الثورة الروسية، ونقلوا ذلك إلي حكوماتهم.. وقد أصدرت الحكومة البريطانية في نيسان 1919 "كتابا أبيض" حول ذلك الموضوع.. وطمس الموضوع بسرعة، ولكنّ بعض الضرر كان قد لحق بالمؤامرة العالمية.. وهكذا وجهت أصابع الاتهام إلي أصحاب المصارف العالميين، تتهمهم بتمويل اليهودية العالمية، لتنفيذ مخططاتهم الهادفة إلي حكم العالم.. وكان علي أصحاب المصارف العالميين أن يجدوا وسيلة يردوا بها علي تلك الاتهامات والأفكار.. و تتجلي وحشيتهم في الرد علي هذه الاتهامات عندما اختير ستالين ـ وهو غير يهودي ـ لخلافة لينين، فأزاح تروتسكي من الطريق، وأخذ بتصفية مئات الألوف من اليهود الروس، في التطهيرات الشهيرة التي أوصلته إلي السلطة.. وهذا يكفي لإقناع المخلصين والمخدرين من الناس في أي مكان بأن المرابين العالميين لا يقيمون وزنا لجموع الشعب من أي دين أو عرق أو لون كانت، بل يعتبرونها أحجارا يمكن الاستغناء عنها في لعبة الشطرنج العالمية.  

 

 

 

 
8الثورة الأمريكية والمناورات المالية

 

 لنفهم كيف استطاع الرجال الذين سيطروا علي بنك إنكلترا وعلي الدين القومي فيها، الهيمنة كذلك علي التجارة والمبادلات والنظام النقدي في أميركا ـ التي كانت ما تزال ولايات متفرقة تابعة للاستعمار البريطاني ـ علينا أن نعود إلي بداية القصة، عندما زار بنجامين فرانكلين (1706 ـ1790) إنكلترا، ممثلا رواد إنشاء المستعمرات الأمريكية.

 

في الصفحة 98 من وثيقة مجلس الشيوخ الأمريكي رقم 23، نقرأ تقريرا كتبه (روبرت ل. أوين) ـ الرئيس الأسبق للجنة البنوك والنقد في الكونغرس الأمريكي ـ عن مقابلة جرت بين شركاء روتشيلد وبنجامين فرانكلين.. يذكر هذا التقرير كيف سؤل المندوب الأمريكي عن السبب الذي يعود إليه ازدهار الحياة الاقتصادية في المستعمرات الأمريكية، فأجاب فرانكلين بالحرف: "إن الأمر بسيط، فنحن نُصدر عملتنا بأنفسنا، ونسميها الأوراق المالية.. كما أننا حين نُصدرها نفعل ذلك بصورة تتناسب مع حاجات الصناعة والتجارة لدينا".

 

هذه الأجابة لفتت نظر آل روتشيلد، إلي الفرصة الكبرى المتاحة لهم لجني الأرباح الطائلة.. ويكفيهم لذلك استصدار قانون بمنع المستعمرات من إصدار عملتها بنفسها، وإرغامها علي الاعتماد علي المصارف التي تُكلّف بذلك.. وكان آمشل ماير روتشيلد لا يزال مقيما في ألمانيا حينئذ، يمد الحكومة البريطانية بالجنود المرتزقة، مقابل 8 ليرات إسترلينية لكل جنديّ.. فكان نفوذه كافيا لاستصدار القانون المطلوب بشأن إصدار النقد الأمريكي.

 

وهكذا أصبحت أوراق النقد الأمريكي السابق لا قيمة لها.. وكان علي سلطات المستعمرات أن تودع في بنك إنكلترا مبالغ وضمانات، للحصول علي المال المطلوب للقيام بالأعمال والأشغال.. وعن هذا الموضوع يقول فرانكلين:

 

"أما بنك إنكلترا، فقد رفض أن يقدّم أكثر من 50 بالمئة من قيمة الأوراق المالية الأمريكية التي عُهد بها إليه بموجب القانون الجديد.. وهذا يعني أن قيمة السيولة النقدية الأمريكية خُفّضت إلي النصف تماما".

 

ينسب المؤرخون والباحثون السبب المباشر للثورة الأمريكية علي إنكلترا إلي "ضريبة الشاي" الشهيرة.. أما فرانكلين ـ وهو أحد الوجوه البارزة في هذه الثورة ـ فيحلل الأسباب كما يلي: "كانت الولايات الأمريكية مستعدة عن طيب خاطر لتقبل هذه الضريبة و مثيلاتها، لولا إقدام إنكلترا علي انتزاع حق إصدار النقد من الولايات المتحدة، مما خلق حالة من البطالة والاستياء".

 

عم هذا الاستياء شيئا فشيئا كل سكان الولايات المتحدة.. ولكن لم يدرك إلا القليل منهم أن الضرائب الباهظة الجديدة والعقوبات الاقتصادية المفروضة، كانت نتيجة لنشاطات عصابة من اللصوص العالميين التي سيطرت علي الخزينة البريطانية.

 

وحدثت الصدامات المسلحة الأولي في 19 نيسان عام 1775، بين البريطانيين وأهالي المستعمرات في لكسنغتون وكونكورد.. وفي العاشر من أيار عقد المؤتمر الثاني للكونغرس في فيلادلفيا، وجري تعيين جورج واشنطن قائدا للقوات البحرية والبرية.. وفي الرابع من تموز 1776 أعلن الكونغرس تبنّيه لوثيقة إعلان الاستقلال.

 

دام الصراع بعد ذلك أعواما سبعة، تعهد المرابون العالميون خلالها بتمويل هذه الحروب الاستعمارية، التي كانت فرصة جنت خلالها مجموعة روتشيلد أموالا طائلة، عن طريق إمداد الحكومة البريطانية بالجنود المرتزقة من ألمانيا.. ولم يكن الرجل البريطاني العاديّ يكنّ أيّ ضغينة لزميله الأمريكيّ، بل علي العكس كان يعطف سرا علي القضية الأمريكية.

 

وفي التاسع عشر من تشرين الأول 1781، أعلن القائد البريطاني الجنرال كورنواليس استسلامه، واستسلام الجيش البريطاني بأجمعه بمن فيه من الجنود الألمانيين المرتزقة.. وفي الثالث من أيلول 1783 أُعلن استقلال الولايات المتحدة رسميا، في معاهدة السلام التي عقدت في باريس.. وكان الخاسر الأوحد في الواقع هو الشعب البريطاني.. فقد ازداد الدين القوميّ في بريطانيا بشكل هائل، ونجح المرابون العالميون في تحقيق الخطوة الأولي في مخططاتهم طويلة الأمد لتفكيك الإمبراطورية البريطانية.

 

واشتغل عملاء المرابين العالميين بجدّ، للحيلولة دون قيام الاتحاد الذي كانت تسعي إليه الولايات الأمريكية.. فقد كان أكثر سهولة عليهم استغلال كل ولاية بمفردها، من السيطرة علي اتحاد الولايات.. ويكفي لإثبات تدخل أصحاب المصارف العالميين في الشؤون الداخلية للأمة، ما جاء في محضر اجتماع "الآباء المؤسسين للولايات المتحدة" في فيلادلفيا عام 1787، حيث بحثوا وجوب إصدار بعض القوانين، التي تكفل لهم الحماية من استغلال هؤلاء المرابين.

 

وعمل عملاء المؤامرة ما بوسعهم للسيطرة علي النقد الأمريكي.. ولكن كل جهودهم ذهبت سدي.. إذ في الفقرة الخامسة من القسم الثامن في المادة الأولي من الدستور ما يلي: "الكونغرس هو صاحب السلطة في إصدار النقد، وفي تعيين قيمته".

 

وتظن أغلبية الشعب الأمريكي أن الدستور منذ وضعه أصبح شيئا مقدسا لا يمس، ولزام علي كل القوانين التي تصدر أن تطابق الدستور.. ولكن الواقع هو أن حرمة الدستور كثيرا ما انتهكت!

 

لا ريب في أن دراسة قضية سيطرة المرابين العالميين علي الاقتصاد الأمريكي، هي دراسة علي جانب كبير من الأهمية.. فقد عيّن مديرو مصرف إنكلترا مندوبا لهم في أمريكا وهو الكسندر هاميلتون.. وقد استطاعت حملة الدعاية الموجهة أن تضفي عليه طابع الزعيم الوطنيّ.. وعمد هو بهذه الصفة إلي تقديم اقتراح بإنشاء مصرف اتحاديّ، علي أن يكون هذا المصرف تابعا للقطاع الخاص.. وكانت هذه الدعوة مناقضة للدعوة التي سادت آنذاك، ونادت بوجوب إبقاء حق إصدار النقد والإشراف عليه بيد الحكومة، التي كانت تنتخب من الشعب مباشرة.

 

ويقضي اقتراح هاميلتون يجعل رأسمال المصرف الاتحادي مبلغ 12 مليون دولار، علي أن يقرض مصرف إنكلترا من هذا المبلغ 10 ملايين، ويسهم بمبلغ المليونين الباقيين أثرياء أمريكيون.

 

لم يأتِ عام 1783، حتى كان هاميلتون وشريكه روبرت موريس قد نظما مصرف أمريكا (بنك أوف أميركا).. وكان موريس هو المراقب المالي في الكونغرس الأمريكي، من جعل الخزينة الأمريكية في حالة عجز بعد سبع سنوات من الحرب.. وهذا برهان آخر علي أساليب السلطة الخفية في استخدام الحروب لتحقيق مخططاتها في الحركة الثورية العالمية.. وقد أقدم موريس علي المزيد، فتأكد من تنظيف الخزينة الأمريكية تنظيفا تاما، فعمد إلي إجراء جديد أجهز به علي ما تبقّى في الخزانة الأمريكية ـ ومقداره 250 ألف دولار ـ عن طريق الاكتتاب به في رأسمال مصرف أميركا.. ولم يكن مدراء مصرف أميركا سوي عملاء لدي مدراء مصرف إنكلترا.

 

بيد أن آباء الاستقلال الأمريكي أحسوا بالخطر الداهم، وبأن تسلط مصرف إنكلترا علي مصرف أميركا قد يؤدي ـ في حالة منح مصرف أميركا حق إصدار النقد ـ إلي تسلطه علي الاقتصاد الأمريكيّ كله.. فتدخلوا لدي الكونغرس، واستطاعوا حمله علي رفض منح مصرف أميركا حق إصدار النقد.

 

توفي (بنجامين فرانكلين) عام 1790.. وفي الحال عمد عملاء المرابين العالميين اليهود إلي القيام بمحاولة جديدة للسيطرة علي المقدرات المالية للولايات المتحدة.. ونجحوا في إيصال مندوبهم الكسندر هاملتون إلي منصب وزير المالية.. وتمكن هاملتون من جعل الحكومة الأمريكية توافق علي منح مصرف أميركا امتياز إصدار النقد، المستند إلي قروض عامة وخاصة، بحجّة أن النقد الذي يصدره الكونغرس سيكون عديم القيمة في الخارج، في حين أن النقد المستند إلي القروض العامة والخاصة سيكون متمتعا بضمانه قانونية، وقابلا لكل أنواع المعاملات والمبادلات.. وهكذا وقع الشعب ضحية لأولئك الرجال الذين يدّعون صداقته!

 

وقد حدد رأس المال الجديد للمصرف بـ 35 مليون دولار، علي أن تسهم فيها المصارف الأوروبية بمبلغ 28 مليون دولار.. ويعتقد بأن المرابين العالميين أحسوا بأن هاميلتون أصبح يعرف أكثر مما يجب، فافتعلت مبارزة بينه وبين مبارز محترف اسمه آرون بير، لقي فيها هاميلتون حتفه.

 

وأعطيت التعليمات من مجموعة روتشيلد لأصحاب المصارف الأمريكية بزيادة السيولة في الأسواق، وبالتوسع في منح القروض والضمانات.. وأخذت وسائل الدعاية والإعلام تلعب علي أوتار التفاؤل والرفاهية، وتبشر بالرخاء والازدهار للجميع.. وانطلقت حملات الدعاية تبشر بأن الشعب الأمريكي سيصبح أعظم شعب علي وجه الأرض.. وسارع الجميع لتوظيف أموالهم في عملية بناء تلك الأمة العظيمة.

 

وعندما وصل الأمر إلي هذا الحدّ، أصدرت مجموعة روتشيلد تعليماتها السرية بالتوقف عن تقديم القروض والاعتمادات، وضغط مقادير العملة المتداولة في الأسواق، ممّا ولد أزمة مالية حادّة، أدّت إلي انهيار اقتصاديّ مريع.. وهكذا عجز المواطنون عن مواجهة الأعباء والواجبات المالية، بينما حصل المرابون العالميون علي عقارات وضمانات بمقدار ملايين من الدولارات، مقابل دفع جزء بسيط من أسعارها الأساسية!!

 

ويجب الاعتراف هنا بأن العملية كلّها جرت علي وجه قانوني وشرعي!!.. أما في الواقع فيبدو آل كابولي Al Gapone وعصابته سادة مهذبين، بالمقارنة مع عصابة الصيارفة العالميين هؤلاء!!

 

علي أن هذه الأزمة لم تمرّ دون أن تثير انتقاد عدد من كبار القادة الأمريكيين.. ولكنّ الظاهر أن تعليقاتهم و تحذيراتهم لم تمنع حلفاءهم من الوقوع في المصائد ذاتها.. في رسالة من جون آدامز (1735 ـ 1826) إلي (توماس جيفرسون) عام 1787، كتب آدا مز يقول: "لا يعود السبب في تلك الفوضى وذلك الخراب إلي نقائص في الدستور، أو إلي انعدام الشرف والفضيلة، بقدر ما يعود إلي الجهل المطبق في الشؤون المالية والأوراق النقدية وطبيعة الحسابات والسيولة".

 

ورد توماس جيفرسون: "أنا أؤمن بأن هذه المؤسسات المصرفية أشد خطرا علي حرياتنا من الجيوش المتأهبة.. وقد خلقت بوجودها أرستقراطية مالية، أصبحت تتحدي بسلطانها الحكومة.. وأري أنه يجب استرجاع امتياز إصدار النقد من هذه المؤسسات، وإعادته إلي الشعب صاحب الحق الأول فيه".

 

وقال أندرو جاكسون: "إذا كان الدستور قد أعطي الكونغرس امتياز إصدار الأوراق النقدية، فليس معني ذلك أن للكونغرس الحق في نقل هذا الامتياز إلي الأشخاص والهيئات الخارجية".

 

أثارت هذه الانتقادات المكشوفة مخاوف المرابين العالميين، ونبهتهم إلي قرب قيام صعوبات في وجههم، بمناسبة حلول موعد إصدار امتياز "مصرف الولايات المتحدة" عام 1811.. ووجه روتشيلد التحذير التالي: "إما إن توافق الحكومة الأمريكية علي طلب تجديد امتياز مصرف أمريكا، وإلا فإنها ستجد نفسها فجأة متورطة في حرب مدمرة".

 

ولم يستطع الأمريكيون أن يصدّقوا أنّ في نيّة أصحاب المصارف العالميين أن يثيروا حربا من أجل مصالحهم، واعتقدوا أن في الأمر خدعة.. وكذلك ظن أندروا جاكسون، الذي قال لهم فيما بعد: "إن أنتم إلا مغارة لصوص ومجموعة مصاصي دماء، ولسوف أعمل علي تحطيمكم بل وأقسم بالله إنني سوف أحطمكم".

 

وأصدر ناثان روتشيلد تعليمات: "علموا هؤلاء الأمريكيين الوقحين درسا قاسيا، وليعودوا إلي حالة الاستعمار وما قبل الاستقلال".

 

وكانت الحكومة البريطانية هي التي بدأت حرب عام 1812.. وكان الهدف من هذه الحرب إفقار الخزينة الأمريكية، إلي حد تضطر معه السلطات الأمريكية إلي طلب السلم وطلب المساعدة المالية.. وقرر ناثان روتشيلد أن المساعدات المالية المطلوبة لن تعطي إلا في حال قبول الحكومة الأمريكية تجديد امتياز مصرف أميركا.

 

ونجحت خطة ناثان روتشيلد نجاحا تاما.. وكانت نتيجة ذلك خلق حالة من الضيق والسخط بين الجماهير، التي تصب اللوم علي السياسات الخاطئة للحكومات الوطنية، بينما كانت القوي الخفية وراء الكواليس بعيدة عن الشبهات، لا يعرف سرها إلا القلة القليلة من الناس. 

 

وجدد الكونغرس الأمريكي امتياز مصرف الولايات المتحدة عام 1816 كما كان مطلوبا.. وصرخ بعض الثقات علنا أن أعضاء الكونغرس قد تلقوا رشاوى وتهديدات للتصويت لمصلحة ذلك القانون الذي أعاد الشعب الأمريكي إلي العبودية الاقتصادية.

 

عام 1857 جري في لندن عقد قران لينورا ابنة ليونيل روتشيلد، علي ابن عمها ألفونسو (وهم يعتقدون بوجوب إبقاء الأشياء ضمن العائلة).. وكانت حفلة الزواج مناسبة كبري جمعت في لندن عددا كبيرا من الشخصيات العالمية، منهم بنجامين درزائيلي رجل الدولة البريطاني والذي عين رئيسا للوزارة عام 1868 وأعيد تعيينه عام 1874.

 

وينقل عن دزرائيلي قوله في تلك المناسبة المهمة: "يجتمع الآن تحت هذا السقف رؤساء روتشيلد، التي امتدت شهرتها إلي كل عاصمة من عواصم أوروبا وكل ركن من أركان العالم.. وإذا أردتم سنقسم الولايات المتحدة إلي شطرين، نعطي أحدهما إلي جيمس، والآخر لليونيل.. وسوف يفعل نابليون الثالث (إمبراطور فرنسا آنذاك) ما أشير عليه به تماما.. أما بسمارك فسوف نعد له خطة ثقيلة تجعله عبدنا الذليل".

 

ويسجّل التاريخ بعد ذلك، كيف عين آل روتشيلد قريبهم (يهوذا ب. بنجامين) مندوبا رئيسيا لهم في الولايات المتحدة.. وهكذا أصبحت الحرب الأهلية الأمريكية التي شطرت الأمة إلي قسمين حقيقية واقعة!

 

كما أقنع المرابون نابليون الثالث باحتلال المكسيك وضمها إلي إمبراطوريته.. وأقنعوا الحكومة البريطانية بإعادة احتلال الولايات الشمالية وإعادتها إلي حظيرة الاستعمار.. وكانت الحرب الأهلية الأمريكية بالنسبة للمرابين العالميين حربا اقتصادية.. وأصبح من السهل علي المرابين العالميين زيادة الضغط الاقتصادي، وإثارة المتاعب المالية في وجه الولايات الشمالية بعد أن تم تحرير العبيد.. وكان إبراهام لينكولن قد قال: "لا تستطيع أمة من الأمم أن تتحمل طويلا أن يكون نصف أفرادها من الأحرار ونصفهم من العبيد".

 

وقدم أصحاب المصارف العالميون قروضا محدودة للقوات الجنوبية لمساندتها في حروب الشماليين.. كما أقرضوا نابليون الثالث مبلغ 201.500.000 فرنك لتمويل حملته في المكسيك.. وفي عام 1863 عرضت القوي الخفية علي نابليون ولايتي لويزيانا وتكساس لمساعدة الجنوبيين، الذين كانوا بحاجة للمساعدة الفعلية ضد الشماليين.

 

وسمع قيصر روسيا بذلك، وأخبر الإنكليز أنهم إذا حاولوا التدخل لصالح الجنوبيين وأمدوهم بالمساعدات العسكرية، فستعتبر روسيا هذا العمل بمثابة إعلان الحرب عليها.. وتأكيدا لتحذيره أرسل عددا من السفن الحربية الروسية إلي الموانئ الشمالية نيويورك وسان فرانسيسكو، ووضعها تحت إمرة لينكولن.

 

وعندما بدأت العقبات والمصاعب المالية تحيط بالولايات الشمالية، لم يرفض المرابون العالميون مدّها بالقروض، ولكنهم اشترطوا أن نسبة الفائدة 28%!

 

إن هذه الحرب كان من الممكن أن تنتهي خلال أشهر معدودة، لو لم يكن المرابون العالميون يقدمون القروض تلو القروض للطرفين.. وكانت هذه القروض تعطي بنسبة ربا فاحشة.. وكان كل شيء محسوبا ومخططا لدي المرابين العالميين، بهدف السيطرة الشاملة علي اقتصاديات الأمة بأسرها.. ولما وجدوا أن الوقت قد حان لإنهاء الحرب أنهوها.

 

***

 

حاول لينكولن بعد هذا فكّ القيود المالية التي طُوقت بها الولايات الشمالية، وعمد إلي تطبيق الدستور متمسكا بالفقرة الخامسة من المادة الأولي، التي تمنع غير الكونغرس إصدار العملة، وأصدر 450 مليونا من الدولارات الرسمية، التي جعل غطاءها القرض القومي.. وانتقم المرابون العالميون من لينكولن، بجعل الكونغرس يصدر قانونا يقضي بأن لا تقبل "أوراق لينكولن" المالية في دفع الفوائد للقروض الحكومة أو في شؤون الواردات.. ولم يقبل المرابون العالميون قبض تلك الأوراق المالية، مما جعلها بدون قيمة تقريبا!!.. وهكذا سببوا خفض الدولار من هذه الأوراق إلي 30 سنتا!!

 

ولما تم لهم ذلك عمدوا إلي شراء تلك الأوراق بمجموعها.. بعد ذلك أخذوا بشراء القروض الحكومية بهذه الأوراق، معتبرين الدولار منها دولارا كاملا.. وبذلك يكونون قد تغلبوا علي عقبة خطيرة، وجنوا أرباحا تقدر بـ 70 سنتا للدولار الواحد!!!

 

وظهرت في صحيفة (لندن تايمز) مقالة موحى بها من قبل المرابين العالميين، وكان موضوعها لينكولن وأوراقه المالية.. وجاء في تلك المقالة: "لو أن هذه السياسة المالية الخاطئة التي ابتدأت في أمريكا الشمالية قبلت وأعترف بها، لأصبح بإمكان الحكومة إصدار أوراق النقد التي تريدها بدون كلفة.. وستدفع بتلك الأوراق كل ديونها، مما يعني أنها ستصبح بدون ديون.. وسيكون لديها كل المال اللازم لإجراء تجارتها والمبادلات.. وهكذا ستكون الأمة الأمريكية الأولي في تاريخ العالم التي ستحقق مثل هذا الازدهار.. وبذلك ستجلب الأدمغة والثروات من جميع أنحاء العالم.. يجب تحطيم هذه الدولة وإلا فإنها ستتسبب بتحطيم كل العروش علي وجه الأرض".

 

وكانت النشرة الدورية "دي هازا رد سيركيولار" تعنى بشؤون المصارف ما وراء البحار.. وقد جاء فيها: "إن الحرب تقضي علي الرقّ.. وهذا ما نؤيده نحن وأصدقاؤنا الأوربيون، لأنّ الرق ما هو إلا امتلاك اليد العاملة.. أما الخطة الأوروبية التي بدأتها إنكلترا، فتقوم علي أن رأس المال يستطيع أن يسيطر علي اليد العاملة عن طريق الأجور.. ويجب علي أصحاب رؤوس الأموال أن يعملوا علي استعمال الأرباح الطائلة التي يجنونها من الحروب، في السيطرة علي قيمة العملة.. وللقيام بذلك، يجب اعتماد السندات الحكومية كأساس من أسس العمليات المصرفية.. ونحن الآن بانتظار أن تنفّذ وزارة المالية الأمريكية هذه النصيحة.. كما أنه ليس من المفيد لنا أن نسمح بتداول" أوراق لينكولن المالية الخضراء" لمدة طويلة، إذ أننا لا نستطيع السيطرة عليها.. ولكن بالمقابل نستطيع السيطرة علي السندات ومن ورائها علي العملة كلها والاقتصاد بأجمعه".

 

وعمد المرابون العالميون إلي تمويل الحملات الانتخابية لعدد كبير من النواب والشيوخ، ليعملوا من خلالهم علي إقرار مشروع قانون الصيارفة.. وقد أصبح هذا المشروع قانونا عام 1863، بالرغم من معارضة الرئيس لينكولن الشديدة له.. وهكذا ربح المرابون العالميون جولة أخري.


***

 

جاء في رسالة وجهتها مؤسسة روتشيلد وإخوانه الصيارفة في لندن بإنكلترا بتاريخ 25 حزيران 1863، إلي مؤسسة السادة أيكلهايمر وموتون فاندر غولد وعنوانها: 3 وول ستريت نيويورك: 

 

"سادتي الأعزاء.. كتب إلينا السيد جون شيرمان من مقاطعة أوهايو في الولايات المتحدة، لإعلامنا عن تقديراته للأرباح التي يمكن الحصول عليها نتيجة للقانون الأخير الذي أصدره الكونغرس بشأن المصارف.. والظاهر أن هذا القانون أتي وفق الخطة التي تبنتها جمعية المصارف البريطانية.. كما نصحت هذه الجمعية الأصدقاء الأمريكيين بأن هذا القانون، في حال تصديقه وإقراره، سيكون سببا في تدفق الأرباح الطائلة علي جماعة الصيارفة في العالم بأسره.. فهذا القانون يعطي المصرف الوطني السيطرة المطلقة علي الأوضاع المالية في الدولة، والقلة التي سوف تنفذ إلي سر ذلك القانون وتعرف حقيقته، لن تبدي أية معارضة له، لأنها ستكون طامعة في جني الأرباح، أو أن مصالحها ستكون متوقفة علي إقراره.. أما جمهور الشعب فسيكون عاجزا عن تفهم طبيعة المشروع، والامتيازات التي سيحصل عليها أصحاب رؤوس الأموال منه، ولن يخامرهم أي شك حتى في أن هذا النظام سيكون ضد مصالحهم.

 

المخلصون: روتشيلد وإخوانه"

 

وجاء في الرسالة التي ردّ بها أيكلهايمر ومورتون وفاندرغولد ما يلي:

 

"يبدو لنا أن السيد جون شيرمان يتصف بالصفات التي تميز رجل المال الناجح، وقد وضع نصيب عينيه الوصول إلي رئاسة الولايات المتحدة، وهو الآن عضو في الكونغرس، وقد قاده تفكيره الصحيح لأن يدرك أن الربح الأكبر، هو في الحفاظ علي صداقة الأشخاص والمؤسسات ذوي الموارد المالية الواسعة.. أما بخصوص تنظيم المصرف الوطني وطبيعة الأرباح الممكن جنيها من توظيف الأموال فيه، فالمرجو مراجعة النشرات المرفقة والتي نصها:

 

·        يستطيع أي عدد من الأشخاص لا يقل عن خمسة تأليف هيئة مصرفية.

·   لا يجب أن يقل رأسمال أي مصرف عن مبلغ مليون دولار، باستثناء البلدان التي لا يتجاوز عدد سكانها 6000.

·        تكون المصارف هيئات خاصة، هدفها جني الأرباح للأشخاص، ولمؤسسيها الحق في اختيار موظفيهم.

·        لا سلطة لقوانين الولاية علي المصارف في الولاية، باستثناء ما يقره الكونغرس بين وقت وآخر.

·   تتقبل تلك المصارف الودائع، وتقدّم القروض المناسبة لمصلحتها الخاصة، كما تستطيع شراء السندات وبيعها وتقاضي الأعمال المصرفية العامة.

·   يستوجب إنشاء مصرف برأسمال مليون دولار، شراء سندات حكومية بما يوازي هذه القيمة.. وبما أن السندات الحكومية تباع بخصم يبلغ 50%، فبالإمكان الآن إنشاء مصرف برأسمال قدره 500.000 دولار.. وستودع هذه السندات الخزانة الأمريكية في واشنطن كضمان للأوراق النقدية التي ستقدمها الحكومة للمصرف.

·   تقدم الحكومة فائدة عن قيمة السندات 6%، وتدفع هذه الفائدة مرتين في السنة.. وإذا ما أخذنا بالاعتبار القيمة الحالية للسندات، لأدركنا أن الحكومة تدفع فائدة بنسبة 12% ذهبا علي المال المودع.

·   وتقدم الحكومة مقابل المستندات المذكورة السيولة اللازمة للمصرف الذي يودع هذه السندات، وتتقاضي عنها فائدة سنوية بنسبة 1%.

·   ولما كان الطلب علي السيولة المالية شديدا، فبإمكان المصرف أن يستخدم الأموال مباشرة في تقديم قروض للناس بفائدة صافية تبلغ 12%.

·   وهكذا فإن الفائدة التي سيحصل عليها المصرف عن السندات، يضاف إليها الفائدة التي تنتج عن إقراض الأوراق المالية والسيولة، ويضاف إليهما الأرباح الطارئة، لترتفع أرباح المصرف إلي نسبة بين 28 و33.3%.

·   وبإمكان المصارف زيادة حجم مبادلاتها أو تقليصه يحسب إرادتها، كما أنها تستطيع منح القروض أو حجبها كما تراه مناسبا.. ويجمع عقد تلك المصارف جمعية مصرفية وطنية توحّد أعمالها.. وهكذا تستطيع المصارف التأثير علي السوق المالية كما تريد.. فبإمكان المصارف أن تتفق مثلا علي رفض إعطاء القروض، فتسبب بذلك هبوطا في الأسواق المالية وتستطيع أن تؤثر علي كافة الإنتاج الوطني.

·        لا تدفع المصارف الوطنية أي ضرائب علي مبالغ السندات أو علي رؤوس الأموال أو علي الودائع.

 

مع رجائنا بأن تعتبروا هذه الرسالة سرية جدا.. تقبلوا فائق احترامنا"

 

***

 

عمد أصحاب المصارف الأمريكيون إلي تطبيق المبادئ المذكورة بعد تبادل تلك الرسائل.. وهكذا عملوا علي سحب السيولة وخفضوا قيمة القروض، إلي درجة أصبح معها المدينون غير قادرين علي مواجهة مسؤولياتهم المالية، فوضع أصحاب المصارف أيديهم علي العقارات والضمانات المرهونة، والتي تفوق قيمتها بكثير قيمة القروض الممنوحة.. وهكذا جني الصيارفة محصولا طيبا.

 

وشعر لينكولن أن الشعب الأمريكي قد أصبح مستعدا لسماع صوت العقل هذه المرة بعد هذه التجربة الحزينة والباهظة، فشنّ للمرة الثانية حملة علنية شديدة علي المرابين العالميين.

 

وفي خطاب للأمة قال: "إنني أري في الأفق نذر أزمة تقترب شيئا فشيئا.. وهي أزمة تثيرني وتجعلني أرتجف من الخشية علي سلامة بلدي.. فقد أصبحت السيادة للهيئات والشركات الكبرى.. وسوف يتبع ذلك وصول الفساد إلي أعلي المناصب.. وسوف يعمل أصحاب رؤوس الأموال علي الحفاظ علي سيطرتهم علي الدولة، مستخدمين في ذلك مشاعر الشعب وتحزباته.. وستصبح ثروة البلاد بأكملها تحت سيطرة فئة قليلة، الأمر الذي سيؤدي إلي تحطيم الجمهورية".

 

كان لينكولن في ذلك الوقت في نهاية مدة رئاسته، ولكن الانتخابات الجديدة حملته إلي الرئاسة مرة ثانية، وهو عازم علي أن يقوم بعمل تشريعي ما للقضاء علي سلطان الماليين العالميين الجشعين.. ولكنه قبل أن يتمكن من ذلك اغتيل، بينما كان يحضر استعراضا مسرحيا مساء الرابع عشر من نيسان عام 1865، علي يد جون ويلكس بوث.. ولا يعرف إلا القليل من الأمريكيين سبب هذه الجريمة.. وقد عثر المحققون آنئذ علي رسالة بالشفرة في أمتعة القاتل.. ومع أن الرسالة لا تشير من قريب أو بعيد إلي الجريمة، إلا أن اكتشافها أثبت وجود علاقة بين بوث وأصحاب المصارف العالميين.. ولو عاش لينكولن مدة أطول لكان بالتأكيد قد تمكّن من قصّ أجنحة المرابين العالميين.

 

قبيل مصرع لينكولن أدلي سالمون ب. تشايس وزير المالية الأمريكي (1816 ـ 1846) بتصريح قال فيه: "إن مساهمتي في إقرار قانون الصيارفة هي أكبر خطأ ماليّ ارتكبته في حياتي.. فقد ساعد هذا القانون علي إنشاء احتكار كبير يؤثر علي كل المصالح في البلاد.. ويجب علينا أن نصلح هذا الوضع.. ولكن قبل ذلك سنشاهد مواجهة عنيفة بين مصالح الناس ومصالح المصارف بشكل لم نعرفة من قبل".

 

عام 1866 كان هناك مبلغ 1.906.687.770 دولار في التداول في الولايات المتحدة.. وهبط هذا الرقم سنة 1876 إلي 605.250.000.. وهكذا نجد أن أصحاب المصارف بسحبهم الأوراق المالية من التداول تسببوا في إنقاص السيولة بين أيدي الشعب، وسحبوا مبلغا يفوق 1.300.000.000 دولار، ممّا سبّب 56.446 حادثة انهيار ماليّ تمثل 2.245.105.000 دولار من الخسائر التي لحقت بالتوظيف المالي.. وكانت الحصة الكبرى من الخسائر في المرهونات والمحجوزات.. وهكذا نري أن أصحاب المصارف بسحبهم السيولة من الأسواق وبتمديد القروض الممنوحة، أضافوا إلي ثرواتهم مبلغا أكثر من بليوني دولار، في وقت لا يزيد علي العشر سنوات كثيرا.

 

***

 

عندما سيطر آل روتشيلد علي مصرف إنكلترا، أصّروا علي أن يكون الذهب غطاء للعملة الورقية.. وفي سنة 1870 تضايق أصحاب المصارف الأوروبيون عندما واجهتهم صعوبة السيطرة علي النقد في الولايات المتحدة.. فقد كانت الولايات المتحدة تستعمل الفضة في سبك وإصدار عملاتها.. وهكذا قرر هؤلاء تجريد الفضة من قيمتها الإبرائية في الولايات المتحدة.

 

أوفد أصحاب المصارف الأوروبيون (إرنست سيد) مندوبا عنهم إلي أميركا، ووضعوا تحت تصرفه مبلغ نصف مليون دولار، لاستخدامه في شراء ضمائر الشخصيات الرئيسية في الهيئات التشريعية الأمريكية.. وأعطي أصحاب المصارف التعليمات لعملائهم عام 1873، لاقتراح مشروع قانون "إصلاح إصدار العملة المعدنية".. وكانت مسودة المشروع مصوغة بمهارة، بحيث لا تظهر الغرض الرئيسي منه.. وكان السناتور الذي قدم المشروع هو (جون شيرمان) ذاته، الذي أشرنا قبل قليل إلي رسالته الموجهة إلي مؤسسة روتشيلد.. وكان يساند شيرمان في هذا عضو الكونغرس (صموئيل هوير).. و مر القانون بدون أي معارضة، بعدما أدلي شيرمان أمام الكونغرس بكلمة رائعة ومضللة!

 

ومرت سنوات ثلاث، قبل أن يتحقق أحد من الخطر الحقيقي الكامن في إقرار ذلك القانون.. فقد كان ذلك القانون محاولة مموهة لإفقاد الفضة قيمتها الإبرائية.. ويقول تقرير للكونغرس إن أحدا من الأعضاء لم يفهم بشكل صحيح مضمون القانون، باستثناء أعضاء اللجنة التي قدمته.

 

ويقول السيد (جون ر. إيلسوم) في الصفحة 49 من كتابة "عاصفة علي الخزانة الأمريكية": "كان إرنت سيد قد قال لصديقه (السيد فردريك أ. لوكتباك) من دنفر بكولورادو: لقد واجهت لجنة مجلس الشيوخ والكونغرس ودفعت الرشاوى اللازمة، وبقيت في أمريكا حتى اطمأنت إلي أن كل شيء علي ما يرام".

 

عام 1878 أقدم أصحاب المصارف علي سحب المزيد من السيولة، وعلي تحديد القروض الممنوحة، مما تسبب في 10.478 حالة إفلاس تجاري ومصرفي في الولايات المتحدة.. ولكن الكونغرس عام 1879 أصرّ علي إصدار كميات كبيرة من العملة، لوقف الأزمة الخانقة المصطنعة، مما خفّض حالات الإفلاس إلي 6.658 حالة.. ولكن القوي الخفية أصدرت تعليماتها عام 1882، فكانت حصيلة المناورات المالية التي جرت بين عامي 1878 و 1892، ارتفاع حالات الإفلاس الاقتصادي في أميركا إلي 14870 حالة، بينما استمرت عمليات الحجوزات علي المزارع والمساكن التي يملكها الأفراد.. وكان المستفيدون الوحيدون هم أصحاب المصارف وعملاؤهم، الذين وضعوا أيديهم علي الممتلكات المرهونة.

 

ويظهر من الأحداث، أن أصحاب المصارف العالميين كانوا يتعمدون خلق حالة من الفشل والفقر واليأس في الولايات المتحدة، لإيجاد مناخ ملائم للحركة الثورية العالمية، التي تعتبر وسيلة بأيديهم للعمل.. ويؤيد هذا الاتهام، رسالة صادرة في 11 آذار 1893 عن جمعية أصحاب المصارف الأمريكيين وموجهة إلي جميع الأعضاء، وتقول:

 

"يجب سحب الشهادات الفضية والأوراق التابعة للخزينة من التداول فورا، ليحل محلها أوراق مالية جديدة يكون أساس غطائها الذهب.. وهذا يتطلب إصدار سندات جديدة تتراوح قيمتها بين 500 مليون دولار ومليار دولار، وتكون هي أساس التداول في العملة الجديدة.. وهذا يفترض من جانبكم سحب ثلث العملة المتداولة، كما يفترض إلغاء نصف القروض الممنوحة.. كما يجب أن تولوا العناية اللازمة لخلق شعور بالضغط الاقتصادي".

 

وانصاع أصحاب المصارف الأمريكيون للأمر، وكانت النتيجة حالة من الذعر الشامل عمّت الشعب الأمريكي عام 1893.. وكان المواطن العادي ينحي باللوم علي الحكومة.

 

عام 1899، عقد في إنكلترا مؤتمر كبير لأصحاب المصارف في العالم، وحضره عن أميركا مندوبان، هما (ج. ب. مورغان) و(أنطوني دريكسيل).. وعند عودتهما إلي أميركا عهدت مؤسسة روتشيلد إلي مورغان بتمثيل وإدارة مصالحها.. وقد برهن مورغان علي كفاءته لهذا المنصب، عندما تمكن من بيع بعض الأسلحة الفاسدة للحكومة الأمريكية.

 

وكانت النتيجة التي تمخض عنها مؤتمر لندن، هي إنشاء احتكار عالمي يضم المؤسسات التالية: (ج. ب. مورغان) وشركاء من نيويورك، (دريكسيل) وشركاء من فيلادلفيا، (غرنفيل) وشركاء من لندن، (مورغان هارجيس) وشركاء من باريس، مؤسسة م.م واربورغ في ألمانيا وأمستردام.. وكانت المؤسسة المشرفة علي هذا الاحتكار هي دار روتشيلد.

 

واندمجت مورغان ودريكسيل، وأسستا هيئة التأمينات الشمالية عام 1901، التي كان الهدف منها إفلاس شركة هاينز ـ مورس.. وكانت شركة هاينز ـ مورس تسيطر علي قطاعات مهمة من الصرافة والشحن وصناعة الفولاذ وصناعات أخري.. وكان من المتعين إفلاسها وإخراجها من السوق الأمريكية، لتستطيع مؤسسة مورغان ـ دريكسيل السيطرة علي الانتخابات الاتحادية.

 

ونجحت مؤسسة مورغان ـ دريكسيل في إيصال (تيودور روزفلت) إلي منصب رئاسة الجمهورية عام 1901.. وكان هذا هو السبب في تأخير إصدار الحكم عليهم، بشأن الاتهامات التي تدينهم باستعمال وسائل غير مشروعة للتخلص من المنافسة.. وكانت الخطوة التالية هي ربط مؤسسة مورغان ـ دريكسيل بمؤسسة كوهن ـ لوب.. وكان أن قامت المؤسستان بتجربة مشتركة لاختبار قواهما مجتمعة.. وكانت التجربة عبارة عن "مجزرة" اقتصادية جديدة.. فقد نظمت المؤسستان ما عرف بـ "الرعب في وول ستريت 1907".. وكانت ردة الفعل الشعبية لوسائل العصابات تلك، كافية لحثّ الحكومة علي اتخاذ بعض الإجراءات.

 

وقامت الحكومة بتعيين لجنة خاصة اسمها "لجنة النقد الوطني"، وعهد إلي السناتور (نيلسون ألدريك) برئاسة هذه اللجنة.. وتبين فيما بعد أن ألدريك كان مرتبطا باحتكارات المطاط والتبغ القوية.. وكان ألدريك آخر من يمكن أن يعهد إليهم بهذه المهمة في الكونغرس!!.. وعلي إثر تسلمه لرئاسة اللجنة، اختار ألدريك بعض الضباط وسافر وإياهم إلي أوروبا.. وأثناء إقامتهم بأوروبا، أعطيت لهم كل التسهيلات الممكنة لدراسة الطرق التي يعتمدها أصحاب المصارف في السيطرة علي اقتصاديات الدول.

 

وقضي الدريك في أوروبا سنتين، صرف خلالهما مبلغ 300 ألف دولار من نقود الشعب الأمريكي، ثم عاد إلي الولايات المتحدة.. وكان كل ما حصل عليه الشعب، هو أن صرح لهم ألدريك أنه لم يكن قادرا علي الوصول إلي أية خطة محددة، تكفل عدم تكرار الأزمات المالية التي كانت تعصف بالولايات المتحدة، ناشرة البطالة ومبددة الثروات ورءوس الأموال الصغيرة!

 

كان ألدريك منذ الحرب الأهلية مقربا من آل روكفلر، حتى إن أحد شباب آل روكفلر تزوج من ابنته آبي.. وقد تلقي ألدريك قبل سفره إلي أوروبا نصيحة باستشارة بول واربورغ، الذي نزل في الولايات المتحدة عام 1902 مهاجرا من ألمانيا، وتبين فيما بعد أنه لم يكن إلا عضوا في مؤسسة م.م. واربورغ الأوروبية المالية في هامبورغ وفي أمستردام.. وكانت هذه المؤسسة كما أسلفنا تابعة لمجموعة روتشيلد.. وقد تمكن في وقت لا يذكر من شراء حصة في مؤسسة كوهن ـ لوب وشركائهما في نيويورك، ومنح مرتبا يبلغ النصف مليون دولار سنويا.. وكان من الشركاء الجدد في المؤسسة يعقوب شيف، وهو الذي موّل الحركات الإرهابية في روسيا خلال الأعوام 1883 ـ 1917.

 

ولقد قام شيف بالسيطرة الكاملة علي حركات النقل ووسائل المواصلات وخطوط الإمدادات في الولايات المتحدة بأسرها.. وقد ثبت أن السيطرة علي تلك المرافق من أشد الضرورات اللازمة لنجاح أي حركة ثورية في أي بلد من البلدان.

 

***

 

في ليلة 22 تشرين الثاني عام 1910، كانت عربة سكة حديد خاصة تنتظر في محطة هوبوكن في نيوجيرسي.. ووصل إلي هناك السناتور ألدريك وبصحته أ. بيات أندروز وهو خبير اقتصادي وأحد كبار موظفي وزارة المالية، وكان قد تربي وتلقي تعليمه في أوروبا.. كما وصل أيضا سكرتير ألدريك الخاص (شيلتون)، ولحق بهم (فرانك فاندرليب) رئيس مصرف نيويورك الوطني.. وكان هذا المصرف هو الممثل لمصالح آل روكفلر ومصالح شركة كوهن ـ لوب في سكة الحديد.. وكان مدراء هذا المصرف قد اتُهموا علنا بمحاولة إثارة الحرب بين الولايات المتحدة وأسبانيا عام 1898.. وبصرف النظر عن صحة هذه التهامات أو بطلانها، فقد كان هذا المصرف إثر انتهاء الحرب مسيطرا علي زراعة قصب السكر وصناعته في كوبا.

 

وكان الآخرون الذين انضموا إلي الاجتماع (هـ. ب. دافيسون) وهو أحد المساهمين الكبار في شركة مورغان، و(شارل د. نورتون) رئيس المصرف الوطني في نيويورك التابع لشركة مورغان.. وهؤلاء الثلاثة الآخرون متهمون بمحاولة السيطرة علي العملة والحسابات في الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها.

 

وكان آخر الواصلين بول واربورغ وبنجامين سترونا.. وكان واربورغ من الغني والنفوذ بحيث يقال إنه كان وراء المسرحية الفكاهية "آني اليتيمة" التي تصور آل واربوك أغني رجال العالم، وباستطاعتهم حماية أنفسهم ومصالحهم بوسائل خارقة.. أما بنجامين سترونا فقد اشتهر خلال المناورات المالية التي قادت إلي الأزمة الكبرى عام 1907.. وكان سترونا أحد كبار المتنفذين لدي شركة ج. ب. مورغان، وقد اشتهر في ذلك المنصب بكفاءته في العمل وتنفيذه الأوامر دون سؤال.

 

وعلم مراسلو الصحف باجتماع أولئك الرجال الذين يسيطرون علي المرافق الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة، فتوجهوا كالجراد ناحية العربة الخاصة.. ولكنهم لم يستطيعوا الحصول علي تصريح من أي من المجتمعين.. وتولّي أخيرا السيد فاندرليب إبعاد المراسلين بقوله: "إننا جميعا ذاهبون لقضاء عطلة نهاية أسبوع هادئة".

 

لم يعرف ماذا جري في عطلة نهاية الأسبوع الهادئة تلك إلا بعد سنين.. أما الذي جري فكان ما يلي: عُقد اجتماع سري في جزيرة جيكيل بجورجيا.. وكان هذا المقر النائي من أملاك ج..ب. مورغان وعدد من شركائه.. وما جري بحثه في ذلك الاجتماع السري كان "بحث الطرق والوسائل الممكنة لتخريب التشريعات المقدمة للكونغرس، والهادفة لتقليص سلطة الاحتكارات والحد من المناورات، والاستعاضة عن هذه التشريعات بتشريعات أخري لصالح أولئك الذين يحضرون الاجتماع".

 

وتلت ذلك الاجتماع اجتماعات أخري في نيويورك، عقدها الرجال أنفسهم وذلك لبحث وإقرار التفاصيل الصغيرة.. ودعا المتآمرون مجموعتهم باسم "نادي الاسم الأول"، لأنهم خلال اجتماعاتهم لم يكونوا يتنادون إلا بالاسم الأول لكل منهم.. وبالاختصار فقد أعد ألدريك وواربورغ وشركاؤهما تشريعات جديدة، هي التي قدمت إلي الكونغرس فيما بعد، تحت صيغة مقترحات تقدمت بها اللجنة التي شكلت ورأسها الدريك.. وأقرت تلك التشريعات عام 1913 تحت اسم "قانون الاحتياط الفدرالي عام 1913".. واقتنعت غالبية المواطنين العاديين في أميركا بأن تلك التشريعات إنما جعلت للحفاظ علي مصالحها، وأن تلك التشريعات وضعت اقتصاد الأمة بين يدي الحكومة.

 

وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.. كان ذلك القانون يسمح لأصحاب المصارف في أوروبا وأميركا بأن يسيطروا علي المقدرات المالية في القارتين، وهذا ما مكّنهم من إشعال الحرب العالمية الأولي، التي لم تكن إلا وسيلة للتسبب في قيام الثورة الروسية سنة 1917.

 

***

 

في عام 1914، كان جهاز الاحتياط الفيدرالي يتألف من 12 مصرفا، اشترت بـ 134 مليون دولار من سندات الاحتياط الفيدرالي.. ويشير تقرير الكونغرس بتاريخ 39/5/1936 أن أرباح هؤلاء بلغت حتى ذلك الوقت أكثر من 23 مليار دولار.. وكانت تقديرات عام 1940 تدل علي أن الاحتياط الفيدرالي قد بلغ 5 ملايين دولار.. ووصل عام 1946 إلي 45 مليون.. وهكذا نجد أن أصحاب المصارف حصلوا علي مالا يقل عن أربعين مليار دولار من عملياتهم المالية خلال الحرب العالمية الثانية.

 

وتظن الغالبية من المواطنين في الولايات المتحدة أن جهاز الاحتياط الفيدرالي يفيد الأمة ككل، وبعتقدون أنه يحمي مصالح المودعين في المصارف لأنه يجعل إفلاس تلك المصارف مستحيلا.. كما يظنون أن أرباح الاحتياطي تعود إلي الخزينة.. ولكنّ الأمريكيين مخطئون في كل ذلك، فالحقيقة هي أن جهاز الاحتياط الفيدرالي وضع بالأساس لحماية مصالح الأمريكيين، ولكن مشاريع القوانين التي رسمت في جزيرة جيكيل في جو رجيا عام 1910، والتي أقرها الكونغرس الأمريكي عام 1913، لم تكن لصالح الشعب الأمريكي بأسره، بل كانت لصالح أصحاب المصارف الأمريكيين المرتبطين بزملائهم الأوروبيين الذين يسعون للسيطرة علي العالم.

 

إن الإحصاءات تشير إلي أنه منذ إقرار هذا القانون عام 1913، أفلس في أميركا ما يزيد عن 14.000 مصرف، مما سبب فقدان الملايين والملايين من الدولارات للمودعين الصغار!  

 

 

 

 
9الثورة الروسية 1917

 

 الحوادث التي سبقت الثورة الروسية: 

 

هزت حملة نابليون عام 1812 روسيا هزة عنيفة، تاركة إياها مثخنة بالجراح.. فأخذ القيصر ألكسندر الأول علي عاتقه إعادة تنظيم بلاده، وأصدر عددا من القوانين ألغت الأحكام الزجرية التي كانت مطبقة علي اليهود منذ عام 1772، والتي كانت تحدد إقامتهم في أمكنة معينة.. وبذل القيصر جهدا لحمل اليهود علي العمل في الزراعة وغيرها، وتشجيعهم علي الامتزاج الكامل بالمجتمع الروسي.

 

عام 1852 مات ألكسندر الأوّل، فخلفه علي العرش نيقولا الأول، فلم ينظر بعين الرضا إلي التغلغل السريع لليهود في الاقتصاد الروسي، ولم ترتح حكومته إلي الإصرار الذي أبداه اليهود للحفاظ علي تراثهم ولغتهم الخاصين وزيهم المميّز. 

 

وهكذا، وفي محاولة منه لإذابة العنصر اليهوديّ في المجتمع الروسيّ، أصدر نيقولا الأول عام 1834، قوانين تجبرُ اليهود علي إرسال أولادهم إلي المدارس الحكومية، وذلك لمحو معاناة الاضطهاد الديني التي كانوا يشربون إياها في الطفولة.

 

غير أن النتيجة جاءت عكس المتوقع، لآن التعليم أصبح إلزاميا لأطفال اليهود، ولم يكن كذلك بالنسبة لأطفال الروس من غير اليهود، مما أدّي إلي جعل اليهود الفئة الأكثر ثقافة في روسيا!

 

وارتقي عرش روسيا القيصر ألكسندر الثاني عام 1855، وكان هو الذي وصفه بنجامين دزرائيلي بـ "أكثر أمراء روسيا تسامحا".. وقد كرس ألكسندر حياته لتحسين الأوضاع الحياتية للفلاحين والطبقات الكادحة واليهود.. وقد حرّر في عام 1861 23.000.000 عبد.. وقد كانوا عبيدا بكل ما في هذه الكلمة من معني، وكانت عمليات بيع الأراضي وشرائها تشملهم، فيباعون من سيد إلي سيد.

 

ودخل العديد من اليهود، الجامعات، ولكنهم بعد التخرج كانوا يواجهون مصاعب وعقبات قاسية.. ولإزالة هذا الإجحاف، أصدر القيصر أوامره بقبول هؤلاء اليهود في المناصب الحكومية، والسماح لهم بالسكن أينما شاءوا في الأراضي الروسية.. وما إن حل عام 1879، حتى كان من اليهود أطباء وممرضون وأطباء أسنان ورجال أعمال ومهن، وكان يسمح لهم بالعمل والسكن في أي مكان من روسيا.

 

ولكن القادة اليهود لحركة الثورة العالمية، كانوا مصممين علي الاستمرار في التحضير للثورة في العالم.. وكانت جماعاتهم الإرهابية ترتكب المجزرة تلو الأخرى، وعملوا علي كسب تأييد الرافضين من المثقفين في روسيا، وعلي زرع فكرة التمرد والثورة في عقول الجماهير العاملة.. وقاموا بأول محاولة لاغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1866.. ونجا القيصر من محاولتين لقتله بأعجوبة.. وتمكن المتآمرون أخيرا في المحاولة الثالثة من اغتياله عام 1881، في بيت يهودية تدعي هسيا هلفمان.

 

وبينما كانت القوات الثورية تحرج الحكومة الروسية في الداخل بكل الوسائل الممكنة، بإثارة المشاغبات والقيام بالاغتيالات السياسية، كانت القوي الخفية من مراكزها في إنكلترا وسويسرا والولايات المتحدة تحاول من جهتها توريط روسيا في حرب مع بريطانيا، ففي مثل هذه الحرب لن تستطيع أي من الإمبراطوريتين إحراز أي مكاسب تذكر.. وتكون النتيجة لمثل هذه الحرب إضعاف كلا البلدين ماديا، وتركهما فريسة سهلة للأعمال الثورية التالية.

 

في عدد تشرين الأولي 1881 من مجلة القرن التاسع عشر، كتب البروفيسور غولدوين سميث أستاذ التاريخ الحديث في جامعة أركسفورد يقول: "عندما كنت في إنكلترا لآخر مرة، كنا علي حافة الحرب مع روسيا.. وكان مقدرا لهذه الحرب أن تورط الإمبراطورية بأكملها.. وكانت المصالح اليهودية في أوروبا، وأداتها الرئيسية صحافة فيينا، تسعي بكل جهدها لدفعنا إلي المعركة".

 

كانت حادثة اغتيال "البابا الصغير" للروس (قيصر روسيا) السبب في موجة واسعة من الغضب، فجّرت أعمال العنف ضد السكان اليهود في العديد من الأراضي الروسية.. ومررت الحكومة الروسية "قوانين أيار" القاسية إرضاء لوجهات نظر الرسميين الروس الكبار، الذين قالوا: "إذا كانت سياسة التسامح التي اتبعها ألكسندر الثاني لم تكن كافية لإرضاء اليهود ومصالحتهم، فلن يرضيهم شيء بعد الآن إلا أن يبسطوا سيطرتهم المطلقة علي روسيا".. وهكذا وللمرة الثانية راح الشعب اليهودي بأسره ضحية الجرائم التي يرتكبها الذين نصبوا أنفسهم زعماء له.

 

في الثالث والعشرين من أيار عام 1882، طلب وفد يهودي برئاسة البارون جينزبيرغ مقابلة القيصر ألكسندر الثالث للاحتجاج علي القوانين المذكورة.. ووعد القيصر بإجراء تحقيق شامل في القضية بأجمعها، وخاصة فيما يتعلق بالأزمة بين اليهود وغير اليهود من سكان الإمبراطورية الروسية.. وفي الثالث من أيلول أصدر البيان الآتي: "منذ مدة والحكومة تولي بالغ العناية لليهود ومشاكلهم، مع الانتباه للأوضاع المحزنة للسكان المسيحيين الناشئة عن الطرق التي يستعملها اليهود في قضايا العمل والمال.. خلال العشرين سنة الماضية لم يكتف اليهود بالسيطرة علي كل التجارات والأعمال بفروعها، بل سيطروا أيضا علي أجزاء كبيرة من الأراضي، إما بشرائه أو بزراعتها.. وباستثناء القليل، كرس اليهود جهودهم كمجموع، ليس لإثراء الدولة ولفائدتها، بل لخداع الشعب الروسيّ بحيلهم الملتوية.. وقد قاسي الفقراء بنوع خاص من هذا، فتصاعدت الاحتجاجات من الرعايا، وتجلي ذلك في أعمال العنف التي قام بها الشعب ضد اليهود.. وقد سعت الحكومة لتخليص اليهود من الاضطهاد والمذابح، لكن لا يسعها تحت ضغط ملح إلا أن تتبني القوانين القاسية، لتخليص الشعب من اضطهاد اليهود وأعمالهم الشريرة".

 

إن إقرار قوانين أيار لم يكن فقط انتقاما لمقتل القيصر ألكسندر الثاني، وإنما كان نتيجة للتحذيرات المتوالية التي وجهها الاقتصاديون الروس للحكومة، بهدف الحد من النشاطات المالية غير المشروعة التي يمارسها اليهود، والتي تهدد الاقتصاد الروسي بالخراب، مع أنهم لا يشكلون سوي نسبة 4.2% من سكان الإمبراطورية.

 

***

 

كان اليهوديّ الألماني تيودور هيرتزل يبث الشكوك عند اليهود، عندما يقوم بإعلامهم عن سياسة كارل ريتر اللاسامية، وكيف أنّها تنتشر بسرعة بين الشعب الألماني.. واقترح هيرتتزل إقامة منظمة يهودية تدعى "حركة العودة إلي إسرائيل" Jewish Back to Israel Movement باسم المحافظين من اليهود.. وكانت تلك بداية الحركة الصهيونية.

 

***

 

بعدما أصدر القيصر ألكسندر الثالث حكمه بلوم اليهود، وإلقاء المسؤولية علي عاتقهم في حالة الفوضى والخراب الاقتصادي في الإمبراطورية، قامت قيادات الحركة الثورية بإنشاء "الحزب الاشتراكي الثوري".. وعهد بتنظيم هذا الحزب إلي رجل قاس لا يعرف الرحمة أسمه جيرشوني.. وكان تنظيم "القطاعات المقاتلة" من نصيب خياط يدعي يفنوا أرنف.. وشدد قواد الحركة الثورية علي ضرورة استجلاب غير اليهود إليها. 

 

وبالإضافة إلي التسبب بالاضطرابات العمالية وخلق الأوضاع السيئة بين طبقات المجتمع الروسي، كانت الأحزاب الثورية فيما بين 1900 و 1906 تثير المتاعب الدينية، حتى أوصلتها إلي درجة الغليان.. وكانت القمة التي وصلت إليها تلك المتاعب حوادث القتل والاغتيال بالجملة.. وحدث الانفجار بشكل ثورة عام 1905.

 

كان من الشخصيات الرسمية الذين قام باغتيالهم قسم الإرهاب في الحزب الثوري، بوغوليبوف وزير التربية عام 1901.. وجاءت هذا الحادث تسجيلا لغضب اليهود علي السياسة التربوية التي تضمنتها قوانين أيار، فقد حددت عدد اليهود الذي يسمح لهم بالانتساب إلي مدارس الدولة وجامعاتها، بنسبة لا تزيد علي نسبة السكان اليهود إلي تعداد الشعب الروسيّ كله.

 

وفي العام التالي "1902" اغتيل وزير الداخلية سيباغين، تأكيدا لغضب اليهود علي سياسة قوانين أيار، والتي قضت بمنع اليهود من السكن خارج أحيائهم ومجمعاتهم الخاصة.

 

عام 1903 اغتيل بوغدانوفيتش حاكم يوفا.. وفي عام 1904 قتل رئيس الوزراء فيشيليف فون بيلف.. وعام 1905 انفجرت أول ثورة عامة في روسيا، واغتيل خال القيصر الدوق سرجيوس في 17 شباط.. وفي كانون الأول 1905 اضطهد الجنرال دوبراسو الثوريين، ولكنهم اغتالوه في العام 1906.


 

بعدما ألقي القيصر اللوم علي عاتق اليهود واتهمهم بالتسبب بالحالة المتردية في روسيا، تلقي البارون جينزبيرغ تعليمات بالعمل علي تفتيت الإمبراطورية الروسية.. وكان من ضمن الخطة خلق الفوضى والاضطراب بين صفوف الجيش الروسي في الشرق الأقصى، عن طريق تدمير خطوط المواصلات في سيبيريا.. وقد أدي ذلك إلي إيقاف الإمدادات والمعونات عن الجيش البري والبحرية الروسية.

 

ومن طرف أخر، أمر أحد ضباط البحرية الروس سفنه، بإطلاق النار علي أسطول من سفن الصيد البريطانية التي كانت في بحر الشمال.. وكان رد الفعل الشعبي في بريطانيا عنيفا.. وقد تطوع بعد هذه الحادثة عدد كبير من ضباط البحرية البريطانية ومن ملاحي السفن التجربة البريطانية لتقديم خدماتهم لليابان.

 

بخلاف أنّ أصحاب المصارف العالميين فرضوا عقوبات اقتصادية علي الإمبراطورية الروسية، وأوصلوها حتى الإفلاس تقريبا.. وضربوا حظرا علي التجارة والمبادلات الروسية.. وعام 1904 وبعد توريط روسيا في الحرب مع اليابان، نكثت مؤسسة روتشيلد بوعودها، ورفضت إمداد روسيا بالمساعدات المالية، بينما قامت شركة كوهن ـ لوب وشركائهما في نيويورك بإمداد اليابان بكل القروض التي طلبتها.

 

جاء في الموسوعة البريطانية طبعة عام 1947 في المجلد الثاني الصفحة 76 ما يلي: "وكان الوزير الروسي يسعي بكل جهده للحصول علي المال.. ودخلت الحكومة الروسية في مفاوضات مع دار روتشيلد للحصول علي قرض كبير.. ووقع الطرفان اتفاقا مبدئيا، إلا أن دار روتشيلد أبلغت وزير المال الروسي أنه ما لم تتوقف أعمال الاضطهاد ضد اليهود، فإن الدار ستتكون مضطرة للانسحاب من العقد.. وقد كانت الحاجة الملحة للخزينة الروسية واحدة من الأسباب التي دفعت للتحالف الفرنسي الروسي، تماما كما كان إنهاء معاهدة بسمارك للحياد المشترك".

 

وكانت مؤسسة يعقوب شيف في نيويورك منذ العام 1897 تموّل حركات الإرهابيين في روسيا.. وعام 1904 ساعد في تمويل الثورة التي نشبت في العام التالي. وكما ساعد في تنظيم حملة عالمية لتمويل ثورة سنة 1917 التي أعطته وشركاءه أول فرصة لوضع نظرياتهم الديكتاتورية موضع التنفيذ.

 

 

 

لينين:

 

اشترك ألكسندر أوليانوف في المؤامرة التي هدفت إلي اغتيال القيصر ألكسندر الثالث.. وقد فشلت تلك المحاولة، وقبض علي ألكسندر أوليانوف وحوكم وحكم عليه بالموت.. وكان هذا هو السبب في أن أخاه فلاديميير نذر نفسه للقضية الثورية، ولمع نجمه وترقي في القسوة والسلطان، حتى أصبح رئيسا للحزب البلشفي، واتخذ لنفسه اسم "لينين".. وقد أصبح فيما بعد الحاكم المطلق الأول لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.

 

تلقي لينين ثقافة جامعية.. وقام الطلاب اليهود بإقناعه أنه قد آن الأوان لقلب الطبقة الحاكمة لكي تباشر الجماهير حكم نفسها بنفسها.

 

ولمع نجم لينين كواحد من المثقفين المفكرين، وارتبط بقادة الحزب الثوري حين كان في أوائل العقد الثالث من عمره.. وفي العام 1895 سافر لينين إلي سويسرا ـ وكان عمره 25 سنة ـ لملاقاة بليخانوف، الذي فر من روسيا.

 

وفي سويسرا انضم لينين وبليخانوف، الذين كانا من غير اليهود، إلي فيرازاسوليتش و ب. أكسلرود ويوليوس تسديرباوم، وكانوا كلهم من اليهود، وألفوا جمعية ماركسية على نطاق عالميّ، أسموها "جماعة تحرير العمال".

 

***

 

أقنعت المحاولة الثورية المجهضة عام 1905 لينين، بأن الطريق الوحيد للقيام بثورة ناجحة، هو تنظيم لجنة دولية تتولى الإعداد لتنفيذ الخطة التي يتفق عليها.. وهكذا أوجد لينين الكومنترن، وهي اللجنة المركزية الدولية للتخطيط الثوري.

 

***

 

بعد ما قرّ رأي لينين حول سياسته الخاصة، عاد إلي روسيا مع مارتوف لتنظيم حملة التمويل، التي تألفت من عمليات الابتزاز وسرقات المصارف وغيرها من الأعمال غير المشروعة.. واحتج لينين لذلك بأنه من المنطقي أن يأخذ أموال الناس الذين يخطط لقلب حكومتهم... وأصر لينين علي أن يكون من برامج التدريب للمبتدئين في الحزب عمليات سرقات المصارف ونسف مخافر الشرطة وتصفية الخونة والجواسيس.

 

والحقيقة أن القادة القلائل الأول للشيوعية كانوا ينتمون إلي طبقة العمال.. وكان معظمهم من المثقفين ثقافة حسنة.. وفي عام 1895 تسببوا بسلسلة من الاضطرابات، تحوّل بعضها إلي أعمال شغب.. وهكذا أوجدوا واحدا من الأصول الأساسية في التخطيط الثوري "تطوير الحوادث الصغيرة حتى تصبح أعمال شغب، والتسبب في إحداث مواجهة فعلية مباشرة بين الشعب والشرطة".

 

***

 

ألقي القبض علي لينين ومارتوف وعدد آخر من الثوريين وأرسلوا إلي السجن، وأنهي لينين سجنه عام 1897.. وهكذا أخذ لينين معه زوجته اليهودية الشابة وأمها، وذهبوا جميعا إلي المنفي.. وخلال فترة المنفى، اتفق لينين ومارتوف وبوتريسوف علي أن ينشئوا صحيفة بعد منفاهم، تكون جامعة لشتات المفكرين والطاقات العقلية في القوي الثورية، التي كانت ما تزال منقسمة إلي أحزاب عديدة.

 

وبعد أن أنهي لينين فترة الحكم بالنفي في شباط 1900، وأنشأ "الابسكرا" Iskra ومعناها الشرارة.. وكانت زوجة لينين سكرتيره مجلس تحريرها.. ولمدة من الزمن كانت تتم طباعة الجريدة في ميونخ بألمانيا، وكانت نسخ الجريدة تهرب إلي روسيا وغيرها من البلدان بواسطة الشبكة السرية التابعة لماسونيي الشرق الأكبر.

 

ودعت الصحيفة إلي إنشاء مؤتمر لتوحيد الجماعات الماركسية المختلفة، يكون مركزه في بروكسل عام 1903.. وتتمثل في هذا المؤتمر الديموقراطيون الاشتراكيون من روسيا، والديموقراطيون الاشتراكيون البولنديون التابعون لروزا لوكسمبورغ وجماعة تحرير العمل وجماعة "الماكسيماليين".. ولكن الشرطة البلجيكية اتخذت إجراءات مضادة، مما دفع الأعضاء للتحرك إلي لندن.. ولهذا المؤتمر أهمية تاريخية، فخلاله حدث الانشقاق العقائدي بين الكتاب الذين يكتبون في "الشرارة"، وأصبح لينين زعيما لمجموعة البولشفيك الذين كانوا يشكلون الأكثرية، وأصبح مارتوف زعيما لمجموعة المنشفيك وكانوا الأقلية.

 

وقد قام المنشفيك بثورتهم عام 1905 في روسيا، بعد أحداث الأحد الدامي، الذي ألقي اللوم فيها علي القيصر.. ولكن الذين تحروا الحقائق وجدوا دلائل كافية علي أن الحادث كان مخططا له، ومنفذا من قبل الجماعات الإرهابية، بهدف إثارة الغضب والحقد ضد القيصر بين جموع العمال غير اليهود.. وقد مكنت تلك الحادثة زعماء الحركة الثورية من الاعتماد علي الألوف من الرجال والنساء من غير اليهود، الذين كانوا حتى ذلك اليوم الحزين يدينون بالولاء للقيصر ويدعونه "الأب الصغير".

 

***

 

في الثاني من كانون الثاني قامت بعض الاضطرابات العمالية في معامل بوتيلوف الضخمة في بطرسبرج، ودعي للإضراب العام.. ولكن الأب جابون، قال إنه سيحل المشاكل المعلقة بالتحدث مباشرة مع القيصر.. وفي يوم الأحد 22 كانون الثاني نظم الأب جابون مسيرة سليمة كبيرة، اشترك فيها الألوف من العمال مصحوبين بنسائهم وأطفالهم.. واتجهت المسيرة إلي أبواب القصر.. وبحسب التقارير الصحيحة كانت المسيرة منظمة ومنضبطة تماما.. وكان المشتركون فيها يحملون لافتات كتب عليها عبارات الولاء للقيصر.. وعلي أبواب القصر، وبدون أدني إنذار، انهالت زخات الرصاص من البنادق والرشاشات حاصدة العمال، وناشرة الفوضى في المسيرة.. وذبح المئات من العمال مع عائلاتهم، وتحولت الساحة أمام القصر إلي فوضي موجعة.. ومنذ ذلك اليوم يعرف هذا التاريخ (22 كانون الثاني) بيوم الأحد الدامي.. هل كان نيقولا الثاني مسؤولا.. الحقيقة الثابتة أنه لم يكن في القصر، ولا حتى في المدينة في ذلك الوقت.. ومن المعلوم أن ضابطا من ضباط الحرس هو الذي أصدر أمر إطلاق النار إلي الجنود.. ومن المحتمل أن يكون هذا الضابط منفذا لأوامر رؤسائه الإرهابيين.. وكان هذا العمل بمثابة الشرارة التي تدير المحرك، وتلا ذلك وهج الثورة الشاملة.

 

بصرف النظر عمن كان المسئول، فقد كانت النتيجة أن انضم عشرات الألوف من العمال الذين كانوا يدينون بالولاء للقيصر، إلي الحزب الاشتراكي الثوري، وامتدت الحركة إلي المدن الأخرى.. وحاول القيصر أن يكبت المد الثوري، فأمر منذ مطلع شباط بإجراء تحقيق في الحادثة علي يد لجنة شيدلوفسكي.. وفي آب أعلن أن الاستعدادات جارية لتشكيل مجلس تمثيلي تشريعي ديموقراطي، وعرف هذا بعد تأسيسه بالدوما Duma.. وعرض أن يمنح عفوا شاملا لكل السجناء السياسيين.. وتحت مفعول هذا العفو، عاد لينين وزعماء البلاشقة إلي روسيا في تشرين الأول.. ولكن لم يستطع القيصر برغم كل ما فعله أن يلجم المد الثوري.

 

في العشرين من تشرين الأول 1905 أعلن اتحاد عمال السكك الحديدية الذي يسيطر عليه المنشفيك الإضراب العام.. وفي الخامس والعشرين من ذلك الشهر امتد الإضراب وشمل موسكو وسمولنسك وكيرسك وغيرها من البلدان.. وفي السادس والعشرين من الشهر تأسست حكومة بطرسبرج الثورية.. وكانت تلك الحكومة تحت سيطرة المنشفيك في حزب العمل الاشتراكي الديموقراطي الروسيّ، مع أن الحزب الاشتراكي كان ممثلا.. وكان أول رئيس له هو منشفيك سبوردفيسك. وقد تم إبداله بسرعة بجورجي نوسار. وهذا بدوره خلع علي يد تروتسكي الذي أصبح رئيسا اعتبارا من التاسع من كانون الأول 1905.. وفي السادس عشر من كانون الأول ألقت قوة عسكرية القبض علي تروتسكي وعلي 300 من أعضاء الحكومة الثورية.. ولم يكن بين الموقوفين بلشفيّ بارز واحد.

 

ولم تنته الثورة.. في العشرين من كانون الأول استولي يهودي اسمه بارفوس علي السلطة في إدارة ثورية جديدة، ودعا إلي إضراب عام في بطرسبرج، فاستجاب لندائه 90.000 عامل.. وفي اليوم التالي أضرب 150.000 عامل في موسكو.. وفي الثلاثين من كانون الأول عادت بعض الوحدات وبعض الضباط الذين كانوا ما يزالون موالين للقيصر، واستعادوا السلطة بأعجوبة.. وهكذا وضعوا حدا للثورة.. وحافظ القيصر نيقولا علي وعده وتم إنشاء الدوما وانتخاب المجلس التشريعي.

 

***

 

في عام 1907 عقد المؤتمر الخامس لحزب العمل الاشتراكي الديموقراطي الروسي في لندن.. ودعا هذا المؤتمر لدراسة ثورة 1905 المجهضة.. وألقي لينين تبعة الفشل علي انعدام التعاون بين المنشفيك وبقية الزعماء الثوريين، ودعا إلي سياسة موحدة وإلي عمل موحد.

 

ورد مار توف الضربة للينين، واتهمه بأنه قصر في تقديم المعونة المفروضة عليه لثورتهم.. واتهمه خاصة بحجز المعونة المالية عنهم.. وكان ما يثير الإزعاج لدي ماروتوف وغيره من الزعماء اليهود مثل ابراهاموفيتش وزورا لوكسمبورغ، هو أن لينين قد استطاع تأمين المال اللازم لحضور هذا العدد الكبير من المندوبين في المؤتمر.. واتهموه بأنه يقوم بتمويل حزبه البلشفي عن طريق النهب والخطف والتزوير والسرقة.. ووبّخوه لرفضه أن يكتتب بجزء معتبر من أمواله المنهوبة لصالح منظمة الوحدة المركزية. 

 

واتفق المؤتمرون في النهاية علي وجوب إيجاد تعاون أوثق بين القادة الثوريين وقرروا اختيار من سيقوم بتحرير صحفهم، وألقوا أهمية كبري علي الدعاية، مع التشديد علي أن كل ما ينشر في الصحف يجب أن يكون ضمن سياسة الصحيفة التي تلتزم بخط الحزب. 

 

وفي العام 1908 بدا البولشفيكك إصدار صحيفتهم "البروليتاريا".. وأصدر المنشفيك "جو لوس سوسيتال ديموقراطيا".. بينما أصدر تروتسكي مطبوعة شبه مستقلة سماها "فيينا برافده" Vienna Pravda.

 

وفي العام 1909، حصل لينين علي التأييد غير المشروط من زعيمين يهوديين، هما زينوفييف وكامينيف.. وأصبحوا يعرفون "بالترويكا" أي الثلاثي.. واستمرت هذه الصداقة حتى وفاة لينين في عام 1924.

 

***

 

قرر لينين أن يختبر شجاعة ومدي إمكانية الوثوق بتلميذه الجديد ستالين، وأراد أيضا أن يُري القواد الآخرين في الحركات الأخرى أنه مستقل ماليا.. وللقيام بهذا العمل المزدوج كلف لينين ستالين بسرقة مصرف تيفليس.. واختار ستالين شريكا له في تلك المهمة أرمنيا يدعي بترويان، الذي أبدل اسمه فيما بعد فأصبح كامو.. وكمنا لعربة المصرف، وقذفها بترويان بقنبلة فجّرت كل ما فيها، ولم يبق صحيحا إلا الصندوق المتين الذي يحوي 250.000 روبل.. وقتل في هذا الحادث 30 شخصا.. وهكذا أثبت ستالين قدرة قيادية كافية فيه.

 

***

 

في نهاية ثورة 1905، شرع القيصر نيقولا الثاني بإجراء إصلاح جذري، وصمم على تحويل الملكية الروسية المطلقة إلي حكم ملكي دستوري علي الطريقة الانكليزية.. وبدأ مجلس الدوما بالعمل، وكان رئيس الوزراء بيتر أو كاديفيتش ستولين أحد المصلحين الكبار، وقد أصدر "قوانين ستوليين"، التي منحت الحقوق المدنية للفلاحين، الذين كانوا يشكلون نسبة 85% من مجموع الشعب الروسي.. وقد أدت إصلاحاته الزراعية إلي تأمين المعونات المالية الكافية للفلاحين، بحيث أصبح بمستطاع الفلاح شراء أرضه بنفسه.. وكان اعتقاده يتجه إلي أنّ الوسيلة الوحيدة لمحاربة دعاة الطريقة الشيوعية في الحياة، هي تشجيع فكرة الاستهلاك الفردي.

 

وكان هم الزعماء الثوريين هو الاستيلاء علي السلطة، ولم تكن تهمهم الإصلاحات في شيء.. وفي العام 1906 حاولت جماعة إرهابية اغتيال ستولين، فدمروا منزله بقنبلة.. وحيكت خطط عديدة للتخلص من رئيس الوزراء، الذي لم يكن الشعب الروسي ليحلم بأفضل منه.. وفي ليلة مظلمة من ليالي أيلول عام 1911، اغتيل أكبر وزير مصلح عرفته روسيا، بينما كان يحضر عرضا مسرحيا في مسرح كييف.. وكان القاتل محاميا يهوديا يدعي موردخاي بورغوف.

 

وقد حاولت الحكومة الروسية أن تطبّق إصلاحات ستولين بعد مقتله.. وفي عام 1912 أعطي قانونين تأمين العمال الصناعيين، تعويضا عن المرض وعن الحوادث، بنسبة ثلثي المرتب العادي عن المرض وثلاثة أرباع عن الحوادث.. وأعطيت صحف الحركات الثورية صفة شرعية لأول مرة بعد إنشائها.. واتسعت المدارس الحكومية وامتدت.. وأعيد النظر في قوانين الانتخابات لتضمن انتخابا أكثر حرية وأكثر تمثيلا.. وفي العام 1913 منحت حكومة القيصر عفوا شاملا لكل السجناء.. وفور إطلاقهم من السجن شرع هؤلاء في التآمر والتخطيط لقلب الحكومة الروسية. ودعا الإرهابيون إلي تصفية أفراد العائلة المالكة.. ولكن الإصلاحات كانت قد أقنعت الأكثرية الساحقة من الشعب الروسي.. وبدا في ذلك الوقت أن قضية الثورة أصبحت مسألة ميتة، فركز الثوريون مجهوداتهم في بلدان أخري، وعلي وجه الخصوص في أسبانيا والبرتغال.

 

وأخذت أجهزة الدعاية الشيوعية تبث ضبابا أحمر.. ونظمت حملة مدروسة من التشهير في روسيا، علي غرار ما جري في فرنسا وإنكلترا قبيل ثورتيهما.. وهكذا أصبح الإنسان العادي لا يتصور القياصرة والنبلاء الروس إلا وحوشا ملتحين، يستعبدون الفلاحين ويغتصبون نساءهم الشابات، ويخترقون أجساد الأطفال برماحهم في أثناء نزهاتهم علي ظهور الجياد عبر القوي.. ولكي تبرهن إن آخر القياصرة كان من المصلحين، فسوف نستشهد بكلمات لبرترام وولف وقد كان ضد القيصرية ومع الثورة.. يقول وولف في الصفحة 360 من كتابة "ثلاثة صنعوا ثورة": "بين 1907 و 1914، وتحت قوانين ستولين للإصلاح الزراعي، أصبح 2.000.000 من الفلاحين مالكين لأراضيهم في القرى.. وقد استمرت حركة الإصلاح تلك حتى في سني الحرب 1914 – 1917.. وفي أول كانون الثاني 1916 بلغ عدد المنتفعين 6.200.000 فلاح.. ورأي لينين أنّه لو تأخرت الثورة عقدين من الزمان، فستحول الإصلاحات الزراعية وجه الريف الروسي، بحيث لا يعود قوة ثورية يعتمد عليها.. وقد كان لينين علي حق.. فعندما دعا في العام 1917 الفلاحين "للاستيلاء علي أراضيهم" كانوا هم قد ملكوا أكثر من ثلاثة أرباعها في ذلك الوقت".

 

***

 

ومن سوء الحظ أن راسبوتين كان يمارس ضغوطا شريرة علي رجال ونساء البلاط الإمبراطوري.. وكانت الإمبراطورة واقعة بشكل كبير تحت تأثير راسبوتين، فقد كان الوحيد الذي استطاع وقف النزيف الذي أصاب ابنها الصغير.

 

ويبدو واضحا أن راسبوتين كان يتمتع بقوي نفسية مغناطيسية، الأمر الذي كان شائعا لدي فئة من الشعب الروسي.. وبدأ أنه استطاع أن يضع الإمبراطورة تحت سيطرته، لجعلها تجبر القيصر علي ما يريد راسبوتين أن يفعله، فكان هو الذي يحكم روسيا، الأمر الذي أدي إلي استياء الشعب الروسي.

 

ومن الثابت أيضا أن راسبوتين أدخل إلي دوائر البلاط رجالا ونساء كانوا يمارسون طقوسا وثنية، مثل التي كانت تنفذ سرا في البالية رويال قبيل اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789.. وكانت هذه الطقوس تستند إلي مبدإ تافه، يقول أن الأرواح لا تنجو إلا إذا انحدرت إلي الدرك الأسفل في الخطيئة!.. وأدخل راسبوتين المخربين إلي البلاط الإمبراطوري، مما مكنهم من الاطلاع علي أسرار الشخصيات الكبيرة، وبالتالي ابتزازهم وجرهم لفعل ما يأمرهم به رؤساء المخربين. 

 

الحرب العالمية الأولى:

 

في كانون الثاني من عام 1910، اجتمع تسعة عشر قائدا من قواد الحركة الثورية العالمية في لندن.. ويعرف اجتماعهم هذا بـ "مجمع كانون الثاني للجنة المركزية".

 

وقرر المجمع القبول بصحيفة "سوسيتال ديموقراطيا" صحيفة الحزب العامة.. واختار البلاشقة لينين وزينوفييف محررين في الجريدة، بينما اختار المنشفيك لتمثيلهم فيها مارتوف ودان.. وعين كامينيف مساعدا لتروتسكي في تحرير صحيفة "فيينا برافده".. وكان علي الأعضاء أن ينشطوا للدعوة إلي مبادئهم الثورية الإلحادية.

 

***

 

اغتيلت إمبراطورة النمسا عام 1898.. واغتيل الملك هومبرت عام 1900، والرئيس ماكينلي عام 1901.. واغتيل الغراندوق رجيوس الروسي عام 1905.. واغتيل ملك البرتغال وولي عهدها عام 1908.

 

قرر قادة الحركة الثورية العالمية المجتمعون في جنيف بسويسرا أنه أصبح من الضروري إزالة الملك كارلوس ملك البرتغال لتأسيس جمهورية في تلك البلاد، وهكذا أصدروا الأمر باغتياله عام 1907.. وفي كانون الأول 1907 ذهب ميغالهايس ـ رئيس مجمع الشرق الأكبر الماسوني في البرتغال ـ إلي باريس، ليحاضر أمام المحافل الماسونية.. وكان موضوع محاضرته "البرتغال، محاولة قلب الملكية، وضرورة إنشاء نظام جمهوري".. وبعد ذلك بأسابيع قليلة، اغتيل كل من الملك كارلوس وابنه ولي العهد.

 

وقال فيرغون ـ خطيب المجمع الماسوني للشرق الأكبر في أسبانيا ـ  في 12 شباط 1911: "ألا تدرون ذلك الشعور العميق بالفخار الذي أحسسنا به لدي إعلان الثورة البرتغالية؟.. فقد تم في ساعات قلائل، الإطاحة بالعرش وانتصار الشعب وإعلان الجمهورية.. كان ذلك بالنسبة للمبتدئين بمثابة ومضة برق في سماء صافية. ولكننا نحن، يا أخوتي، نحن الذين نفهم.. نحن نعرف التنظيمات المدهشة لإخواننا البرتغاليين، كما نعرف حماستهم التي لا تفتر وعملهم الذي لا يتوقف.. ونحن نعلم سر ذلك الحدث المجيد".

 

اجتمع قادة الحركة الثورية العالمية والمسؤولون الكبار في الماسونية الأوروبية في سويسرا عام 1912.. وقرروا في هذا المؤتمر اغتيال الأرشيدوق فرانسيس فرديناند، تمهيدا للحرب العالمية الأولي.. وفي 15 أيلول 1912، نشرت مجلة "ريفيو انترناسونال دي سوستيه سيكرت" التي يحررها (م. جوين) الكلمات التالية علي الصفحات 787 ــ 788: "قد يلقي بعض الضوء يوما علي هذا الكلام، الذي قاله مسئول ماسونيّ كبير في سويسرا، لدي بحث موضوع وريث عرش النمسا.. قال ذلك المسؤول: "إن الأرشيدوق رجل نبيه، ومما يؤسف له أنه محكوم عليه.. سوف يموت علي درجات العرش".

 

وألقي الضوء علي هذه الكلمات خلال محاكمة القتلة، الذين اغتالوا وريث العرش النمساوي وزوجته في 28 حزيران 1914.. وكان هذا العمل الذي ارتكب في ساراييفو، الشرارة التي أدت إلي انفجار الحرب العالمية الأولي.. إن التقرير المختزل الذي كتبه فالروس حول المحاكمة هو وثيقة دامغة.. ويثبت هذا التقرير أن أصحاب المصارف العالميين استعملوا محافل الشرق الأكبر الماسونية لإشعال الحرب العالمية الأولى، تماما كما استعملوها بين 1787 و 1789 لتفجير الثورة الفرنسية.. وفي 12 تشرين الأول 1914 استجوب رئيس المحكمة العسكرية كابرينوفيك Cabrinovic، ملقي القنبلة الأولي علي سيارة الأرشيدوق.

 

قال رئيس المحكمة: "أخبرني المزيد عن البواعث.. هل كنت تعرف قبل القيام بالمحاولة، أن تانكوزيك وسيجانوفيك من الماسونيين؟.. وهل أثر علي قراراتك كونك ماسونيا مثلهم؟".

 

كابرينوفيك: "نعم".

 

الرئيس: "هل تلقيت منهم الأمر بتنفيذ الاغتيال؟".

 

كابرينوفيك: "لم أستلم من أحد أمرا بالاغتيال.. وكل ما فعلته الماسونية هو أنها قوّت من عزيمتي.. والقتل مسموح به في الماسونية.. وقد أخبرني سيجانوفيك أن الماسونية كانت قد حكمت علي الأرشيدوق فرانز فرديناند بالموت منذ أكثر من سنة".

 

أضف إلي ذلك الإثبات، البرهان الآخر الذي قدمه الكونت زيزين، وهو أحد الأصدقاء الحميمين للأرشيدوق.. قال: "كان الأرشيدوق يعلم أن محاولة لاغتياله وشيكة الوقوع، وقد أخبرني قبل الحرب بنفسه أن الماسونيين الأحرار قرروا اغتياله".

 

***

 

وبعد النجاح في إشعال نار الحرب العالمية الأولى، حاول القادة الثوريون إقناع العمال والجنود أن هذه الحرب هي حرب رأسمالية.. وألقوا باللوم علي الحكومات في كل القضايا الشائكة.

 

لما كانت روسيا خارجة من حرب منهكة مع اليابان منذ سنوات قليلة، كان من السهل نسبيا خلق جو عام من الشك والقلق في نفوس العمال الروس، وحتى بين جنود القوات المسلحة في فترة 1914 ـ 1916.. وحتى كانون الثاني 1917، كانت الجيوش الإمبراطورية الروسية قد تكبدت ما يقارب 3.000.000 إصابة، وفقدت زهرة شبابها.

 

كان لينين ومارتوف في سويسرا، وهي البلد المحايد الذي توضع فيه كل المخططات والمؤامرات العالمية.. وكان تروتسكي يتولى تنظيم المئات من الثوريين الروس الذين لجأوا إلي الولايات المتحدة.. وكان قادة المنشفيك يمارسون نشاطهم التخريبي في روسيا.. وأتهم الفرصة في كانون الثاني 1917.. وقد حدثت عمليات نفذت بمهارة، أدت إلي تخريب أجهزة الاتصالات، ومركز النقل ووزارة التموين.. ونتج عن ذلك نقص خطير في المواد الغذائية في بطرسبرج.. وحدث هذا في الوقت الذي كانت فيه المدينة تشكو من تضخم عدد السكان، بسبب العمال الصناعيين الذين كانوا يفدون إليها، بسبب الاحتياج إليهم في المجهود الحربي.

 

وكان شباط 1917 شهرا رديئا، وعمل بنظام تقنين الطعام.. وكان القلق عاما في آذار.. وكانت صفوف المواطنين طالبة الخبز تتزايد باستمرار.. وفي آذار امتلأت الشوارع بالعاطلين عن العمل.. وكان القيصر ما يزال في الجبهة يزور الجنود.

 

وفي 7 آذار، نظم قادة المنشفيك اليهود تظاهرة نسائية في الشوارع، احتجاجا علي النقص في الخبز. 

 

وفي 8 آذار قامت النساء بتظاهرتهنّ الكبرى.. وبعد ذلك تدخل الثوريون.. وكانت جماعات مختارة تقوم بمتظاهرات جانبية.. وظهرت زمر الأشرار هنا وهناك، تنشد الأناشيد الثورية وترفع الإعلام الحمراء.. وفي تقاطع نيفسكي بروسبكت وقنال سانت كاترين، قام رجال الشرطة والجنود بتفريق المتظاهرين بدون أي إصابة.. وبدا أن الأوامر المحددة كانت قد أعطيت للجنود لتجنب التورط مرة ثانية في حادثة مماثلة لحادثة يوم الأحد الدامي عام 1905.

 

في التاسع من آذار امتلأت المنطقة بين نيفسكي بروسبكت وسانت كاترين حتى محطة نيقولاي بالجماهير الحاشدة، التي أصبحت أكثر شجاعة تحت تحريضات مثيري الفتن والمشاعر.. وتولّت خياله القوزاق تنظيف الشارع.. ولم يستعمل الخيالة إلا باطن سيوفهم، ولم تستعمل الأسلحة النارية أبدا.. وأغاظ هذا التسامح الزعماء الثوريين، الذين أصدروا تعليماتهم للمحرضين بزيادة جهودهم، لإحداث مواجهة مباشرة بين الشعب وبين الشرطة والجنود.. وفي الليل ركب الثوريون مدافعهم الرشاشة في مواضع خفية من المدينة.

 

وفي آذار، حدثت حادثة مؤسفة.. فقد احتشد جمهور غفير أمام محطة نيقولاي.. وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر، مرت في تلك الساحة عربة فيها رجل مغطي بالفرو لحمايته من البرد القارس.. وكان الرجل عديم الصبر، فأمر سائقه بالمرور بين الناس.. وكان هذا خطأ منه في الحكم علي أعصاب المحتشدين.

 

سحب الرجل من عربته، وانهال الناس عليه ضربا.. وعندما استطاع الوقوف علي قدميه، جر نفسه إلي عربة متوقفة في الشارع، فلحقه قسم من الجمهور، حيث ضربة أحدهم بقضيب من الحديد علي أم رأسه.. وأثار هذا العمل شهوة الدماء عند الجمهور، فاندفعوا عبر شارع نيفسكي يحطمون النوافذ ويثيرون الشعب.. وبدأت المعارك، وعمت الفوضى.. وكان القادة الثوريون بحسب الخطط الموضوعة، يطلقون النار علي الجماهير من أماكنهم السرية.. وهاج الرعاع، وهاجموا الشرطة، متهمين إياها بالبدء في إطلاق النار عليهم، وذبحوا شرطيا مقابل كل رجل منهم.. ثم جري إطلاق سراح المساجين، ليشتركوا في حملة الدم.. وهكذا خلقوا الظروف الملائمة لحكم الإرهاب.

 

وفي 11 آذار، أدي إطلاق سراح السجناء والمجرمين إلي خلق حالة فوضي وشغب عامة.. وكان مجلس الدوما ما يزال يتابع محاولاته لتطويق المد الثوري.. وأرسلوا إلي القيصر رسالة مستعجلة، يخبرونه فيها أن الحالة خطيرة، ويشرحون بإسهاب حالة الفوضى السائدة.. ولكن الخلايا الشيوعية العاملة في حقل المواصلات أرسلت رسالة أخري.. ولدي قراءة القيصر لهذه الرسالة المزورة، أمر بحل مجلس الدوما!!.. وهكذا حرم نفسه من تأييد أكثرية الأعضاء الموالية له.

 

وفي 12 آذار، ثارت بعض الوحدات وقتل الجنود ضباطهم.. وفجأة استسلمت حاميات حصون سانت بيتر وسانت بول، وانضم معظم الجنود إلي الثورة.

 

وفور استسلام الحاميات، تشكلت لجنة من الدوما مؤلفة من 12 عضوا.. وقد استمرت تلك الحكومة الإقليمية في العمل، حتى قلبها بلاشفة لينين في تشرين الثاني من 1917.. وتولي القادة الثوريون تنظيم حكومة بطرسبرج الثورية، وسمحوا للحكومة الإقليمية بالعمل لأنها كانت تمثل السلطة الشرعية.

 

وتولي لينين أمر أَضعاف نفوذ الزعماء اليهود الثوريين في روسيا، ووعد بسحب الجيوش الروسية من الحرب مع ألمانيا، مقابل أن تساعده الحكومة الألمانية علي قلب الحكومة الإقليمية، وعلي السيطرة التامة علي السياسة والاقتصاد في روسيا.. وبعد الاتفاق علي هذه القضية، عاد لينين ومارتوف وراديك وفريق من 30 شخصا من البلاشقة إلي روسيا سرا، بواسطة عربة سكة حديد مغلقة.. ووصلوا إلي بطرسبرج في 3 نيسان.

 

وقعت الحكومة الإقليمية وثيقة وفاتها بيدها، عندما أصدرت عفوا عاما غير مشروط عن جميع السجناء السياسيين.. وكان العفو يشمل أولئك المنفيين إلي سيبيريا، وأيضا الذين طلبوا اللجوء إلي البلدان الأخرى.. وأتاح هذا الأمر لحوالي 90.000 من الثوريين الروس المتطرفين الدخول إلي روسيا، وكان العديد منهم قادة مدربين.. وجند لينين وتروتسكي هذا العدد الضخم في الحزب البلشفي.

 

فور عودة لينين إلي روسيا، شرع باستعمال وسائل الإعلام لمهاجمة الحكومة الإقليمية التي منحته وأتباعه العفو.. وفي أوائل نيسان كان المنشفيك يسيطرون علي الحكومة الثورية أي مجلس العمال.. وكان يأتي بعدهم في الأهمية "الإيسار" (الاشتراكيون الثوريون).. أما البلاشفة فقد كانوا فئة الأقلية.. وكانت سياسة الحكومة الإقليمية تتجه إلي استمرار الحرب مع ألمانيا، لأن أكثرية الروس كانت تعتبر مطامع النازية الألمانية السوداء خطرا مباشرا علي سيادتها.. وكان تشيدز الذي تولي رئاسة الحكومة الثورية في بطرسبورغ بعد مارتوف مؤيدا لهذا الرأي بكل قواه.. وكان نائب الرئيس سكوبوليف مؤيدا لمتابعة الحرب، لأنه اعتقد أن الثوريين في حال متابعتهم الحرب وهزيمتهم للجيوش الألمانية، سيتمكنون من مساعدة الجماعات الثورية في ألمانيا وبولندا ضد الحكومات المهزومة.

 

كان هدف لينين الوحيد في ذلك الوقت، هو الحصول علي الزعامة.. هاجم سياسة الحكومة الإقليمية، واتهم أعضاءها بالعمالة للبورجوازية، ودعا علنا إلي الإطاحة بها.. وفي ذات الوقت لم يشأ أن يعادي حكومة المنشفيك الثورية، فأصدر تعليماته إلي المحرضين البلاشقة بدعوة عمال المصانع وجنود الحاميات إلي تدمير الحكومة الإقليمية.

 

وكان تروتسكي ضمن الألوف من الثوريين الذين عادوا إلي روسيا بعد العفو، وأخذ معه في طريق العودة المئات من الثوريين الذين هربوا من روسيا إلي أميركا وكندا.. وكانت غالبيتهم العظمي من يهود الأطراف الشرقية من نيويورك.

 

وساعد هؤلاء الثوريون لينين في الوصول إلي السلطة.. وكان معظمهم بعد إنهاء مهماتهم، يحكم عليهم بالموت أو بالنفي.. ولم ينقض وقت طويل حتى كان أعضاء المؤتمر العالمي الأول إما مقتولين وإما في السجن وإما في المنفى!

***

 

والإثباتات حول الدور الذي لعبه الصيارفة العالميون لمصلحة لينين في الثورة الروسية، نجده في "الكتاب الأبيض" الذي صدر في بريطانيا بإذن الملك في عام 1919 "روسيا رقم 1".. ولكن الصيارفة العالميين العاملين من خلال مدراء مصرف إنكلترا "أقنعوا" الحكومة البريطانية بسحب الوثيقة الأصلية، واستبدالها بأخرى حذفت منها كل إشارة لليهود العالميين.

 

يقول فرانسوا كوتي في عدد الفيغارو في 20 شباط 1932:

 

"إن هذه الهبات التي كان يمنحها يعقوب شيف إلي حركات الفوضويين والثوريين في روسيا وسائر البلاد، ليست نفحات من الكرم الفرديّ.. وقد أسست في الولايات المتحدة منظمة روسية إرهابية علي نفقة شيف، مهمتها اغتيال الوزراء والحكام ورؤساء الشرطة وغيرهم".

 

والنورانيون الذين يستعملون الشيوعية والنازية لتحقيق مطامعهم السرية الديكتاتورية يضعون العمل الثوري في ثلاث مراحل أو حركات:

 

1.    تغيير شكل النظام القائم إلي دولة اشتراكية، وبالوسائل الدستورية إذا استطاعوا.

2.    تحويل الدولة الاشتراكية إلى ديكتاتورية عمالية، بواسطة العمل الثوري. 

3.    تحويل الديكتاتورية العمالية إلي حكم مطلق، بتطهير كل الأشخاص الذين يقفون في طريقهم.

 

***

 

بعد عام 1918 انقسم اليهود الروس إلي قسمين: الثوريون المتشبثون بالنظريات الماركسية، العاملون علي إقامة اتحاد عالمي من الجمهوريات الاشتراكية (التروتسكيون).. والقسم الآخر يحبذ العودة إلي فلسطين (الصهاينة).. وتقول الآنسة ب. باسكرفيل في كتابها "اليهودي البولندي"، الصادر عام 1906، في الصفحات 117 – 118: "تهدف الصهيونية السياسية إلي تحويل الصهاينة إلي اشتراكيين قبل هجرتهم إلي فلسطين، وذلك لتسهيل إقامة الحكومة الاشتراكية.. وفي ذات الوقت يحاولون قلب الحكومات الأوروبية التي لا تعمل وفق مبادئهم.. ويحتوي برنامجهم المليء بالأفكار الاشتراكية علي تنظيم الإضرابات وأعمال الإرهاب".

 

وفي آذار 1918 غير البلاشقة اسمهم، وكانوا قد سموا أنفسهم "حزب العمل الديمقراطي الروسي"، فصاروا يعرفون باسم "الحزب الشيوعي" ونقلوا مقرّهم إلي موسكو.

 

لم يقبل الحزب الاحتياطي الثوري الذي يقوده اليهود أن يصبح لينين الرجل الأول في روسيا، لذلك حاول اثنان من هذه الجماعة اغتياله في 30 آب 1918، فجرح لينين بينما قتل يورتزكي الذي عينه لينين قائدا لمنظمة شيكا.. وقد أخذ لينين هذا الحادث مبررا للقيام بأعمال إرهابية واسعة جدا وبدون أي توقف، فأصبحت الغارات الليلية تجري بشكل متواصل، حتى إن الذي كان يذهب لينام في فراشه لم يكن يدري هل سيعيش ليلقي الصباح أم لا!.. يقول دافيد شوب في كتابه المؤيد للماركسية "لينين": "وقد ضيع القليل من الوقت في استقاء الشواهد وفي تصنيف الناس "المكدسة" نتيجة هذه الغارات الليلية.. ويقاد المساجين إلي مركز البوليس القديم بجانب القصر الشتوي، حيث يعدمون رميا بالرصاص".

 

ولقد كان القتل والتعذيب والبتر والاغتصاب والحرق، كل ذلك كان الصخرة العقيمة التي قام عليها ما يدعي "بجمهورية السوفيات الاشتراكية".

 

لقد مات الملايين من المواطنين الروس، كما أنّ هناك ما يقدر باثني عشر مليونا آخرين، حكم عليهم بخدمة الدولة عن طريق الأعمال الإجبارية حتى يطلق سراحهم بالموت.  

 

 

 

 
10الحرب العالمية الأولى والصهيونية

 

 بعد اندلاع الحرب العالمية في آب 1914 بفترة وجيزة، طلبت مجموعة من كبار الأثرياء من أحد المهندسين، أن يحول أحد القصور القديمة إلي ناد خاص.. وقد أصر هؤلاء الأثرياء على حفظ أسمائهم طيّ الكتمان، لأنّهم يريدون التعبير عن عميق امتنانهم وشكرهم، للضباط الذين يعرّضون حياتهم للخطر في سبيل الوطن.. وقد قام هذا النادي بتوفير كل وسائل الترفية والتسلية والمتعة.. كان استعمال النادي مقتصرا علي ضباط الخدمة، عندما يعودون من الجبهة لتمضية إجازاتهم في لندن.. أما الأعضاء الجدد، فكان يجري تقديمهم إلي النادي عن طريق أحد الأخوة الضباط، وتجري مقابلة بين الضيوف وأحد المسئولين.. فإذا اقتنع هذا بأنه يمكن الوثوق بهم، أخبرهم كيف يجري العمل في النادي.. لذلك كان علي الضابط المتقدم للدخول أن يعد بشرفة أن لا يذكر اسم أي شخص قابلة خلال مكوثه في النادي أو بعد خروجه.. ثم يُشرح لهذا الضيف كيف أنه سيقابل مجموعة من أشهر سيدات المجتمع في لندن وهن مقنّعات، فعليه أن لا يحاول معرفة شخصية أي منهن.. وإذا حدث بالمصادفة أن تعرّف علي إحداهن، فوعده يشمل المحافظة علي سرّهن.

 

وبعد انتهاء هذه الخطوات الأولية، يؤخذ الضابط إلي غرفته الخاصة التي فرشت علي أفخم طراز.. وكان يطلب من الضيف أن يعتبر بنفسه في منزله، ويعلم بأنه ستزوره سيدة ترتدي قلادة عنق كتب عليها رقم غرفته.. فإذا أحب بعد أن يتم التعرف عليها أن يصحبها إلي غرفة الطعام، فهذا يعود إليه وله كامل الحرية.

 

وحدث في شهر تشرين الثاني من عام 1916، أن وصلت رسالة إلي أحد الشخصيات السياسية الهامة، تطلب منه القدوم إلي النادي لتلقي معلومات علي غاية من الأهمية، فقدم بسيارته الخاصة وطلب من سائقه الانتظار، ثم دلف إلى الداخل، حيث اصطحبه المسئولون إلي مخدع وثير ثم تركوه منفردا.. ولم يلبث أن دلفت إلي المخدع امرأة شابة، ما أن شاهدته حتى كاد أن يغمي عليها، فقد كانت زوجته، وهي تصغره بسنوات عديدة، وتقوم بعملها كمضيفة للضباط في إجازاتهم منذ وقت ليس بالقصير!!.. ولقد كان الموقف حرجا بالفعل، فالزوجة لا تعلم شيئا من المخطط الذي جمعهما، وليس لديها أية معلومات سرية لتفشيها، وقد كانت مقتنعة أن المصادفة السيئة هي التي أدت للقائهما وجها لوجه.. وعرف الزوج عن دور المضيفة التي تقوم به في النادي، ولكن شفته لم تتحرك وكأنها ميتة، فهو عضو في الحكومة ولا يمكن أن يتحمل الفضيحة!

 

كان كل عضو في النادي ـ رجلا أو امرأة ـ جاسوسا علي الآخرين، ينقل أخبارهم إلي رؤسائه، فتتكون من الإخباريات معلومات، كانت تطبع وتسجّل فيما يسمي "الكتاب الأسود".. فيذكر في هذا الكتاب عيوب ونواقص الأفراد، ورذائلهم الخاصة ونقاط ضعفهم.. كما تذكر أوضاعهم المالية وأحوالهم العائلية، ومدي تعلقهم بأقربائهم وأصدقائهم.. كما تدون صلاتهم وتأثيراتهم علي كل من رجال السياسة المرموقين ورجال الصناعة ورجال الدين.

 

وفي تشرين الثاني من عام 1916، حاول أحد أعضاء البرلمان الإنكليزي أن يفضح أمر "النادي الزجاجي"، وأن يبين حقيقته، فقد شكا ثلاثة من الضباط بأن النادي يحاول ابتزاز المعلومات منهم بعد أن دخلوا في العضوية، وأن النادي هو مركز للجاسوسية ينقل المعلومات الهامة إلي العدو.. وقد اشترك أيضا في هذه المغامرة سيدة أسترالية وسائقها، والعديد من زوجات وبنات الرسميين في الحكومة.. ولكن هذه المحاولة لكشف حقيقة النادي آلت إلي الكتمان، فسياسة الحكومة كانت تميل إلي الاعتقاد بأن فضيحة بهذا الحجم قد تسبب كارثة وطنية، في وقت يواجه فيه الجيش ضربات بحرية وبرية وجوية قاسية.. عندئذ بدأت الصحافة (التحررية) تهاجم رئيس الوزراء، فاتهمته باستخدام غير الأكفاء في المناصب الحكومية، كما اتهم بأن له ارتباطات واسعة مع صناعيين وممولين ألمان في الفترة التي سبقت الحرب، وبأنه يميل إلي القيصر.. واتهم أيضا بأنه غير قادر علي اتخاذ التدابير الحازمة والقرارات المستعجلة.. واستعملت عبارة ”انتظر وستري اسكويت".

 

وقد أدّت فضائح تتعلق بارتباط بعض الرسميين ذوي المناصب العليا بالنادي الزجاجي، إلى استقالة الحكومة.. وبهذا تكون الإمبراطورية البريطانية قد اضطرت بالقوة إلي تغيير الفرسان السياسيين في منتصف الحرب الكبرى.. ولما استقال السيد اسكويت في كانون الأول 1916، تلته وزارة ائتلافية يرأسها دافيد لويد جورج.. أما وينستون تشر شل وبلفور فكانا من أبرز أعضائها.

 

وقد علمت من السجلات الرسمية أن الضباط الثلاثة الذين قدّموا الشكوى بخصوص النادي الزجاجيّ، قد "قتلوا أثناء العمليات في الحرب"، وهذا شيء معقول في أيام الحرب.. بعد ذلك علمت أنّ السيدة الأسترالية وسائقها قد ألقي القبض عليهما بحجة الدفاع عن المملكة.. ثم أعلن أن العضو المذكور في فضيحة البرلمان قد اعتزل الحياة العامة.. وبعد أسابيع قليلة نقلت من منصبي في المخابرات الملكية، وعيّنت كضابط بحريّ في سلاح الغواصات البريطاني.. ولقد خسرنا 33% من ضباطنا ورجالنا، وكنت أنا من الذين قدّر لهم أن يبقوا علي قيد الحياة.

 

***

 

هذا ولم اكتشف مدي الأهمية السياسة الصهيونية بالنسبة للذين يخططون السيطرة الكاملة علي اقتصاديات العالم، إلا بعد مدة طويلة من الحرب، وبعد أن بدأت بنفسي دراسة التاريخ المعاصر والأديان المقارنة.. والأحداث التالية تتكلم عن نفسها:

 

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان اسكويت رئيسا للوزراء، وكان معاديا للصهيونية.. فقرر الممولون الدوليون إزاحة حكومة اسكويت، وإحلال حكومة ائتلافية مكانها، علي أن يكون للويد جورج ووينستون تشرشل عمل كبير فيها.. وكان دافيد لويد جورج محاميا عن الحركة الصهيونية، التي خططت لها ومولتها عائلة روتشيلد.. أما وينستون تشرشل فكان مؤازرا للصهيونية السياسية منذ دخوله إلي المعترك السياسي.

 

***

 

في عام 1917 كان الممولون الدوليون يمدون في نفس الوقت الحركتين البلشفية والنازية.. وقد يبدو من غير المعقول أن يبقي المجلس النيابي البريطاني دون علم بما يجري حوله، خصوصا بعد أن وجدت الحكومة نفسها مضطرة للتدخل لإخلاء سبيل تروتسكي ورفاقة الثوريين، بعد أن ألقي القبض عليهم في هاليفكس، بينما كانوا في طريقهم من نيويورك إلي روسيا.

 

أما بالنسبة لسياسة بريطانيا عام 1916 تجاه روسيا، فان المبرر الوحيد لها، هو إن الحكومة البريطانية كانت تعلم أن المساعدة المالية والعسكرية لن تقدم من قبل أميركا، حتى تسقط الحكومة الروسية.. وقد يبدو هذا التحليل سخيفا ولكن الحقائق التالية تؤكده:

 

بدأت الثورة الروسية في شباط 1917 وعزل القيصر في الخامس من آذار نفس العام.. مباشرة بعد ذلك، رفع يعقوب شيف الشريك في مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك، القيود المالية المفروضة علي الحلفاء، وأمر ابنه مورتيمر بإرسال برقية إلي السير ارنست كاسل تقول: "بسبب الأعمال الأخيرة التي تقوم في ألمانيا، والتطورات في روسيا، لن نستمر في حظر الأموال عن حكومات الحلفاء".

 

وفي الخامس من نيسان من نفس العام، أعلنت الحكومة البريطانية عن إرسال أرثر جيمس بلفور وزير خارجيتها إلي الولايات المتحدة، للاتصال بممثلي المصارف الأميركية، وإبلاغهم رسميا بأن الحكومة البريطانية ستتبنى مشاريعهم المتعلقة بالصهيونية، مقابل تعهدهم بإدخال أميركا إلي جانب الحلفاء.. وهكذا دخلت أميركا الحرب، وهبطت الكتائب الأمريكية الأولي في فرنسا في السابع من حزيران 1917.. وفي 18 تموز كتب اللورد روتشيلد إلي السيد بلفور ما يلي:

 

"عزيزي السيد بلفور.. أخيرا أصبح بإمكاني أن أرسل لك الصيغة التي طلبتها، فإذا تلقيت ردا إيجابيا من حكومة صاحب الجلالة ومنكم شخصيا، فسأقوم بإبلاغ ذلك إلي "الاتحاد الصهيوني" في اجتماع خاص، سوف يدعي إليه لهذا الغرض خصيصا".

 

وجاء في النسخة الأولية للنص ما يلي:

 

1.    تقبل حكومة صاحب الجلالة بمبدأ وجوب إعادة تأسيس فلسطين كوطن قومي لليهود.

2.  سوف تبذل حكومة صاحب الجلالة كل طاقتها لتأمين الوصول إلي هذا الهدف، وسوف نتناقش فيما يتعلق بالطرق والوسائل التي يتطلبها تحقيق هذا الهدف مع المنظمة الصهيونية.

 

وهكذا خضعت الحكومة البريطانية ـ ممثلة بالمستر بلفور ـ دون قيد أو شرط، للشروط التي وضعها اللورد روتشيلد وزملاؤه زعماء المنظمة الصهيونية.. ويتبين لنا ارتباط هذه الحكومة بهؤلاء، من قبولها لطلباتهم الأخرى، ولاسيما طلب تعيين اللورد ريدينغ Reading رئيسا للبعثة الاقتصادية البريطانية في الولايات المتحدة، في حين أن اللورد ريدينغ هذا ليس سوي السير روفوس إسحاق، الذي اقترن اسمه بفضيحة فاركوني الشهيرة.. وقد تبني إقناع الحكومة البريطانية بتعيينه لهذا المنصب الحساس، اللورد روتشيلد ذاته، وزملاؤه من الزعماء الصهيونيين السير هربرت صاموئيل (الذي أصبح فيما بعد، أول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين)، والسير ألفرد موند (الذي منح أيضا لقب لورد فيما بعد).

 

وقد أجري اللورد ريدينغ محادثات مالية هامة مع الحكومة الأميركية، لم نتمكن من كشف سرها.. ولكن كان من نتائجها إعادة تنظيم بنك إنجلترا علي أسس جديدة بعد عام 1919، ونشوء بعض الارتباطات المالية الخفية.. وننقل فيما يلي فقرات من رسالة أرسلها (يعقوب شيف) إلي أحد الزعماء الصهيونيين المدعو (فريد مان) في شهر أيلول 1917: "إنني أعتقد الآن جازما، أنه أصبح أمرا ممكن التحقيق، مساعدة بريطانيا وأميركا وفرنسا لنا في كل الظروف، للبدء بهجرة مستمرة واسعة النطاق لشعبنا إلي فلسطين، ليستقر فيها.. وسيكون من الممكن فيما بعد الحصول علي ضمان من الدول الكبرى لاستقلال شعبنا.. وذلك حينما يبلغ عددنا في فلسطين مقدارا كافيا لتبرير مثل هذا الطلب".

 

***

 

وهناك رسالة أخري تحمل ما هو أخطر من ذلك.. ففي 26 أيلول 1917، كتب لويس مارشال الممثل لمؤسسة كوهن ـ لوب، إلي صديق صهيونيّ له يدعي ماكس سينيور: "لقد أخبرني الماجور ليونيل دي روتشيلد من التنظيم اليهودي البريطاني، أن وعد بلفور وقبول الدول الكبرى به، لهو عمل ديبلوماسي من أعلي الدرجات.. والصهيونية ما هي إلا عمل مؤقت من خطة بعيدة المدى، وما هي إلا مشجب مريح يعلق عليه السلاح الأقوى.. وسنبرهن للقوي المعادية أن احتجاجاتها ستذهب هباء، وستعرض أصحابها إلي ضغوط كريهة وصعبة".

 

وما الخطة بعيدة المدى المذكورة في هذه الرسالة، إلا إشارة إلى أن الممولين الدوليين ينوون السيطرة التامة علي اقتصاديات العالم، وعلي جميع المصادر الطبيعية والقوي البشرية في الكون بأسره.

 

***

 

في يوم 28 كانون الثاني 1915 دوّن رئيس الوزراء الإنكليزي المستر اسكويت، الفقرات التالية في سجّله اليومي: "تلقيت للتو من هربرت صاموئيل، مذكرة بعنوان "مستقبل فلسطين".. وهو يظن أننا نستطيع إسكان ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود الأوروبيين في ذلك البلد، وقد بدت لي فكرته هذه كنسخة جديدة من أقاصيص الحروب الصليبية.. وأعترف بنفوري من هذه المقترحات التي تضم مسؤوليات إضافية إلي مسؤولياتنا".

 

وتقدم لنا هذه العبارات، البرهان الكافي علي أن المستر اسكويت لم يكن ميالا إلي الصهيونية.. طبعا مصير اسكويت ووزارته تقررا منذ ذلك الحين.

 

***

 

كان الصهيونيون يسيطرون منذ أمد بعيد علي الصناعات الحربية في إنكلترا.. وعندما قررت المؤامرة محاربة نظام اسكويت المعادي للصهيونية، وجدت إنكلترا نفسها فجأة في وسط الحرب أمام أزمة شديدة في الصناعات الكيميائية، التي هي الأساس لصنع الذخائر الحربية والمتفجرات.. وامتدت الأزمة أيضا إلي مصانع المدافع، التي اضطرت لتقنين إنتاجها.. وألقي الشعب التبعة بالطبع علي عاتق الحكومة.

 

وكان المشرف علي الإنتاج الكيماوي في إنكلترا، السير فريدريك ناثان.. وقد عهد هذا إلي معامل برونر وموند بتلافي أزمة إنتاج المواد الكيماوية، ومنحها أرصدة حكومية ضخمة لهذا الغرض.. أما مالكا هذه المعامل ـ السيدان برونر وموند اليهوديان ـ فقد بنيا معملا كيماويا ضخما في سيلفر تاون.. وبالرغم من أنّه بني بأرصدة حكومية، إلا إنه حين بدأ إنتاجه، أخذت أجهزة الدعاية والصحافة التي يسيطر عليها المرابون الصهيونيون، تكبل آيات المديح جزافا لبرونر وموند، وتنسج هالات التمجيد المزيفة حولهما وحول الماليين اليهود، ناسبة لهم أنّهم يدعمون الإنتاج الحربي البريطاني، في وقت تحيط فيه الإخطار ببريطانيا.. وهكذا ظهر هؤلاء بمظهر المنفذين، وبقيت تبعة اللوم علي عاتق الحكومة.. بيد أن معمل سيلفرتاون لم يلبث أن انفجر فجأة، وقتل أكثر من أربعين شخصا في هذا الانفجار المدبر، وتهدم ثمانمائة منزل.. وكانت النتيجة أن الإنتاج الحربي الكيماوي ركد من جديد، وعادت الأزمة تهدد وزارة اسكويت.. وظل الأبطال المزيفون بمنجى من اللوم، يحيط بهم العطف والمديح.. ويجب أن نذكر أن السير الفرد موند المذكور، والذي كان يشرف علي العمل الكيماوي كمبعوث من قبل الملك، أصبح هو بعينه فيما بعد، رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين!!

 

***

 

هذا، وقد كانت إنكلترا ملتزمة بمساعدة حليفتها روسيا، وتزويدها بالبنادق والذخائر.. فكان من نتائج هذا التقصير في صناعة الأسلحة والمواد الكيماوية، أن لاقي الجيش الروسي ضربات قاسية في الجبهة الشرقية، لأن الأسلحة والذخائر لم تصله.. وأعلنت الصحف أن الجنود الروس كانوا يحاربون بالعصي وبقبضات أيديهم، حتى يذبحوا أمام الجنود الألمان.. وفي رسالة كتبها البروفسير برتارد بارز Bernard pares ووجهها إلي لويد جورج، كلمات تظهر بوضوح أن الأسلحة والذخائر منعت عن روسيا القيصرية قصدا، وذلك لخلق أجواء مناسبة للثورة... تقول رسالة بارز التي كتبت عام 1915 "صار لزاما علي أن أنقل رأيي الأكيد بأن فشل السادة فيكر ـ ما كسم وشركائهما Vickers – Maxim في تزويد روسيا بالسلاح، الذي كان يجب أن يصل البلاد قبل خمسة أشهر، يعرقل العلاقات بين البلدين، وخصوصا تعاونهما في الحرب الحالية.. وقد بلغني بالتأكيد أنه لم تصل إلي روسيا أي مساعدة من أي نوع من إنكلترا".

 

وكان لويد وزيرا للمالية ومسئولا عن تمويل الحرب.. أما السادة فيكر ـ ما كسيم وشركاؤهما، فكانوا تحت راية السير أرنست كاسيل وكيل أعمال مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك، والذي كان بدوره مرتبطا بعائلة روتشيلد والممولين الدوليين في إنكلترا وفرنسا وألمانيا.

 

ولنبين أن السادة فيكر ـ ماكسيم وشركائهما كانوا تحت تأثير مؤسسة كوهن ـ لوب في ذلك الوقت، ننقل قول بوريز برازيل: "في 4 شباط 1916، عقد الحزب الثوري الروسي في أميركا، اجتماعا في نيويورك، حضره 62 موفدا.. وقد كشف النقاب عن آن تقارير سرية وصلت الحزب من روسيا، تفيد بأن الوقت أصبح مناسبا.. وتم التأكيد للمجتمعين بأن مساعدات مالية كافية ستقدم من قبل أشخاص يتعاطفون مع قضية تحرير الشعب الروسي.. وفي هذا الخصوص ذكر اسم يعقوب شيف مرارا عديدة.. ويعقوب شيف هذا كان في ذلك الوقت عضوا كبيرا في مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك.. وعلي وجه التقريب فان خمسين عضوا من الاثنين والستين الذين حضروا اجتماع شباط 1916 كانوا قد اشتركوا فعلا في الثورة الروسية عام 1905.. ومرة أخري كان عليهم أن يحرّضوا علي العمل الثوريّ، ولكن يعقوب شيف كان قد خطط أن يغتصب لينين ثمار النصر".

 

وعندما ناقش المجلس البرلماني رسالة بارز المذكورة والموجهة إلي لويد جورج، تقول الأخبار إن لويد جورج دافع عن سياسة حكومته، بأن "الصدقة والإحسان يجب أن يبدأ في البلد، لأن قواتنا البريطانية تقاتل في فرنسا، ولا تملك سوي أربع رشاشات لكل كتيبة.. ويجب قبل أن تصدر الأسلحة إلي روسيا، أن نسلح جنودنا نحن".. ويقال إن اللورد كتشنر أجاب لويد جورج بقوله: "أنا أعتبر أكثر من أربع رشاشات لكل فصيلة تبذيرا، عندما أري فشلنا في تزويد السلاح ـ الذي وعدنا به روسيا ـ قد نتج عنه وجود بندقية واحدة فقط مع كل ستة جنود روس".

 

وقد استغل المتآمرون العالميون هذه العبارة التي نطق بها كتشنر، وأمروا عملاءهم ليستعملوها في تشويه سمعته.. فانتشر في العالم كله، أن كتشنر يعتبران أكثر من أربع شاشات للكتيبة الواحدة، عمل تبذيري لا يحتاج إليه الجنود البريطانيون في حربهم في فرنسا.. وقد استمر هذا التشويه حتى أيامنا هذه، وظهر في "سيرة دافيد لويد جورج"، الذي صدر حديثا، كما ظهر في نفس السيرة منقحة في المجلة الأسبوعية "تورنتو ستار".. وقد أرسلت إلي محرر الجريدة المذكورة، الحقيقة المتعلقة بهذا الحدث التاريخي الهام، فأجاب معتبرا التصحيح الذي أطلبه منه عملا ديناميكيا صعبا لا يمكنه معالجته، وأخبرني أنّه نقل رسالتي إلي "الدايلي ستار".. وليس ضروريا أن أقول إن "الحقيقة" لم تنشر أبدا.

 

***

 

تقول موسوعة المعرفة اليهودية عن الصهيونية: "لقد أجبرت الحرب العالمية علي نقل مركز المنظمة الصهيونية من برلين إلي نيويورك.. ونقلت السلطة بأجمعها إلي لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية، برئاسة القاضي الأمريكي ل.د. برانديس Brandies".

 

ويقول يعقوب دي هاس في كتابه "لويس ديمبتز برانديس": "أما المكتب الصهيوني للهجرة، فإنه تشعب وامتد ليشمل جميع القطاعات الحربية التي احتلها الحلفاء، وشملت تركيا وسوريا وفلسطين والأردن وبغداد.. وبالواقع فان أي قرش واحد من الملايين التي استلمها المكتب لم تذهب سدى.. وابتدأت باستعمال مكاتب الشؤون الخارجية للولايات المتحدة للاتصال وللإيداع، ثم نجحت مكاتب الهجرة نجاحا باهرا، وأصبح بالإمكان الاعتماد عليها.. حتى إن وزارة المالية الأميركية اعتمدت عليها واستخدمتها في إيصال الأموال والرسائل، التي لم تتمكن الحكومة من إيصالها بنجاح.. وقد قدمت السفارات في العواصم الأوروبية مبالغ نقدية، بناء على طلب أمين سر الهيئة التنفيذية للمنظمة الصهيونية في نيويورك".

 

ويقول فراي في كتابه "مياه تتدفق علي الشرق" في الصفحة 51:

 

"ومنذ ذلك الحين، أصبح تأثيرهم ملموسا أكثر وأثر في الدوائر السياسية في أميركا وأوروبا، وخصوصا مكتب الهجرة الصهيوني، الذي كان بإمكانه إرسال الأموال والمعلومات للعناصر التخريبية في أرض العدو".

 

وبعد ذلك، نجد محافل الشرق الأكبر تعود مرة أخري إلي الصورة، فنجد م. ارزبرغر يقول في الصفحات 145 ـ 146 من كتاب "تجاري في الحرب العالمية": "في السادس عشر من آذار 1916، دفع التحالف الإسرائيلي إلي محفل الشرق الأكبر في باريس 700.000 فرنك، كما يمكننا أن نبرهن من سجلات المحفل في روما، أن مليونا من الليرات الإيطالية قد حولت إلي هذا المحفل في 18 آذار 1916.. ولست من السذاجة بحيث أتخيل أن التحالف الإسرائيلي استعمل محفلين فقط بهدف إرسال مليون ليرة لمساعدة اليهود الإيطاليين".

 

يقول أ.ن. فيلد في كتابه "كل هذه الأشياء" ـ وهو يتحدث عن الحوادث التي تلت فصل الكويت عن العراق عام 1916 ـ في الصفحة 104: "لقد أصبح التأثير اليهودي في السياسة البريطانية واضحا، بعد ظهور السيد لويد جورج".

 

ويقول ل. فراي في الصفحة 55 من كتابه "مياه تتدفق علي الشرق": "عقد الاجتماع الرسميّ الأول للجنة السياسية الصهيونية، في السابع من شباط 1917، في منزل الدكتور موسى غاستر.. وقد نوقش في هذا الاجتماع بالتفصيل، البرنامج الصهيوني الذي سيستخدم كقاعدة في المفاوضات الرسمية، التي تشمل مصير فلسطين وأرمينيا ومنطقة ما بين النهرين (العراق) ومملكة الحجاز".

 

أما ج. م. ن. جيفريس، فيضيف أيضا هذه المعلومات في الصفحة 139 من الكتاب الذي كنا نستشهد به: "أبلغت تفاصيل هذا الاجتماع بالشفرة إلي التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة.. ومن الآن فصاعدا بدأ التنظيم الصهيوني في الولايات المتحدة يتدخل في صياغة السياسة البريطانية، وفي توجيه القضايا البريطانية الداخلية".

 

ولكي نصوّر بشكل ملموس مدي سيطرة الممولين الدوليين علي قضايا الحكومة البريطانية، ننقل كلام صموئيل لاندمان الذي يقول: "بعد أن تم الاتفاق بين السير مارك سايكس ووايزمان وسوكولوف، تقرر إرسال رسالة سرية إلي القاضي برانديس ـ رئيس لجنة الطوارئ الاحتياطية للصهيونية في نيويورك ـ تخبره فيها أن الحكومة البريطانية مستعدة لمساعدة اليهود في الحصول علي فلسطين، مقابل تعاطف يهودي فعال، ومقابل تأييد قضية الحلفاء في الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل يخلق تيارا قويا يدعم اشتراك الولايات المتحدة في الحرب.. وقد أرسلت الرسالة بالشفرة عبر مكتب الخارجية البريطانية، كما أرسلت رسالات سرية أخري إلي القادة الصهيونيين في روسيا عن طريق الجنرال ماكدونو.. وقد استطاع الدكتور وايزمان (أحد مؤسسي الصهيونية السياسية) أن يؤمّن عن طريق الحكومة الإعفاء من الخدمة لستة من الشبان الصهيونيين، وذلك كي يعملوا بنشاط من أجل القضية الصهيونية.. وكانت الخدمة العسكرية في ذلك الوقت إجبارية، ولم يعف منها إلا أولئك المشتغلين بإعمال وطنية هامة، تمنعهم من الخدمة الفعلية علي الجبهة.. وأنا أتذكر الدكتور وايزمان وهو يكتب رسالة إلي الجنرال ماكدونو (مدير العمليات العسكرية)، يطلب مساعدته في الحصول علي التسريح من الخدمة الفعلية لليون سيمون وهاري ساشر وسمون ماركس وهابا مسون وتولكوسكي وأنا شخصيا.. وكما طلب الدكتور وايزمان، فقد نقلت من المكتب الحربي إلي وزارة الإعلام ـ وفيما بعد إلي المكتب الصهيوني ـ حوالي شهر كانون الأول 1916.. ومنذ ذلك الوقت، ولسنوات عدة، اعتبرت الصهيونية حليفة الحكومة البريطانية.. ولم يعد هناك صعوبات في الحصول علي جوازات سفر، أو في الانتقال بالنسبة لأي شخص يدعمه مكتبنا.. وعلي سبيل المثال، فإن شهادة وقعتها بنفسي، وكان يحملها يهودي عثماني، قبلها المكتب الوطني البريطاني، وعامل صاحبها معاملة الأصدقاء، لا الأعداء كما كانت الحالة بالنسبة للرعايا الأتراك".

 

***

 

تبين دراسة حياة ديزرائيلي Disraeil أنه أمضي العديد من أمسيات أيام الآحاد عند آل روتشيلد في لندن.. وتبين أيضا أنه بينما كانت مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك تمول الثورة اليهودية في روسيا، كان آل روتشيلد اللندنيين مديري أعمال القيصر في لندن.. ونعلم أيضا أن آل روتشيلد في لندن كانوا مع حزب الأحرار، وأنه بين عام 1840 ـ 1917 كانت صحافة الأحرار التي كان يديرها آل روتشيلد، معادية للروس. ويخبرنا ديزرائيلي أن القادة السياسيين والماليين في ألمانيا كانوا يعتبرون مناهضين، لأنهم لم يسمحوا للممولين الدوليين أن يفعلوا تماما كما يشاءون.. وكان يمثل آل روتشيلد في ألمانيا البارون فون بليشريدر في برلين، وعائلة واربرغ في هامبورغ.. وفي روسيا ساعد آل ويتشتاين في أوروبا آل غينزبرغ في سانت بطرسبرج علي رعاية مصالح روتشيلد في ذلك البلد.

 

وهناك رجل آخر عمل بنشاط كبير لمصلحة الممولين الدوليين، وهو اوتو كاهن Otto Kahn.. ولقد استطاع هذا أن يخفي حقيقة هدفه كثوري عالمي، خلف أعلام الوطنية في العديد من الدول التي عاش فيها، وتظاهر بأنه مواطن محب لوطنه في كل منها.. ولد السيد أوتر كاهن في ألمانيا، ثم هاجر إلي الولايات المتحدة كما فعل بول واربرغ.. وكهذا الأخير أيضا أصبح شريكا في مؤسسة كوهن ـ لوب.. وعند وصوله إلي أميركا مباشرة حصل علي وظيفة كاتب عند سبياير وشركائه، وذلك كي يجعل الأمور تبدو عادية وليست غريبة.. ثم تزوج فيما بعد حفيدة السيد وولف Wolf، أحد مؤسسي مؤسسة كوهن ـ لوب وشركاه.. ولما زارت السيدة كاهن موسكو عام 1931، استقبلت رسميا من قبل الحكومة السوفيتية، التي أقامت علي شرفها مأدبة ضخمة واستقبالات باهرة عديدة.. وقد اصطف الجيش الأحمر الستاليني علي الطرقات عندما مرت.

 

وفي الثاني من نيسان 1934، ظهرت مقالة في "الديلي هيرالد" كتبها السيد هانين سوافار وفيها يقول: "لقد عرفت أوتوا كاهن المليونير لسنوات عديدة.. لقد عرفته عندما كان وطنيا ألمانيا، كما عرفته عندما كان وطنيا أمريكيا.. وكان من الطبيعي عليه عندما أراد أن يدخل مجلس العموم البريطاني، أن ينتمي إلي الحزب الوطني".. وكان يمكن للسيد أوتوا كاهن، أن يصبح رئيسا علي اتحاد العالم المتكلم بالإنكليزية English Speaking Union، لولا أن نشاطه الثوري انكشف بطريق الصدفة، عندما تم البرهان علي أن منزله كان مكان اجتماع العملاء السوفيات، مثل نينا سمورودين وكلير شار يدان ولويس بريانت ومارغريت هارسون.

 

وفي صيف عام 1917، اجتمع في ستوكهولم في السويد ممثلون عن المصالح للصرفية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية.. وقد حضر السيد بروتو بويوف وزير الداخلية الروسي، كما حضر السيد واربرغ من هامبورغ.. وكان هذا الأخير شقيق بول واربورغ الشريك في مؤسسة كوهن ـ لوب وشركائهما في نيويورك، والذي وضع مسودة التشريع لنظام الاحتياط الفيدرالي عام 1910.. وسيظهر لنا أنه حتى يتم القرار بتمويل لينين وتروتسكي للإطاحة بالحكومة السوفياتية، اجتمعت وفود من جميع الدول المحاربة، وأنه في النهاية سيصدر قرار يجعل مؤسسة كوهن ـ لوب في نيويورك تضع مبلغ 50 مليون دولار تحت تصرف لينين وتروتسكي في بنوك السويد.

 

وقد بعث ضباط المخابرات السرية في كل من بريطانيا وأميركا، بتقارير إلي حكوماتهم بشأن هذه الحقائق.. ومات الضابط أ. ن. كرومي Cromie وهو يقاوم الجماهير الثورية التي هاجمت القنصلية البريطانية في سانت بطرسبرغ، فقتل وهو يحاول إبعادهم، ريثما يتمكن المجتمعون به من إحراق الوثائق المتعلقة بهذا الأمر وبغيره من الأمور.

 

ثم نقلت الحكومة الأميركية إلي الحكومة البريطانية، التقارير التي وصلتها من ضباط المخابرات.. كما أن السيد اودندايك Oudendvke وزير الأراضي المنخفضة Netherlands في بتروغراد ـ الذي كان رجل المصالح البريطانية في روسيا بعد موت الكوماندر كرومي ـ حذر الحكومة البريطانية.. وقد نشر هذا التحذير في نيسان 1919، كجزء من ورقة بيضاء عن الثورة البلشفية، نشرتها كينغز برنتر Kings Printer.

 

أما خطة يعقوب شيف بشأن السماح لتروتسكي وعصابته في العودة من نيويورك إلي سانت بطرسبرغ، فقد فشلت عندما احتجزتم الرسميون في الحكومة الكندية في هالفاكس في مقاطعة وفاسكوشيا، وهم في طريقهم إلي روسيا.. وهنا تبدو سيطرة الممولين الدوليين، الذين احتجوا مباشرة إلي الحكومات المعينة، فأطلق سراح تروتسكي وجميع أفراد عصابته الثورية، وسمح لهم أن يمروا بأمان في القطاعات البريطانية الحصينة.

 

وهناك برهان آخر عن ارتباط السياسيين البريطانيين بثورة 1917 الروسية، حصل عليه الدكتور بتروفسكي Petrovesky، الذي يشرح الدور الذي لعبه السير بتشانان السفير البريطاني.. لقد برهن بتروفسكي أنه مع علم حكومة لويد جورج بما يجري خلف الستار، إلا إنها ساعدت تروتسكي والقادة الثوريين معه، في الوصول إلي روسيا.. بينما ساعدت القيادة العليا الألمانية الممولين الدوليين في إيصال لينين وعصابته الثورية من سويسرا إلي بتروغراد.. وقد خصّص للينين وأتباعه عربة قطار خاصة لنقلهم في رحلتهم عبر الأراضي الألمانية.

 

ويكشف السيد بتروفسكي أن ميليوكوف Milioukoff ـ الذي عين كوزير للشؤون الخارجية في الحكومة الروسية في ربيع 1917 ـ كان هو الرجل الذي تفاوض بشأن هذه المؤامرة،  التي اشترك فيها كل من الدولتين المتحاربتين (بريطانيا وألمانيا).

 

ومن المعروف انه استحسانا للتعاون الذي أبداه الجنرال الألماني ستان، وافقت الحكومة البريطانية علي طلب ميليوكوف إطلاق سراح م. م. ليتفينوف Litvinov، وكان ضباط المخابرات البريطانية قد أسروه كجاسوس ألماني.. أما التعرف علي شخصية ليتفينوف فهي ذات أهمية بالغة، فهو ابن لوالدين يحملان اسم فينكلينستان.. ولما انضم إلي الحركة الثورية العالمية غير اسمه، فصار ماير والاش.. ولما صار له علاقة وثيقة بالحزب البلشفي وبلينين، ظهر اسمه مرة أخري ليكون ماكسيم ليتفينوف.. إنه الشخص نفسه بليتنفينوف الجاسوس الألماني، وهو الشخص نفسه الذي قبض عليه وهو يحاول أن يدفع أوراق الخمسمئة روبل التي حصل عليها ستالين عندما سرق بنك تيفليس Tiflis Bank.

 

بعد إطلاق سراحة مباشرة، عاد ليتفينوف إلي روسيا، وساعد بحكومة كيرننسكي المؤقتة، وبحركة المينشفيك السوفيتية.. ثم تولي ليتنفيوف منصب مساعد ستالين للشؤون الخارجية، بين عام 1930 وعام 1939.. وقد عين عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1935.. ومقدرة ليتنفوف علي الاغتيال وعلي استلام النقود المسروقة وعلي العمل كجاسوس وكرجل عصابات دولي وكزعيم للنشاط الثوري في العديد من الدول، كل هذا جعل دول العالم ترحب به عندما عين رئيسا لمجلس الأمن في الأمم المتحدة!!!!!!.. وهذا يوضح حقيقة أن النورانيين يتحكمون بالذين يسيطرون علي الأمم المتحدة ظاهريا!!

 

وهكذا يتبين لنا، أن الحكومة الائتلافية البريطانية التي استلمت زمام الأمر من رئيس الوزراء اسكويت في كانون الأول 1916، لم تفعل أي شيء لتقف دون تنفيذ الممولين الدوليين خططهم للثورة الروسية، مع أنها تعلم أن نجاح هذه الثورة سيؤدي إلي سحب الجيوش الروسية من الحرب.. والبرهان علي أن الصهيونيين في كل من بريطانيا وأميركا اتفقوا علي الإطاحة بالإمبراطورية الروسية، يمكن إن نجده في حقيقة أن لينين أعلن عن تأسيس حكمة الديكتاتوري في تشرين الثاني 1917، وفي نفس الوقت أعلن لويد جورج أيضا أن سياسة الحكومة البريطانية تقضي بدعم خطة روتشيلد في تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.. وهذا يبرهن علي أن لويد جورج لم يحقد علي الممولين الدوليين لإخراجهم روسيا من الحرب، مع أنها حليفة لبريطانيا.

 

***

 

وجه المرابون اهتماماتهم إلي فلسطين، لتكون المركز الجغرافي المناسب لخطتهم العامة في السيطرة علي العالم.. وبالإضافة إلي ذلك، فإنهم كانوا يعلمون أن أشهر الجيولوجيين العالميين، قد كشف عن مناطق واسعة تحتوي علي ثروات معدنية تقع في المنطقة المحيطة بالبحر الميت.. وهكذا قرر هؤلاء أن يتبنوا الصهيونية السياسية، لإجبار دول العالم علي الاعتراف بالوطن القومي لليهود في فلسطين، بحيث يكون لهم دولة مستقلة يمكنهم السيطرة عليها بأموالهم وسلطتهم.. وإذا حققت مؤامرتهم هدفها البعيد في إقامة حرب عالمية ثالثة، عندئذ يستعلمون دولتهم المستقلة هذه في توسيع نطاق نفوذهم وسيطرتهم لتشمل جميع أمم الأرض.. وعندما يتحقق ذلك، سيتمكنون من تنصب زعيمهم "ملكا علي الكون" و"الإله علي هذه الأرض".

 

وبعد استصدار وعد بلفور، الذي أيدته كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، صدرت الأوامر إلي اللورد اللنبي بطرد الأتراك من آسيا الصغرى، واحتلال الأرض المقدسة.. ولم يكشف عن حقيقة النوايا في تسليم فلسطين إلي اليهود، إلا بعد أن انتهي العرب من مساعدة اللورد اللنبي في تحقيق مهمته!!!!!

 

وكان الشعور العام في ذلك الوقت، أن فلسطين ستصبح محمية بريطانية.. أما المرابون العالميون فما إن تم احتلال فلسطين حتى طلبوا من الحكومة البريطانية والحلفاء تعيين لجنة صهيونية في فلسطين، وتعيين مندوبيهم السياسيين أعضاء لها، علي أن تكون مهمة هذه البعثة، تقديم النصح للجنرال كلايتون الحاكم العسكري لفلسطين، وتعمل أيضا كوسيلة اتصال بين اليهود والقيادة العسكرية.. وقد باشرت هذه اللجنة عملها بالفعل في آذار عام 1918 وكان أعضاؤها التالون:

 

·   الكولونيل أورمسباي غور ـ اللورد هارليك فيما بعد ـ الذي كان مديرا لبنك ميدلاند، وبنك ستاندارد في جنوب أفريقيا.

·   الكولونيل جيمس دي روتشيلد، ابن أدموند دي روتشيلد، رئيس الفرع الفرنسي لأسرة روتشيلد، ومنشيء عدد كبير من المستعمرات اليهودية في فلسطين.. وقد أصبح جيمس دي روتشيلد عضوا في مجلس العموم البريطاني بين 1929 و 1945، ثم عيّنه تشرشل وزيرا للشؤون البرلمانية في حكومته العمالية الائتلافية.

·   الملازم أدوين صاموئيل، الذي عين مديرا للرقابة في الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.. وعندما تأسست إسرائيل عام 1948 عين مديرا للإذاعة الإسرائيلية.

·   المستر إسرائيل سيف، مدير شركات ماركس وسبنسر البريطانية الضخمة.. وله اتصالات وعلاقات وثيقة بالمرابين الدوليين. 

·   ليون سيمون، الذي نال فيما بعد درجة فارس، وأصبح المدير المسؤول عن مكاتب البريد العامة في بريطانيا.. وقد سيطر علي جميع أجهزة الهاتف، وجميع أنواع الاتصالات اللاسلكية.

·   أما بقية أعضاء اللجنة فكانوا: الدكتور إلدر، السيد جوزف كارين والسيد حاييم وايزمان، وكلهم اصدقاء مقربون إلي الصهاينة الأغنياء في أميركا.

 

يقول السير ستورز بأن هذه اللجنة أرسلت إلي فلسطين قبل أن يعقد مؤتمر السلام، وحتى قبل نهاية الحرب، وذلك لإعداد الجو الملائم فيها لإنشاء الوطن العربيّ القوميّ لليهود، وتحريك أعوانهم للمساعدة المالية.  

 

 

 

 
11معاهدة فرساي

 

معاهدة فرساي كانت إحدى أكثر الوثائق التي وقعها ممثلوا ما يسمى بالدول المتمدنة إجحافا وظلما.. وقد أدي هذا الظلم الذي وقع علي الشعب الألماني إلي قيام حرب عالمية أخرى، وجعل قيام هذه الحرب أمرا لا مفر منه.

 

يجب علينا أولا أن نعي حقيقة الظروف التي أحاطت بتوقيع الهدنة في 11 تشرين ثاني 1918.. فالقيادة الألمانية العليا لم تطلب هذه الهدنة لأن قواتها كانت في خطر من انهزامها، بل إن القوات الألمانية لم تكن قد لاقت أي هزيمة علي أراضي المعارك.. ولكن القيادة العليا الألمانية طلبت الهدنة حتى تستطيع الوقوف في وجه قيام ثورة شيوعية في البلاد.. ذلك أن روزا لوكسمبورغ وتنظيمها الذي يسيطر عليه اليهود، كانوا يخططون للقيام بنسخة ثانية مما قام به لينين في روسيا قبل عام.

 

أما الأحداث التي جعلت القيادة العليا الألمانية تتحقق من الخطر في الجبهة الداخلية فهي كما يلي:

 

تمكنت خلايا روزا لوكسمبورغ الثورية من التغلغل في الأسطول البحري الألمانيّ، واشتد نشاطهم عام 1918، فنشروا شائعات بأن القيادة الألمانية قرّرت التضحية بالسفن الحربية وبملاحيها، في معركة مشتركة ضد الأساطيل الأمريكية والبريطانية معا، وروجوا الإشاعات بأن هذه العملية تهدف إلي تعطيل وشل القوات الحليفة، بشكل يسمح لأسياد الحرب الألمان باحتلال الشواطئ البريطانية بدون مقاومة.. وعملت الخلايا الشيوعية هذه علي تغذية الشائعات والتحريض علي العصيان هامسة بأن هذا الهجوم سينتهي بالفشل حتما، لأن العلماء البريطانيون استطاعوا تحضير سلاح كيميائي سري جديد، يمّكن الحلفاء من حرق السفن المعادية وإحاطتها باللهب، فتؤدي النيران والحرارة والنقص في الأوكسجين إلي قتل كلّ كائن حيّ.. ثم بدأ المخربون يؤكدون بأن الوسيلة الوحيدة للخلاص من خطر داهم كهذا، هو بالثورة لإنهاء الحرب.. وفي 3 تشرين الثاني 1918، أعلن جنود البحرية الألمانية العصيان.. وتلي ذلك يوم 7 تشرين الثاني فرار وحدة كبيرة من الغواصات في طريقها إلي الجبهة الغربية، فلقد أخبروا أنهم سيعملون كرأس حربة في الهجوم المزعوم لاحتلال بريطانيا.

 

وفي هذا الوقت، كانت الاضطرابات قد سببت تعطيل عدد كبير من المراكز الصناعية الألمانية، كما أن المخربين كانوا ينشرون روح الانهزامية، فتدهورت الأحوال لدرجة تنازل القيصر عن العرش في 9 تشرين الثاني.

 

بعد تنازل القيصر شكل الحزب الديمقراطي الاجتماعي حكومة جمهورية، ووقعت الهدنة في 11 تشرين ثاني 1918.. ولكن الاضطرابات لم تتوقف، بل ازدادت عنفا ضد الاشتراكيين هذه المرة، وذلك عن طريق الخلايا الشيوعية المنظمة Spartacus Bund.. ثم لعبت روزا لوكسمبورغ ورقتها الكبرى، حين اشترطت علي الحكومة الجمهورية تسريح الجيش الألماني، مقابل إنهاء الاضطرابات.. وقد منع هذه العمل القيادة الألمانية العليا من استعمال جيشها المنظّم لمنع قيام الثورة التي أعلنت في كانون الثاني 1919.

 

بعد انهيار الثورة اليهودية التي قامت بها روزا لوكسمبورغ، أخذ الشعب الآري الألماني علي نفسه أن ينتقم من الشعب اليهوديّ، فقتل الآلاف من اليهود، وقبض علي الرجال والنساء والأطفال ليلا وأعدموا.. أما روزا ومساعدها كارل ليبكنيشت، فقد القي القبض عليهما ثم أطلق ضابط ألماني النار علي رأسيهما، وكأنه يقتل كلابا مسعورة.

 

ولكي يزيدوا الحقد ويضرموا نار العداوة ضد اليهود، عمد هؤلاء إلي تحميل اليهود المسؤولية عن الهزيمة العسكرية، كما أذاعوا أن اليهود هم المسئولون عن بنود معاهدة فرساي الظالمة.. ومن ناحية ثانية ضاعفت الدعاية الاتجاه الوطني الاشتراكي في ألمانيا، بتصوير بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة علي أنها دول رأسمالية أنانية، واقعة تحت تأثير الممولين العالميين.. وهكذا مهدوا الطريق لظهور هتلر.

 

بعد توقيع المعاهدة مباشرة، أعلن لينين أن واجبهم الأول يقضي بإنشاء العالم الشيوعي الذي يسيطر علي دول العالم بأجمعها، والذي تقع حدوده بين خطي العرض 35 و 36 من النصف الشمالي للكرة الأرضية.. وأعلن أنه سيسعى للعمل الثوري ضمن هذه الحدود وأن أهم الدول هي أسبانيا وإيطاليا واليونان، وبعض المناطق في آسيا الصغرى، وتشمل فلسطين كما تضم بعض مناطق الصين والمنطقة التي تضم حدود كل من كندا والولايات المتحدة.

 

تسمي خطة لينين هذه في الأوساط العسكرية "خطة الثيران الشمالية"، لأن هذه الحيوانات الشمالية استطاعت أن تبقي علي وجه الحياة، لأنها كانت تدافع عن نفسها بوقوفها بشكل دائرة، موجهة قرونها الحادة إلي الدببة والذئاب التي تهاجمها.. ويعلل بعد ذلك لينين تخليه عن روزا لوكسمبورغ، بأنه استطاع أن ينظم القوات السوفياتية ليقف في وجه الهجوم العدواني الذي قامت به الدول الرأسمالية بين عامي 1919 و 1921.. وأعلم لينين في المؤتمر الأممي الثالث عام 1912، أن أسبانيا ستكون البلد الثاني لنشر الحكم العمالي، ولام زورا لوكسمبورغ علي إضرامها نار العداوة ضد السامية في ألمانيا.. عندئذ أرسل المؤتمر كارل راديكس ليقود حملة شيوعية في ألمانيا، وصدرت إليه التعليمات بالبدء بتنظيم وتدريب الحزب المذكور، ولكنه حُذر من اتخاذ خطوات ثورية حتى تأتيه الأوامر من الكومنتيرن (الاتحاد العالمي للأحزاب الشيوعية).

 

***

 

وقد سيطر الممولون الدوليون علي مؤتمر السلام، الذي انتهي بمعاهدة فرساي.. والبرهان علي ذلك واضح، في أن رئيس الوفد الأمريكي كان بول واربورغ ذاته، الذي أشرنا إليه بصورة كافية في فصل سابق، فهو الممثل الرئيسي لمجموعة المرابين العالميين في أمريكا.. ولم يكن رئيس الوفد الألماني سوي شقيقة ماكس واربورغ.

 

ويقول الكونت دي سانت أولاير: "إن الذين يبحثون عن الحقيقة في غير الوثائق، يعرفون أن الرئيس نيلسون، الذي تم انتخابه كرئيس للجمهورية بعد أن موّله البنك الأكبر في نيويورك (كوهن ـ لوب) كان يسير تحت إرشادات وأوامر هذا البنك".

 

أما الدكتور ديلون فيوضح أنّ "اليهود هم الذين وجهوا مؤتمر السلام هذا التوجيه، واختاروا فرساي في باريس ليحققوا برنامجهم بدقة، والذي نفذ حرفيا".

 

وبالنسبة لمسودة الانتداب البريطاني علي فلسطين، فإن تخطيطها كان على يد البروفسور فيلكس فرانكفورتر، الصهيوني الأميركي البارز، الذي أصبح فيما بعد المستشار الأوّل في البيت الأبيض، في عهد الرئيس روزفلت.. وساعده في ذلك كل من السير هربرت صاموئيل والدكتور فيويل والمستر ساشار والمستر لاندمان والمستر بن كوهن والسيد لوسيان وولف ـ الذي كان تأثيره كبيرا جدا علي المستر دافيد لويد جورج، ويقال إنه كان يملك جميع أسرار شؤون بريطانيا الخارجية.

 

وعندما بدأت المحادثات التمهيدية للمؤتمر، كان المستشار الخاص للسيد كليمانصو ـ رئيس وزراء فرنسا ـ هو المسيو مانديل.. ولم يكن هذا في الحقيقة إلا اسما مستعارا لأحد أفراد آل روتشيلد.. وكان هناك أيضا المستر هنري مورغنزاو ـ أحد أفراد الوفد الأمريكي ـ وهو نفسه والد الرجل الذي أصبح فيما بعد السكرتير المالي للرئيس روزفلت.. وحضر أيضا تلك المحادثات المستر أوسكارلا ستراوس، الذي عرف بتنبيه الشديد لمخطط الممولين، والذي كان له دور بارز في تكوين عصبة الأمم.

 

وبشأن هذه المعاهدة أيضا، يقول السيد لوسيان وولف في الصفحة 408 من "دراسات عن تاريخ اليهود": "وهناك مجموعة صغيرة أخري من اليهود البارزين تظهر تواقيعهم علي معاهدة السلام، فقد وقع معاهدة فرساي عن فرنسا لويز كلوتز ـ الذي تورط فيما بعد بقضية مالية واختفي عن الأنظار ـ وعن إيطاليا البارون سومينو، ومستر أدوين مونتاغ عن الهند".

 

وننقل فيما يلي أقوال بعض كبار المفكرين في الغرب، التي تشكل بحد ذاتها بيانا لا يحتاج إلي تفسير:

 

يذكر المؤرخ والدبلوماسي الإنكليزي الشهير هارولد نيكلسون في مؤلفه الضخم "صنع السلام 1919 ـ 1944" صفحة 244 أن لوسيان وولف طلب منه شخصيا أن يتبني رأيه، وهو أن اليهود يجب أن يتمتعوا بحماية عالمية، وأن يتمتعوا في الوقت نفسه بكل حقوق المواطن في أية دولة.

 

ويقول الكاتب الفرنسي جورج باتو، في كتابه "المشكلة اليهودية" ص38: "إن المسؤولية تقع علي عاتق اليهود الذين أحاطوا بلويد جورج وويلسون وكليمانصو".

 

***

 

وننتقل الآن إلي هنغاريا، ونحن نتحدث عن نهاية الحرب العالمية الأولي، فنجد أن بيلاكون اغتصب السلطة في ربيع 1919، ثم حاول تطبيق آراء لوسيان وولف.. ولكن حكمه الديكتاتوري لم يدم أكثر من ثلاثة أشهر، قتل خلالها عشرات الآلاف من المسيحيين وأجلوا عن ممتلكاتهم.. وشملت الضحايا جميع الناس من عمال وجنود وتجار وملاك أراضي.. ولم يفرق بين الرجل والمرأة أو بين رجل الدين والرجل العادي.. وفي هذا الصدد تقول مجلة نيو انترناشيونال في كتابها السنوي عام 1919 "تألفت حكومة بيلاكون في أكثريتها من اليهود، الذين استلموا أيضا مراكز إدارية.. وقد اتحد الشيوعيون مع الاشتراكيين، الذين كانوا أكثر شبها بأحزاب العمال ومجموعات اتحادات العمال.. ومع هذا فإن بيلاكون لم يختر مساعديه من هؤلاء، ولكنه اختارهم من بين اليهود، مؤلفا بذلك حكما بيروقراطيا يهوديا".

 

ويسجل التاريخ أنه بعد ثلاثة أشهر من التخريب والاغتصاب والقتل الجماعيّ، عُزل بيلاكون.. ولكنه بدلا من أن يعاقب، فإنه أدخل إلي مستشفي للأمراض العقلية.. وبعد ذلك تم إخلاء سبيله على يد تلك المجموعة القوية التي كان يعمل لمصلحتها.. ثم عاد بيلاكون إلي روسيا، ليستلم رئاسة منظمة تشيكيا الإرهابية، والتي عملت علي إرهاب الأوكرانيين وإخضاعهم لستالين، عندما أمر ببدء البرنامج الزراعي الجماعي.. وكان من نتيجة هذا الإرهاب أن مات خمسة ملايين من العمال جوعا، لعدم تنفيذهم القانون الزراعيّ، كما دفع بأكثر من خمسة ملايين أيضا للعمل الإجباري في سيبيريا.. ولما أراد ستالين أن يحوّل أسبانيا إلي بلد تحكمه الديكتاتورية الشيوعية في عام 1936، وقع اختياره علي بيلاكون لينظم (حكم الإرهاب) في أسبانيا.

 

***

 

ونعود إلي مؤتمر فرساي، لنري مشاهد أخري من سيطرة الممولين، الدوليين وذلك بحادثة معروفة جرت خلال المحادثات التمهيدية للمؤتمر.. فالظاهر أن هذه المحادثات بدأت تميل إلي سياسة لا يرضي عنها الممولون، لأن برقية مكونة من ألفي كلمة أرسلها يعقوب شيف من نيويورك إلي الرئيس ويلسون، الذي كان يحضر المؤتمر في باريس، وقد تضمنت هذه البرقية تعليمات للرئيس بشأن ما سيفعله بكل من قضية فلسطين ومصير الانتداب فيها، وبشأن التعويضات الألمانية وقضية سيليسيا العليا ومنطقة السار وممر دانزينغ.. وأرخت البرقية بتاريخ 28 أيار 1919، وقد أرسلها شيف باسم اتحاد الأمم المتحررة.

 

بعد استلام البرقية، غيّر الرئيس ويلسون موقفه فجأة، وأخذت المفاوضات تجري مجرى آخر.. بهذا الصدد يقول الكونت دي سانت أولاير: "إن النصوص التي تضمنتها معاهدة فرساي فيما يتعلق بالقضايا الخمس الرئيسية، هي من وضع يعقوب شيف وأبناء جلدته".

 

بعد أن دُفعت الدول الحليفة لجعل فلسطين محمية بريطانيا، أعلم الممولون الدوليون عملاءهم أن بنود المعاهدة ستكون قاسية جدا، بشكل لا يمكن أن يتحمله الشعب الألماني طويلا.. وكان هذا جزءا من المخطط الذي يرمي إلي زيادة حقد الشعب الألماني ضد الإنكليز والفرنسين والأميركيين واليهود، ليكونوا علي استعداد للحرب من جديد لاستعادة حقوقهم المشروعة. 

 

وبعد توقيع معاهدة فرساي مباشرة، بدأت الحرب الرأسمالية المزيفة ضد البلاشقة.. وقد مكّنت هذه الحرب لينين من تخليه عن مساعدة الثورة الشيوعية في ألمانيا، وفي الدعوة إلي الصمود والالتحام للحفاظ علي المكاسب التي حققها في روسيا.. ومن ناحية ثانية فان هذه الحرب لم تكن أبدا ذات خطر علي ديكتاتورية لينين.. ولما انتهت عام 1921، كان من نتائجها الواضحة، الشهرة الواسعة التي نالها البلاشقة، في مقابل خسارة مماثلة للدول الرأسمالية.. وقد مهدت هذه النتيجة الطريق لعملاء الممولين الدوليين، كي يدخلوا الدول الشيوعية في عضوية عصبة الأمم تحت ستار السلام العالمي الدائم.

 

وكانت بريطانيا هي أول الدول التي حققت رغبات الممولين الدوليين واعترفت بالدول الشيوعية.. ثم تلتها فرنسا في 1924، وبعدها جاء دور الولايات المتحدة، فاعترف روزفلت بالدول الشيوعية في 1933.. وهكذا اعترفت عصبة الأمم بالدول السوفيتية الشيوعية.. ومنذ ذلك اليوم أصبحت عصبة الأمم ألعوبة في يد ستالين، وتمكن عملاؤه من صياغة سياستها والسيطرة علي نشاطاتها.. وما أن دخلت الدول الشيوعية في عصبة الأمم حتى أخذ أعضاء محفل الأكبر الماسوني دورهم فيها.

 

ونشير هنا إلي محرر جريدة التايمز الإنكليزية، وهو يكهام ستيد الذي كان من أكثر الناس إطلاعا علي الشؤون العالمية، والذي أشار في أكثر من مناسبة إلي تدخّل رجال المصارف والممولين الدوليين في الشؤون الدولية.. وقد كتب هذه العبارة المحددة عقب توقيع معاهدة فرساي مباشرة: "إنني ألح وأصرّ علي أنّ المحركين الأول، هم يعقوب شيف وواربوغ وغيرهم من أصحاب المصارف الدوليين، الذين كانوا يرغبون بشكل قوي في الحصول علي مساعدة البلاشقة اليهود، لتأمين ميادين عمل لليهود الألمان في روسيا".

 

وننقل أيضا ما كتبه ليوماكس في عدد آب 1919 من الناشيونال ريفيو، حيث يقول: "ومهما تكن نوعية السلطة التي تحكم داوننغ ستريت [تحكم بريطانيا]، محافظة كانت أم متطرفة، تؤيد الائتلاف أو تقف في صف البلاشقة، إلا إنها في جميع الأحوال تقع في أيدي اليهود العالميين.. وهنا يمكن سر الأيادي الخفّية التي لم يكن قد ظهر لها أي تفسير واع".

 

عندما زار ونستون تشرشل فلسطين في آذار 1921، طلب مقابلة وفد القادة المسلمين.. ولما قابلهم عرضوا له خشيتهم من الهدف الذي تعمل له الصهيونية السياسية، وهو الاستيلاء علي فلسطين واستغلال أراضيها لمصلحة اليهود، وبينوا له أن العرب يعيشون في تلك الأرض منذ أكثر من ألف سنة ((هذا أشبه بأن نقول إنّ المصريين يعيشون في مصر منذ ألف سنة!!!.. هذه أرض الفلسطينيين يعيشون فيها منذ القدم، وبقدوم العرب دخلوا الإسلام وتكلموا العربية، مثلهم مثل باقي دولنا))، وطلبوا منه استخدام نفوذه لرفع هذا الظلم.. وقد نقل عنه قوله: "أنتم تطلبون مني أن أتخلي عن وعد بلفور، وأن أوقف الهجرة اليهودية.. وهذا ليس في طاقتي، كما إنني لا أرغب فيه.. نحن نعتقد أنه لخير العالم واليهود والإمبراطورية البريطانية والعرب أنفسهم أيضا.. ونحن ننوي أن نحقق هذا الوعد".

 

لا بد أن يكون تشرشل وهو ينطق بهذا الجواب، كان يفكر بذلك التهديد الذي أطلقه حاييم وايزمان ونشره رسميا في 1920، ويقول فيه: "سوف نستقر هنا في فلسطين شئتم ذلك أم أبيتم.. إن كل ما تستطيعون عمله هو تعجيل أو إبطاء هجرتنا، ولكنه مهما يكن فإنه من الأفضل لكم أن تساعدونا، لتتجنبوا تحويل قدراتنا البناءة إلي قدرات مدمرة، تدمر العالم".

 

يجب أن نتدبر أمر تهديد وايزمان هذا، ونفهم معه أيضا ذلك البيان الذي صدر عن أحد الممولين الدوليين، في اجتماع للصهاينة عقد في بودابست عام 1919.. فلقد نقل الكونت أولاير كلامه وهو يتحدث عن احتمالات قيام الحكومة العالمية، ويقول: "وفي سبيل الوصول إلي العالم الجديد [الذي ينتظره هؤلاء]، أعطت منظمتنا البرهان علي فعاليتها في عمليتي الثورة والبناء، وذلك بخلقها لعصبة الأمم، التي هي في الحقيقة من عملنا.. وستشكل الحركة البلشقية الدافع الأول، بينما تشكل عصبة الأمم الفرامل في الجهاز الذي سيحتوي معا علي القوة الدافعة والقوة الموجهة.. وماذا ستكون النهاية؟.. إنها محددة سلفا في مهمتنا".. قيام الحكومة العالمية الواحدة.

 

وهناك شيء مهم وقع تحت يدي بعد ثماني سنوات من إنهائي لهذا الفصل، وذلك عن طريق المخابرات السرية الكندية، التي نقلت تقريرا عن المؤتمر الاستثنائي "للجنة الطوارئ لحاخامي أوروبا"، الذي عقد في بودايست في 12 كانون الثاني 1952..

 

وإنني أنقل ذلك التقرير، وهو عبارة عن الخطاب الحرفي للحاخام أيمانويل رابينوفيتش في المؤتمر المذكور: 

 

"تحية لكم يا أبنائي.. لقد استدعيتم إلي هذا الاجتماع الخاص لإطلاعكم علي الخطوط الرئيسية لمنهاجنا الجديد، وهو المنهاج المتعلق بالحرب المقبلة كما تعلمون، والتي كان مخططنا الأصلي يقضي بإرجائها عشرين عاما، حتى نتمكن خلال ذلك من تدعيم مكاسبنا التي حصلنا عليها نتيجة للحرب العالمية الثانية.. ولكن ازدياد أعددنا في بعض المناطق الحيوية يسبب معارضة شديدة، لذلك صار لزاما علينا أن نستعمل جميع الوسائل التي في حوزتنا، لإشعال حرب عالمية ثالثة في مدة لا تتجاوز خمس سنوات.

 

يجب أن أبلغكم أن الهدف الذي لا زلنا نعمل من أجله منذ ثلاثة آلاف عام قد أصبح في متناول يدنا الآن.. أستطيع أن أعدكم أنه لن تمر عشر سنوات، حتى يأخذ شعبنا مكانه الحقيقي في العالم، ويصبح كل يهودي ملكا، وكل جوييم عبدا.. [تصفيق من الحضور].. إنكم لا تزالون تذكرون نجاح حملاتنا الدعائية التي طبقناها خلال الثلاثينيات، والتي أوجدت شعورا معاديا للأمريكيين في ألمانيا، وشعورا بالكره الشديد للألمان عند الأمريكيين.. وتعلمون أن هذه الحملة أعطت ثمارها بقيام الحرب العالمية الثانية.. أما الآن فهناك حملة مماثلة نشنّها بقوة عبر العالم.. فنحن نثير الآن حمّى الحرب عند الشعب الروسي، بخلق ميل معاد لأميركا، التي يجتاحها في الوقت نفسه شعور معاد للشيوعية.. هذه الحملة ستجبر الدول الصغيرة علي الاختيار بين أن تصبح شريكة لروسيا أو متحالفة مع الولايات المتحدة.. أما أكثر المشاكل التي نواجهها في الوقت الحالي، فهي إتارة الروح العسكرية عند الأمريكيين، الذين أخذوا يبدون كرها شديدا للحرب.. ومع أننا فشلنا في تحقيق خطتنا في تعميم التدريب العسكري علي كل الشعب الأمريكي، إلا إننا سنأخذ كل الاحتياطات للحصول علي موافقة الكونغرس علي مشروع بهذا الصدد بعد انتخابات 1952 مباشرة.. إن الشعب الروسي والشعوب الآسيوية هم تحت سيطرتنا، ولا يقفون حائلا ضد قيام الحرب.. ولكننا يجب أن ننتظر حتى يصبح الشعب الأمريكي هو أيضا مستعدا لمثل هذه الحرب.. ونحن نأمل بتحقيق هدفنا هذا باستعمال قضية العداء للسامية، بنفس الطريقة التي جعلت الأمريكيين يتحدون ضد الألمان أعداء السامية في الحرب العالمية الثانية.. ونحن ننتظر قيام موجات عداء للسامية في روسيا، بشكل يسبب تلاحم الشعب الأمريكي ضد القوة السوفياتية.. كما أننا سنقوم بنفس الوقت عن طريق الإغراء المالي، باستخدام عناصر مؤيدة للروس في عدائهم للسامية، ونبث هذه العناصر في المدن الأمريكية الكبرى.. وستخدم هذه العناصر غرضين نسعى لهما، وهما فضح المعادين لنا حتى نتمكن من إسكاتهم، وتوحيد الشعب الأمريكي في بُوتقة واحدة ضد الشعب الروسي.. وفي خلال خمس سنوات سيحقق منهاجنا هذا أغراضه، وتقوم الحرب العالمية الثالثة التي ستفوق في دمارها جميع الحروب السابقة.. وستكون إسرائيل، بالطبع، بلدا محايدا.. حتى إذا تم تدمير وإهلاك الطرفين المتحاربين، سنقوم نحن بعملية التحكيم والرقابة علي بقايا أشلاء جميع الدول.. وستكون هذه الحرب معركتنا الأخيرة في صراعنا التاريخيّ ضد الجوييم.. بعد ذلك سنكشف عن هويتنا لشعوب آسيا وأفريقيا.. وأستطيع أن أعلن لكم جازما، بأن الجيل الأبيض الذي ولد في الأيام التي نعيشها الآن سيكون آخر الأجيال البيضاء.. ذلك لأن لجنة التحكيم والرقابة ستمنع التزاوج بين البيض، بحجة نشر السلام والقضاء علي الخلافات بين الأجناس البشرية.. وبهذا يتم القضاء علي العنصر الأبيض، عدونا اللدود، ويصبح مجرد خيال وذكرى.. وسنعيش بعد ذلك في عهد السلام والرخاء الذي لن يقل عن عشرة آلاف من السنين.. وسنحكم العالم بأسره، لأنه سيكون من السهل علي عقولنا المحركة، السيطرة الدائمة علي العالم من الملونين ذوي البشرية السوداء".

 

سؤال من أحد الحاخامين الحاضرين: "أرجو من الحاخام رابينوفتش أن يحدثنا عن مصير الأديان المختلفة بعد الحرب العالمية الثالثة؟"

 

رابينوفتش: "لن تكون هناك أديان بعد الحرب العالمية الثالثة، كما لن يكون هناك رجال دين.. فإن وجود الأديان ورجال الدين خطر دائم علينا، وهو كفيل بالقضاء علي سيادتنا المقبلة للعالم، لأن القوة الروحية التي تبعثها الأديان في نفوس المؤمنين بها ـ وخاصة الإيمان بحياة أخري بعد الموت ـ يجعلهم يقفون في وجهنا.. بيد أننا سنحتفظ من الأديان بالشعائر الخارجية فقط.. وسنحافظ على الدين اليهوديّ، وذلك لغاية واحدة، هي الحفاظ علي الرباط الذي يجمع أفراد شعبنا، دون أن يتزوجوا من غير سلالتهم أو أن يزوجوا بناتنا لأجنبي.. وقد نحتاج في سبيل هدفنا النهائي إلي تكرار نفس العملية المؤلمة التي قمنا بها أيام هتلر.. أي أننا قد ندبر وقوع بعض حوادث الاضطهاد ضد مجموعات أو أفراد من شعبنا.. أو بتعبير آخر سوف نضحي ببعض أبناء شعبنا، حتى نحصل بذلك علي الحجج الكافية التي تبرر محاكمة وقتل القادة في أميركا وروسيا كمجرمي حرب، وذلك بعد أن نكون قد فرضنا شروط السلام.. ونحن اليوم بحاجة إلي الإعداد لهذه المهمة وهذه التضحيات.. لقد تعود شعبنا على التضحية دائما.. ولن تكون خسارة بضعة آلاف من اليهود خسارة جسيمة، إذا قارناها بما سيحصل عليه شعبنا من السيطرة علي العالم وقيادته.

 

وحتى تستيقنوا من قدرتنا علي السيطرة علي العالم، انظروا إلي اختراعات الرجل الأبيض، كيف حولناها إلى سلاح خطير ضده.. فالراديو والمطبعة أصبحنا اليوم المعبر والمتحدث عن رغباتنا، كما أن معامل الصناعات الثقيلة ترسل الأسلحة إلي آسيا وأفريقيا لتحارب شعوبها الرجل الأبيض نفسه صانع هذه الأسلحة.. واعلموا أننا طورنا برنامج النقطة الرابعة في واشنطن، ليشمل التطوير الصناعي للمناطق المتخلفة من العالم، بحيث يصبح الرجل الأبيض تحت رحمة المجموعات الضخمة من الشعوب السوداء، التي ستفوقه تكنولوجيا بعد أن تدمر الحرب النووية وزراعته الصناعية.

 

وبهذه الرؤية للنصر النهائي يتوهج أمام أعينكم، عودوا إلي مناطقكم وباشروا العمل بجد ودون هوادة، حتى يحل أخيرا اليوم الذي ستكشف فيه إسرائيل عن مهمتها الحقيقية، وهي أن تكون النور الذي يضيء العالم" ـ [النوراني تعني حامل النور].

 

هذا الخطاب يؤكد أيضا استنتاجاتي ومعلوماتي السابقة التي أوردتها، وهي أن القوي الخفية هي التي أثارت العداء للسامية، وبنفس الوقت العداء للشيوعية، بشكل يخدم أهدافها.. كما أن الخطاب يبرهن علي أن النورانيين استعملوا الشيوعية والنازية والفاشية للوصول إلي طموحهم الخفيّ.. وهم، يستعملون الديمقراطية المسيحية ضد الشيوعية للوصول إلي المرحلة التالية من خطتهم البعيدة، وهي الحرب العالمية الثالثة.

 

***

 

ولقد استطاع الممولون الدوليون ـ باختفائهم وراء بنود معاهدة فرساي ـ التحكم بإعادة بناء الجيش الألماني، وإعادة تحسين اقتصاديات البلاد.. بعد ذلك دخلوا مع القيادة الألمانية العليا في اتفاقية Abmachungen، وبموجبهات تمّ الاتفاق علي أن يزود الروس الجنرالات الألمان سرا بجميع الأسلحة والذخائر اللازمة لبناء جيش حديث مؤلف من عدة ملايين.. واتفقوا علي أن يضع الديكتاتور السوفيتي تحت تصرفهم جميع التسهيلات، لتدريب جميع الضباط الألمان.

 

هذا وقد تم تحقيق بنود اتفاقية Abmachungen، بعد أن قام الممولون الدوليون بتمويل هذا المشروع الضخم.. هكذا استطاع هؤلاء أن يؤمّنوا بناء القوة العسكرية والاقتصادية في الدول الشيوعية والفاشية علي السواء.. واستطاعوا أن يهيئوا الظروف للقيادة الألمانية لكي تتخطي بنود معاهدة فرساي، وخصوصا القيود العسكرية المفروضة عليهم.

 

وعن طريق معامل السلاح والذخيرة الشيوعية وراء جبال الأورال، ثم تزويد المؤسسات الألمانية بكل ما تحتاجه.. وهذه المؤامرة لا يمكن إن تعني إلا النية المبيتة للممولين الدوليين بإضرام نار الحرب العالمية الثانية.. ولم تكن الدول المسماة بالحليفة بمعزل عما يجري وراء الستار، ولكنها كانت تعلمه أولا بأول.. وهذا لمسته بنفسي عندما حضرت مؤتمر نزع السلاح البحري في لندن عام 1930.. وهو برهان آخر علي صدق ديزرائيلي عندما قال: "الحكومات المنتخبة لا تحكم".

 

والحقيقة أن هذه الفترة من التاريخ معقدة جدا وليس من السهل علي المواطن العادي أن يفهما.

 

فالشيوعية والنازية تجمع بينمها صفات مشتركة عديدة: فكلامها مبدأ إلحادي ينكر وجود القوّة الإلهية.. وكلاهما ينادي ويشجع الحرب والكراهية والقوة.. ومبادئهما مناهضة للمبادئ المسيحية في السلام والحب والتربية.. وهذا يجعل من قادة كلا المعتقدين العميقين في الإلحاد والمادة عملاء للشيطان.. وهم جميعا ينفذون المؤامرة الشيطانية في إبعاد البشر عن طاعة العلي القدير.. وكلا المعتقدين يستعمل أيضا شكلا من أشكال محافل الماسونية في الشرق الأكبر، لرد الناس عن أديانهم.

 

وتبين لنا الدراسة التحليلية للتاريخ بين عام 1914 و 1943، أن جماعة المرابين العالميين وجهوا جهودهم في هذه المرحلة لتحقيق الأهداف التالية:

 

1.  إثارة الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يسمح بخلق جو مناسب للعمل الثوري، يسمح لهم بالسيطرة الكاملة علي الإمبراطورية الروسية.

2.  تغيير الرؤوس الحاكمة في أوروبا، قبل أن تبدأ أي مجموعة مجموعاتهم بالسيطرة، وإقامة الحكم المطلق.

3.    إجبار حكومتي بريطانيا وفرنسا علي الموافقة علي إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

 

لقد أجبرت الحكومة البريطانية علي مساعدة الممولين الدوليين لتنفيذ مخططهم في إنجاح الثورة البلشقية، وذلك كي تحصل بريطانيا علي مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب.. ويمكننا أن نجزم بأن السفينة لويزيانا أغرقت لتبرر السياسة الأميركية تجاه الحرب، تماما كان حادث بيرل هاربر المبرر لدخولها في الحرب العالمية الثانية.. ((كشفت الوثائق التي أفرجت عنها بريطانيا في التسعينيات، أنّ البريطانيين هم الذين دفعوا اليابانيين للهجوم على أمريكا، وذلك باستخدام سفينة بحرية بريطانية ترفع علم أمريكا، استخدمت شفرة أمريكية يعلم البريطانيون أنّ اليابانيين قد حلّوا شفرتها، في تناقل رسائل كاذبة تؤكد عزم أمريكا على الهجوم على اليابان، ممّا دفع هؤلاء لأخذ زمام المبادرة.. ويقال إن الرئيس الأمريكيّ كان على علم مسبق بنية اليابان مهاجمة بيرل هاربور، ولكنّه تجاهل الأمر لرغبته في إيجاد مبرر لدخول الحرب!))

 

وجاء في النسخة الأصلية بشأن الانتداب البريطاني علي فلسطين ما يلي: "لتحويل فلسطين إلي وطن قومي لليهود".. ولكن هذه العبارة تغيرت في اللحظة الأخيرة، لتكون "لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين".. وقد تم هذا لإخفاء الطموح السرّيّ للصهيونية.

 

وكما أخفى الصهاينة طموحهم في الاستيلاء علي فلسطين كلها، أخفوا أيضا حقيقة الثروات المعدنية الطائلة الموجودة علي شواطئ البحر الميت، ولم يكشفوا عن ذلك إلا بعد إعلان الانتداب من قبل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.

 

وهكذا استعمل المرابون الدوليون الصهيونية، لكي يتحكموا بسيادة الدولة ذات المركز الجغرافي المتوسط، ليمدوا سيطرتهم علي بقية دول العالم، كما مدوا سيطرتهم علي الاتحاد السوفياتي.  

 

 

 

 
12ستالين

 

 لم يقدر لزوج ستالين الثاني التوفيق، لأنه التقي بامرأة يهودية حسناء اسمها روزا كاغنوفيتش.. ويقال إنه كان يعاشرها عندما أقدمت زوجتة الثانية ناديا علي الانتحار.. ومن المعتقد أن انتحار ناديا لا يعود إلي قصص ستالين الغرامية فقط، بل إلي الأسى الشديد الذي أصابها، بسبب قسوة زوجها في القضاء وعلي عدد كبير من خصومه، الذين كانت تري فيهم إخوة لها في الدين بينما يراهم هو منحرفين.

 

وكان شقيق روزا ـ ويدعي لازار كاغونوفيتش ـ صديقا مقربا لستالين، الذي جعله عضوا في المكتب السياسي "البوليتبيرو"، وبقي كذلك حتى وفاة ستالين.. وقد برهن لازار عن مقدرته في الإشراف علي الصناعات الثقيلة، عندما قام بتطوير حقول دونيتز بازين البترولية وإنشاء اوتوستراد موسكو.. وقد تزوج ابنه ميخائيل ابنة ستالين (سفيتلانا) في 15 تموز 1951.. وكانت سفيتلانا متزوجة من شخص آخر عندما تقرر هذا الزواج.. ولم يعلم أي شيء عن مصير الزوج الأول، سوي أنه قد انزاح عن الطريق فجأة، تماما كما فعل ستالين عندما تزوج روزا بعد أن أزاح زوجته الثانية، أو بعد أن أزاحت هي نفسها!!

 

وبالإضافة إلي زواج ستالين من يهودية، فإن نائبه مولوتوف هو أيضا قد تزوج من يهودية، وهي شقيقة سام كارب ـ الرأسمالي الأمريكي الكبير، صاحب شركة الاستيراد الضخمة "كارب اكسبورتنغ" ـ ثم خطبت ابنه مولوتوف إلي ابن ستالين فاسيلي في عام 1951.. وهكذا نري أن المكتب السياسي "البوليتبورو" كان إلي حد ما بيد أسرة ستالين والمقربين إليها.

 

وقد توصل ستالين إلي أن يصبح في الطبقة العليا للحزب الثوري الروسي، لأن معظم القادة المرموقين في المراحل الأولي من الثورة الشيوعية كانوا داخل السجون.. ولم يترقّ ستالين إلي أي مركز خلال ديكتاتورية لينين، إلا إنه في الفترة الأخيرة من حكم لينين، بدأ يتقدم الصفوف الأولي.. وعندها بدأ الصراع بينه وبين تروتسكي وغيره من بعض اليهود الخصوم.. وانتهي هذا الصراع باستلامه الحكم، الذي لم يتخل عنه حتى وفاته.

 

في عام 1927 حاول تروتسكي القيام بانتفاضة ضد ستالين، متهما إياه بالانحراف عن الإيديولوجية الماركسية والنزوع إلي إقامة دكتاتورية استعمارية توتاليتارية كبديل للإتحاد الأصيل للجمهوريات السوفياتية الاشتراكية.. وهنا قام ستالين بحملة تطهير، قضى فيها علي عدة ملايين، كما أرسل عددا مماثلا إلي المنفي والأشغال الإجبارية.. وهكذا كانت نهاية العديد من قادة الحركة الثورية منذ الأممية الأولى، أن يلاحقوا حتى الموت أو السجن.. ومن بين القادة الذين تخلص منهم ستالين: تروتسكي، زينوفييف، كامينيف، ومارتينوف وزاسوليش، ودوش وبارفوس، واكسلرود، وراديك وبورتزكي وسفيردلوف، ودان، وليبر، ومارتوف.. ولم يبق من المقربين اليه عند وفاته، إلا لازار كاغانوفيتش صهره، وروزا زوجته الثالثة.

 

***

 

سار ستالين علي سياسة لينين في إنشاء عالم الشيوعية بين خطي عرض 35 و 45 من النصف الشمالي للكرة الأرضية.

 

كانت خطة ستالين تقضي بألا يورّط قواته المسلحة في حرب مع الدول الأخرى، وأن يسير علي سياسة إشعال الثورات جنوبي الاتحاد السوفياتي بين خطي عرض 35 و 45.. وقد أعطت هذه السياسة ثمارها بسرعة، لأنه عند وفاة ستالين كانت الشيوعية قد سيطرت علي نصف المنطقة المذكورة، كما أن نصف سكان الأرض كانوا قد وقعوا تحت التأثير الشيوعي.

 

((تذكر القمع والاضهاد والتهجير الذي أصاب المسلمين في الجمهوريات الإسلامية التي احتلتها روسيا، للقضاء على دينهم ولغاتهم وتراثهم.. هذا بخلاف الثورات الاشتراكية التي دمرت مجتمعاتنا في نصف القرن الماضي، وما زلنا ندفع ثمن كوارثها حتّى اليوم!!))

 

هذا وقد حافظ ستالين علي خطة لينين بالبدء بأسبانيا في عملية التحويل إلي الشيوعية، لأنه هذا سيجعل من السهل تعريض فرنسا وبريطانيا للسيطرة الشيوعية، وتصبح بعد ذلك ألمانيا بين فكي الكماشة.. وإذا حدث ما يمنع وقوع أسبانيا تحت السيطرة الشيوعية، فإن حادثا كهذا سيكون من الأسباب المساعدة علي نشوب حرب عالمية ثانية.

 

وعندما كان ستالين يعد للثورة الأسبانية، شارك مشاركة فعالة في الحرب الاقتصادية، التي كانت تدور رحاها بعد توقيع الهدنة عام 1918. فقد ظهرت طبقات ذات غني فاحش بعد الحرب العالمية لعدم مشاركتها في الحرب، كما أن شعوب الدول الحليفة عاشت برخاء زائد في السنتين اللتين تلنا الحرب.. ولكن قبل أن يتمكن المستثمرون من استثمار أموالهم بعد أوصلوا إلي القمة، سحبت أموال طائلة من الأسواق، وحددت الاعتمادات في البنوك، وبدأت عملية المطالبة بالديون تشتد.. وكانت هذه المأساة الصغرى التي كان يعيشها العالم بين 1923 و 1925، والتي كانت مقدمة للمأساة الكبرى التي خططت لها القوى لتكون عام 1930.

 

هذا وقد حدثت المأساة الكبرى هذه، بعد أن تغيرت السياسة المالية عام 1925، وعاد الرخاء يتقدم بخطي واسعة حتى الغني الفاحش في كل من أميركا وبريطانيا وكندا واستراليا.. وعاد الاستثمار عن طريق الأسهم والشركات أقوي مما كان عليه قبل 1925.. عندئذ وقبل انتهاء عام 1929، وقعت الضربة المفاجئة.. ونزلت أعظم مأساة اقتصادية عرفها العالم الحرّ في تاريخه كله.. وكان من نتيجتها أن الملايين من الناس أصبحوا بحاجة إلي لقمة العيش.. وانتحر الآلاف.. وقد وقع اللوم يومذاك علي سوء الإدارة والحكم، الذي جعل من عشرات الملايين من البشر مدقعين في الفقر، ورفع 300 فقط من أصحاب الملايين ليصبحوا من أصحاب "التريليونات".

 

أما ستالين فقد بدأ خطته الصناعية الخماسية عام 1925، وذلك للعمل علي ما أسماه تحسين الأوضاع الداخلية للدول الشيوعية.. وشملت الخطة استغلال لموارد الطبيعية وتصنيعها وتحسين الوسائل الزراعية وتحديث الصناعة.. وقد موّل هذه الخطة الخماسية المرابون الدوليون، وذلك عن طريق قروض ساهمت مساهمة قوية في تحسين الاقتصاد الروسي وبناء القوة العسكرية الروسية والألمانية معا.

 

ثم جاءت خطوة ستالين التالية، وهي إنشاء المزارع الجماعية.. وكان الشعب الروسي قد عاش لقرون عديدة أقل من العبيد في الأرض التي كان يستغلها الإقطاعيون، ثم وعدهم لينين بأن يعيشوا عيشة أفضل، حيث انفصل أكثر من مليونين من عائلات الفلاحين عن إقطاعهم، ووزعت الأراضي، وأصبحوا جميعا ملاكا مستقلين.. وفي أول كانون الثاني 1916 ارتفع عدد هذه العائلات إلي 6.200.000 عائلة. 

 

ولكن الحظ السيء كان يلاحق هؤلاء، لأن الممولين الدوليين كانوا يريدون الحصول علي القروض التي دفعوها للخطة الزراعية ولتموين الجيش الألماني، فأصروا علي التحكم بصادرات وواردات الدول الشيوعية، كما طلبوا بتنفيذ المزارع الجماعية علي أنها الوسيلة الوحيدة لزيادة الإنتاج الزراعي.

 

وقد سجل التاريخ ما حدث عندما نفذ ستالين بالقوة مشروع المزارع الجماعية، فأكثر من خمسة ملايين من الفلاحين واجهوا الإعدام أو ماتوا من الجوع، لأنهم رفضوا تنفيذ المشروع أو حاولوا الوقوف في وجهة.. كما أن أكثر من خمسة ملايين غيرهم تم نقلهم إلي سيبيرا لكي يقوموا بالأعمال الإجبارية.. بل أكثر من هذا، هو أن القمح الذي صادره ستالين من الفلاحين تم بيعه للمرابين الدوليين، ليضاف إلي كميات القمح الأخرى التي اشتراها هؤلاء من بلدان أخري.. وكان الغرض من هذه العملية هو تعويم السواق العالمية بهذه المادة الأساسية وبشكل رخيص، وذلك للمضاربة علي القمح الأمريكي والكندي، كي يكسد ولا يجد الأسواق التي تشتريه.. كما أن المرابين قاموا بضربة أخري للّحوم والمواشي الكندية والأميركية، وذلك عن طريق شراء كميات ضخمة من اللحوم المبردة والمعلبة من الأرجنتين وغيرها من البلدان المنتجة للحوم.

 

وبين عامي 1920 و 1929 خفض الممولون الدوليون أسعار الشحن في سفن جميع الدول تقريبا، ما عدا بريطانيا وأميركا وكندا.. فكان من نتيجة هذه القرصنة التجارية، أن استحال علي السفن من هذه البلدان الثلاثة أن تنافس أسعار الشحن في السفن الأخرى، فرابطت آلاف السفن التجارية في موانئها، وتوقفت عملية التصدير بشكل لم يعرف من قبل.

 

في نفس الوقت الذي كان ميزان الصادرات في الدول الحليفة يهبط بشكل عجيب، كان هناك ارتفاع مقابل في عملية الاستيراد من كل من ألمانيا واليابان ودول أوروبا الوسطي.. وهكذا ساءت الحالة في البلدان الحليفة.. ففي كندا مثلا يعتمد خمسة من كل ثمانية من أصحاب الدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة علي عملية التصدير.. وإذا انخفض ميزان التصدير، تبعه مباشرة انخفاض وانتكاس تجاري.. ذلك أن القدرة الشرائية لخمسة من كلّ ثمانية من أصحاب الدخل تنخفض.. يؤثر هذا أيضا علي كل من يعتمد علي الخدمات بأنواعها كوسيلة لكسب عيشه.. وإذا بقي هذا الانخفاض في ميزان المدفوعات علي حاله أو توقفت الصادرات، فإن الانتكاس التجاري يتحول إلي أزمة ويتدهور إلي مأساة.

 

وحتى يتأكد أصحاب المؤامرة العالمية من انزلاق الهيكل الاقتصادي للدول الحليفة إلي الهاوية، راحوا يعوّمون الأسواق العالمية بالقمح واللحم بأسعار منخفضة جدا وأقل من كلفة الإنتاج في كل من كندا وأميركا واستراليا.. فكان من نتيجة هذا التعويم أن فاضت مستودعات القمح في الدول الحليفة ولم تتمكن من بيعه، بينما كانت شعوب بعض الدول تموت جوعا لحاجتها الماسة للخبز واللحم.. وكانت بريطانيا تعوض الفرق السنوي الشاسع بين ميزان الصادرات والواردات بخدماتها فيما وراء البحار، حيث تكسب ما يعادل 85 مليون جنيه إسترليني.. ولكنها أصيبت بضربة قاسية جدا عندما منعتها المنافسة غير العادلة من الحصول علي هذا المبلغ.. هذا وقد استغل المرابون العالميون هذه الأزمة الاقتصادية المصطنعة لخلق جو من التنافر والخلاف بين مختلف دول الكومنولث، وذلك بهدف إضعاف الإمبراطورية البريطانية وتفكيكها.

 

ماذا كانت هذه الحرب الاقتصادية؟.. ركود شديد في تجارة وصناعة وزراعة الدول الحليفة والدول الرأسمالية، وفي نفس الوقت ازدياد شديد وتوسع هائل في نشاط الدول الشيوعية ودول حلف المحور.. 

 

وهكذا أخذوا يهيئون الوضع الدولي لقيام حرب عالمية ثانية في الوقت الذي يريدونه.  

 

 

 

 
13الثورة الأسبانية

 

 في القرن الثالث عشر الميلادي شكّل البابا أنيوسينس الثالث محاكم التفتيش، لاعتقال الزنادقة الذين يتظاهرون بالتدين والتحقيق معهم ((الصحيح: للتنكيل بالمسلمين واليهود بمنتهى الوحشية والخسّة!!).. وكانت أسبانيا قبل ذلك قد أكرمت اليهود وعاملتهم معاملة ودية جدا ((هذا عندما كان يحكمها المسلمون)).. ومن هنا نجد أن جميع جرائم المرابين الملحدين وعملائهم في أسبانيا وفي غيرها من الدول تلصق باليهود.. واستمر عمل محاكم التفتيش أيام إيزيلا وفردينايد، أي بين عامي 1475 و 1504.

 

ولما جاء حكم توركومادا، وجدت محاكم التفتيش أن خلايا المرتدين والمخربين تنتشر انتشارا واسعا في البلاد وتتبع تنظيما دقيقا.. عندئذ حذت أسبانيا حذو غيرها من الدول الأوروبية وطردت اليهود من أراضيها، مما شجّع المتطرفين علي تنظيم أعمال عنف جماهيرية ضد اليهود، فوقع عدد من المذابح المؤلمة، أدانتها سلطات الكنيسة في روما وهاجمتها بشكل علني.

 

وفي القرن السابع عشر، بعد إعادة تنظيم رجال المصارف العالميين، عاد عملاؤهم وتسربوا إلي إدارة الخزينة الأسبانية، وكان لهؤلاء نشاط واسع إبان الثورتين الفرنسية والإنكليزية.. وبذلك حاولوا جهدهم إضعاف الاقتصاد الإسباني وتهيئة البلاد للحركات الثورية.

 

وقد يكون من المهم جدا أن نتعرف علي خيوط المؤامرة السياسية التي حيكت بين عام 1839 وعام 1939، لنكوّن صورة واضحة عن أسلوب العمل الثوريّ، وهو يتألف من ثلاث مراحل لا بد منها:

 

1.  تغلغل أفراد الحزب الثوري في المناصب الحكومية, وفي مراكز الخدمات العامة والقوات المسلحة والتنظيمات العمالية، بغية الاستعداد لتحطيم الحكومة من الداخل عندما يسمح الوقت بذلك وتصدر الأوامر.

2.  ربط الحزب الثوري بالحزب الاشتراكي أو الحزب اليساري، بغية الإطاحة بالحكومة، سواء أكانت ملكية أو جمهورية.

3.  القيام بنشاطات تخريبية بغية اختلاق الفوضى، لزعزعة الرأي العام في حكومة الجبهة الشعبية المؤتلفة كما يسمونها عادة، فيكون الفشل حليفها، مما يمهد الطريق لقيام ديكتاتورية البروليتاريا، التي ما إن تظهر للوجود حتى تبدأ عمليات التطهير، وتظهر بعدها الديكتاتورية التوتاليتارية.. وهذا ما حدث بالفعل في روسيا عام 1917.

 

وسنري الآن كيف نفذت هذه المراحل الثلاث في أسبانيا، البلد الذي كان هدف لينين، ثم ستالين من بعده.

 

***

 

جري أول إضراب عامّ نظمه عملاء كارل ماركس في أسبانيا عام 1865.. وفي عام 1868 أرسل زعماء الحركة الثورية العالمية السنيور فانيلي إلي أسبانيا، ليقوم بتوحيد نشاطات الفوضويين مع الثوريين الماركسيين.. وكان السنيور فانيلي صديقا حميما لباخونين، الذي كان بدوره علي علاقة وثيقة بماركس وانجلز.. ولكن باخونين لم يبق علي صلات وثيقة مع ماركس، لأنه عارض سياسته عام 1870، فطرد من الأممية الأولي (المؤتمر الأول) لقادة الحركة الثورية العالمية.

 

تابع كل من باخونين وفانيلي نشاطهما كل علي حِدَة، فتمكن باخونين من التأثير علي القادة الثوريين الأسبان وإنشاء التحالف الاشتراكي الديمقراطي عام 1872.. وقد أصدرت الحكومة قرارا بمنع هذا التنظيم، ولكنه بقي يعمل سرا.

 

وفي نفس الوقت كان "محفل الشرق الأكبر" قد أنشأ تنظيمات قوية في داخل أسبانيا.

 

وفي المؤتمر العام الذي عقد في زارغوزا، وافق الجناح الأسباني للماركسية الدولية، علي التحالف مع حركة الرفض الفوضوية.. وبعد هذا التحالف ركز الفريقان جهدها علي توحيد جميع الفئات العمالية، وإنشاء تحالف واسع سمي بالكامورا.. وفي عام 1873، توّج هذا التحالف الواسع نشاطه بقيام الثورة وإنشاء الجمهورية الأسبانية الأولي.

 

وكالمعتاد، رافق هذا النشاط الثوري قيام عهد من الإرهاب وانتشار الفوضى بشكل مريع.. وقد حملت هذه الأعمال الفوضوية الجنرال بافيا علي القيام بحركته الانقلابية.. وعندها عاد العمل الثوري إلي السرية مرة أخرى، ولكنها لم تدم طويلا، إذ سرعان ما ساند أعضاء الحركة الثورية قادة الحركة التحررية المعتدلة، وعادوا مرة أخري إلي الظهور علي مسرح السياسة.. عندها قاموا بتغذية النزاع القائم بين الموالين لأحفاد الملك دون كارولز، وبين الموالين لأحفاد ايزبيلا.. وقد انتهي هذا النزاع بانهزام الموالين لأحفاد كارولز عام 1876.

 

في هذا الوقت كانت الحركات العمالية في أوجها، وأغلبها يعمل بهدف نبيل غايته تحقيق العدالة للعمال.. وكان معظم العمال يرفضون السياسة المتطرفة لحركة الرفض اليسارية، ولذلك نظموا أنفسهم في "اتحاد العمال".. ولكنّ القادة المعتدلين لهذا الاتحاد سرعان ما وجدوا أنفسهم خارجه، بعد أن تسرّب الثوريّون المتطرفون إلي داخل الاتحاد، وبدأ وعمليات التصفية من الداخل.. وبقيت أعمال التصفية مستمرة حتى عام 1888، عندما أعلن بابلو اغليسياس إنشاء "الاتحاد العام للعمال"، ليضم أكبر عدد من المعتدلين.. وكان هذا الاتحاد العام يعرف في أسبانيا بــ U. G. T.. وقد بقي دون دعم الحكومة حتى أعلنت الحكومة الاتحاد الأيبري، الذي كان يضم جميع المتطرفين والمنضمين إلي حركات الرفض الفوضوية.

 

ثم في سنة 1910 شكلت الاتحادات العمالية المتطرفة اتحادا نقابيا عاما، عرف في أسبانيا بـ C. N. T.. وبقي هذا الاتحاد النقابي العام يعمل هو والعديد من النقابات الأخرى حتى عام 1913، عندما تمّ تعليق هذه النقابات بسبب الإضرابات المتكررة.. وكانت الحكومة توافق وتتعاون مع الحركات العمالية وتؤيد المطالب الجماعية، ولكن المتطرفين كانوا قد بدأوا يستغلون هذه النقابات لغاياتهم الخاصة وينفذون مآربهم.. فحلت الحكومة جميع النقابات، ووجد العمال أنفسهم من جديد بدون حماية.

 

وعاد الثوريون المتطرفون ليستغلوا هذا الوضع الجديد للعمال، ليوجهوا أعمالهم بشكل أعنف من السابق وأشد خطورة.. فبدأوا يزيدون نشاطاتهم ضد جميع الأحزاب السياسية وضد الدولة نفسها.. وفي عام 1916 أعيد تنظيم الاتحاد النقابيّ المتطرف المعروف باسم G. R. T، وظهر علي المسرح اسم زعيمين هما: بيستاتا وسيغوي، اللذين تمكنا من توحيد العمل النقابي في مدينة برشلونة.

 

ومما ساعد علي إنجاح التنظيمات النقابية المتطرفة، هو الإجحاف الذي لحق بالعمال إبان الحرب العالمية الأول وما بعدها.. فقد كانت أسبانيا قد كسبت أموالا طائلة أيام الحرب لأنها كانت دول حيادية، ولكن العمال بشكل عام لم يشاركوا في الازدهار الواسع الذي عم البلاد، فتدفقوا علي التنظيمات المتطرفة يسعون إلي تحقيق مكاسبهم ورفع الظلم عنهم.. وفي نفس الوقت ثابر بعض القادة المعتدلون علي نشاطهم، وتوصلوا إلي إنشاء الاتحاد النقابي الحر عام 1920.

 

وفي الفترة التي تلت ذلك العام واستمرت حتى عام 1923، اشتد النزاع بين الحركات النقابية اليسارية من جهة أخري.. وعمت البلاد إضرابات محلية وعامة وأعمال عنف واغتيالات واسعة للقادة العماليين، بهدف إضعاف الفرقاء لأعدائهم.. وقد ارتكبت كل هذه الجرائم باسم "الحرية"، حتى وصلت الحالة إلي فوضي تامة.. عندئذ طلب الملك الأسباني من الجنرال بريمودي ربفيرا ضبط الأمن في البلاد، ومنحه مطلق الصلاحيات العسكرية ليمنع الشيوعيين من القيام بثورة أخري.

 

كانت أول نتيجة للحكم الديكتاتوري الذي تزعمه دي ريفيرا أن أنهي الحرب مع المغرب نهاية ناجحة.. وكانت شخصية الجنرال فرانكو قد تبلورت من خلال هذه الحرب، وأخذت شعبيته تزداد وتنتشر.. وقد استطاع بعدله وحزمة أن يكسب ود الشعب المغربي وصداقته وإعجابه (!!!!!!!).. وبالرغم مما قيل عن دي ريفيرا، إلا إنه من المعدل أن نقول إنه تمكّن من إعادة النظام إلي البلاد، وقام بتحسين أحوال العمال بعد أن تعاون مع اباليرو، كما قام بإصلاحات اجتماعية عديدة.. ولكن هذا النشاط الواسع أضعف الجنرال دي ريفيرا وتدهورت صحته عام 1929.. وهذا علي الأرجح ما يفسر الأخطاء في تقدير الأشخاص التي ارتكبها عام 1930.. فقد اختار في ذلك العام اثنين من زعماء الحركة الاشتراكية وهما بستيرو وسابوري. وكأنه قد شعر بثقل المسؤولية علي كاهله فأراد أن يرفعها عنه، فطلب منهما أن يعيدا تنظيم الجهاز الانتخابي للأمة، لكي يستطيع الشعب تقرير مصيره والاختيار بين الملكية أو الجمهورية.. ولم يُعرف السبب الكامن وراء اختيار هذين الرجلين وسيبقي هذا الحدث بدون تفسير.. وقد قام بيسترو وسابوريت بما يجب علي قائدين ثوريين أن يقوما به، فطوقا الجهاز الانتخابي وأعدّاه ليكون انتخاب حكومة اشتراكية أمرا حتميا.. وانتشر التزوير في الانتخابات، ليقترع في مدريد وحدها 40.000 من المتوفين ومن الناخبين المزورين.

 

وكانت محافل الشرق الأكبر في أسبانيا قد نظمت اتحادا خاصا سمته "الاتحاد العسكري الأخوي"، ويهدف إلي الإطاحة بالنظام الملكي.. وقد استطاع أن يحصل علي وعد 21 من أصل 23 جنرالا أسبانيا، بأن يساعدوه علي إقامة الحكم الجمهوري.. وقد ذكر هذه المعلومات الجنرال مولا، قائد قوى الأمن الداخلي في أسبانيا، وذلك في كتابه: “Tempestad Calma Intriga Y Crisis"، حيث يخبرنا فيه أن المحافل وضعت تحت تصرف الجنرالات عند انتمائهم لها، مبلغ مليون ونصف بيزفيتا، وذلك لمساعدتهم علي الهرب في حال فشل الحركة الجمهورية.. وكان فرانكو أحد الجنرالين الذين لم ينضما إلي "الاتحاد العسكري الأخوي".. ويؤكد كلام الجنرال مولا، جنرال آخر كان من بين الذين انضموا إلى "الاتحاد العسكري الأخوي" وهو الجنرال كانوا لوبيز، حيث قال في حديث له في البرلمان الإسباني (الكورتس): "لقد جمعت الماسونية منذ عام 1925 غالبية كبار ضباط الجيش، وذلك تحت شعار الاتحاد العسكري الأخوي".

 

ومن بين الذين دخلوا كأعضاء في هذا الاتحاد، كابانيلاس وسانجورجو وغويد ومولا ولوبيز وأوشاو كويبو دي لانا وغيرهم.

 

ويضيف لوبيز قائلا: "وقد صدرت الأوامر مرتين لهؤلاء الجنرالات، مرة عام 1929 للإطاحة بالديكتاتورية التي تزعمها دي ريفيرا، ومرة للإطاحة بالملكية عام 1931.. وقد نفذ الجنرالات هذه الأوامر كما جاءت".

 

ويخبرنا الجنرال مولا كيف حنث هو وغالبية الجنرالات بوعدهم للمحافل، وذلك عندما شعروا أنهم قد استغلوا بكل بساطة لتنفيذ المخططات السرية، التي أعدها ستالين ليحول أسبانيا إلي ديكتاتورية شيوعية أخري.

 

وقد نشرت المجلة الفرنسية في تقرير لها عام 1932، أن ستالين وعد بمبلغ مئتي ألف دولار، كإسهام منه في تمويل مراكز التدريب الثوري في أسبانيا.. كما تبين الكشوفات المقدمة للمؤتمر الشيوعي الدولي عام 1931، أن القادة الثوريين تسلموا مبلغ مئتين وأربعين ألف جنيه ـ بالعملة الإنكليزية ـ كما كان تحت تصرفهم مبلغ مليونين ونصف بيزيتا لشراء الأسلحة والذخائر.. ويقول الجنرال مولا إنه وصل أسبانيا عام 1938 قادما من روسيا، مئتا قائد ثوري كانوا قد تدربوا في مؤسسة لينين في موسكو.

 

***

 

ومنذ عام 1930 وحتى تاريخ بدء العمليات الانتخابية، كانت قد بدأت حملة التشهير ضد ملك أسبانيا وعائلته الملكية.. ومن بين الأكاذيب السخيفة، الزعم أنه كان يسفك دم جندي أسباني كل يوم، وذلك لإبقاء أمير استوريا علي قيد الحياة، وهو المعروف بأنه يعاني من النزيف الدموي.. واتُهم الملك بالفجور ـ تماما كما اتهمت إمبراطورية روسيا زورا بأنها كانت عشيقة لراسبوتين.

 

وبعد أن انتهت عمليات التزوير وأفرغت من صناديق الاقتراع أصوات الريفيين المؤيدين للملكية.. وبعد أن أعلنت نتائج الانتخابات لصالح حكومة جمهورية، أصدر الملك ألفونسو الثالث عشر بيانه الأخير إلي الشعب، الذي قال فيه: "لقد برهنت الانتخابات التي جرت يوم الأحد أنني لم أعد أحظى بمحبة وتقدير شعبي.. ولكنني مازلت مقتنعا أن هذه الأحوال ستتغير، لأني كنت دائما أجاهد في سبيل أسبانيا وأضحي مخلصا من أجلها.. قد يرتكب الملك بعض الأخطاء، وبدون شك لقد ارتكبت بعضها، لكنّ شعبي كان دائما صفوحا عن أخطاء الآخرين بدون أي حقد أو ضغينة.. لقد كان بإمكاني، وأنا الأسباني والملك علي جميع الأسبان، أن أستعمل جميع صلاحياتي للحفاظ علي حقوقي الملكية بوجه من يظهر أية مقاومة.. لكنني آثرت أن اتنحّى، خوفا من أن تنقسم البلاد فيقاتل الأسباني أخاه في حرب أهلية.. وأنا إذ أغادر البلاد، أصر علي أنني ما أزال مؤمنا بالحق الذي جاءني عبر التاريخ، والذي سأسال عنه يوميا من الأيام.. كما وأني إذ أتخلى عن جميع صلاحياتي الحالية في ممارسة الحكم ـ وفي قناعتي بأن هذا سيكون لصالح البلاد وليكون الشعب كله مسئولا عن نفسه ـ أضرع إلي الله أن يقوم كل أسباني بواجبه الذي يميله عليه حبه لأسبانيا، بنفس القدر الذي كنت أقوم به".

 

***

 

حتى ذلك الحين، كان المتآمرون قد نفذوا الخطوة الأولى، وبدءوا يعدون للخطوة التالية.. ولم يكن جميع أفراد الحكومة الجديدة من عملاء المرابين، بل كان بينهم أعداد كبيرة من المخلصين، ولكنهم كانوا جميعا بدون سلطة وبدون صلاحيات.. أما السلطة الحقيقية فقد كانت بأيدي العملاء الشيوعيين والفوضويين، الذين بدءوا يُعدون للمرحلة الثانية، وهي إنشاء ديكتاتورية البروليتاريا.. وابتغوا لتحقيق هذا الغرض طريقة اللعب علي الحبلين، فأوحت بعض الخلايا الشيوعية إلي الحكومة بارتكاب بعض الأخطاء، بينما راحت خلايا أخرى خارج الحكومة تشنّ هجوما علي الحكومة لارتكابها هذه الأخطاء، وتنعتها بالسذاجة والفساد.. وهنا بدأ عملاء موسكو بتنفيذ جميع أنواع الجرائم، لدفع الناس إلي القبول ـ بل حتى المطالبة ـ بديكتاتورية البروليتريا للحفاظ علي البلاد وعلي أمنها الداخلي.

 

وكان الجنرال دي ريفيرا قد استخدم لارغو كابا ليرو ومجموعته، في تخفيف حده النزاع القائم بين العمال وأرباب العمل.. ولكن ما إن ظهرت الحكومة العمالية إلي الوجود، حتى كشف كابا ليرو عن حقيقته، وأعلن بصراحة عام 1935 أنه تمكن من إنشاء "عشرات الآلاف من الخلايا الشيوعية في جميع أنحاء أسبانيا".. وهذا يفسر الاستقبال والتصفيق الحار الذي قوبل به الوفد الأسباني في المؤتمر العام الحادي عشر للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، وامتداح الوفد لأن "الإعدادات للثورة تجري بشكل سريع ومناسب تماما للخطة الثورية في أسبانيا".. وفي المؤتمر الثاني عشر للأممية الشيوعية وجهت كلمات الثناء التالية للوفد الأسباني: "لقد لا حظنا في أسبانيا بالذات، قيام أعمال ثورية وإضرابات متكررة علي مدي شهور عديدة، بشكل لم يشهده هذا البلد من قبل.. وليس هذا الصراع العمالي إلا الخطوة الأساسية لقيام الثورة الأسبانية".

 

***

 

ما حدث بعد ذلك في أسبانيا يكشف الكثير من وجوه المؤامرة، وخصوصا ما حدث ضمن التنظيم الشيوعي نفسه.. وكما يقول المثل القديم "عندما يختلف اللصوص تظهر الحقيقة"، فإن هذا ما حدث بالفعل في أسبانيا.. فقد كان الزعماء الثلاثة للحركة الشيوعية مورين وسيرجس ونين، قد أتموا دراستهم الثورية في مؤسسة لينين في موسكو، وعادوا لقيادة الحركة الثورية. 

 

وبعد سنوات من الحياة الصاخبة والمليئة بالنشاط الثوري، جلس مورين ليكتب عام 1926 كتابة Hacia la Segunda Revolution، الذي أظهر فيه معارضته لستالين لأنه قد انحرف عن العقائدية الماركسية.. واتهم مورين ستالين بأنه يستخدم القوي الشيوعية لتحقيق مآربه الخاصة في الحكم الديكتاتوري الاستعماري.

 

وهكذا بدأ الصراع بين ستالين وبين الشباب الثلاثة مورين وسيرجس ونين.. وأثبت هؤلاء عن مهارتهم في تجميع العمال والسيطرة عليهم، فقرر ستالين التخلص منهم يعد أن قاموا بما عليهم حتى بداية الحرب الأهلية.. وكان أمر ستالين بتصفيتهم قد حدد بأن "يظهر موتهم للشعب وكأنه استشهاد بطولي في سبيل الشيوعية"، فأرشد الشيوعيون فرانكو علي مكان مورين، فأعدم بعد أن حوكم.. أما سيرجس فتقول التقارير إنه مات بأيدي الشيوعيين أنفسهم.. وقتل نين في ظروف غامضة.. وبعدها أعلن للملأ أن موت هؤلاء لم يتم إلا علي يد أعداء الشيوعية. 

 

ولكن هذا الصراع لم يمرّ هكذا بدون نتائج أو فضائح.. فلقد أخذ الشيوعيون يفضحون بعضهم البعض ويبينون الحقيقة الخفية لوجودهم.. ومن بين هذه الفضائح ما كتبه سيرجس، حيث يقول: "لقد تم تطور الشيوعية عام 1936 من الثورية الأممية إلي القومية، بشكل قوة عسكرية ضخمة يقوم علي خدمتها أحزاب عديدة في دول مختلفة، وتقوم هذه الدولة القوية بتمويل هذه الأحزاب.. فبعد عام 1936 شكل الستالينيون الحزب الإسباني الاشتراكي الموحد، الذي رعاه المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية.. وكان الهدف من ذلك إنشاء قوة جديدة ذات طبيعة فاشية، تتمكن من تطويق فرنسا، الحليف المحتمل لروسيا في الحرب التي يجري إعدادها".

 

ويقول مورين أيضا "جرت السياسة الإنكليزية منذ القديم علي تدمير أعدائها، حتى تفرض نفسها لحمايتهم، وحتى تجعل نهوضهم من جديدا أمرا مستحيلا.. ونحن نعرف أن أسبانيا هي ضحية إنكلترا في المقام الأول، وضحية فرنسا في المقام الثاني.. وإذا مالت أسبانيا نحو إنكلترا زادت فرنسا في اضطهادها.. وما دامت فرنسا وإنكلترا كلتاهما من الدول الرأسمالية، فلن يكونا الحليف الطبيعي لأسبانيا.. لذلك كان الخط المنطقي لأسبانيا هو أن تنحاز إلي البرتغال وألمانيا وإيطاليا وروسيا، لأن مثل هذا التكتل سيجعل من فرنسا وإنكلترا بلدين محايدين بالنسبة لها".

 

ويشرح لنا سيرجس، كيف أن التجمع اليساري في أسبانيا تمكن من نشر دعايته بشكل واسع في الصحافة العالمية، في حين أن فرانكو لم يكن ليحظى إلا بالنذر السير من اهتمام الصحف.. وقد كتب سيرجس يقول: "لم يعرف التاريخ من قبل، طرقا وأساليب دنيئة ومنحطة، كالتي استعملها ستالين من وراء المؤتمر الأممي الثالث للشيوعية.. فقد وجه ستالين وأعوانه الدعاية الكاذبة، بشكل متواصل وبدون أي مراعاة للحقيقة والصدق.. واستعملوا أسلوب التكرار والسخرية حتى أصبح هذا الأسلوب ميكانيكا بالنسبة لهم.. ولم يستعمل هذا الأسلوب علي النطاق المحليّ، بل تمكنت البيروقراطية السوفياتية من توسيعه إلي نطاق دولي.. فما إن تطلق "الازفستيا" أكذوبة في فلنتيا، حتى تتناقلها مباشرة الصحف في باريس وستوكهولهم ووارسلو وبروكسل ولندن ونيويورك ومالبورن وبيونس آيريس.. وهكذا يتم توزيع الملايين من النسخ التي تحمل الأكاذيب المضللة.. ولا يبقي أمام المثقفين ثقافة واسعة، الذين يعادون الفاشية، إلا تصديق الصحافة لأنها الوسيلة الأولي لاستقاء المعلومات.. ومن هنا يشعر المرء بأن العالم اليوم يعاني من عملية ضخمة للتضليل الأخلاقي.. وهذا ما يجعلني أقر ـ وأنا أشعر بالأسى ـ بصدق كلمات تروتسكي، عندما اعتبر دعاية الكومنترن الستاليني "زهري" الحركة العمالية". 

 

وهكذا يصبح الكلام الذي جاء علي لسان سيرجس ومورين بعد أن انشقا عن موسكو، مطابقا تماما لما جاء في المنشور البابوي الذي أمر بتوزيعه البابا بيوس الحادي عشر في آذار عام 1937، وجاء في أحد أقسامه: "وهناك تفسير آخر لهذا الانتشار الواسع للأفكار الشيوعية.. إنها الدعاية الشيطانية بحق، التي لم يشهد لها العالم مثيلا.. فهي تدار من مركز رئيسي واحد، وتوزع علي مختلف مناطق العالم، بشكل يناسب جميع الناس.. كما تسيطر علي مصادر مالية ضخمة جدا تبقى دائما تحت تصرفها، وتُمكّنها من السيطرة علي العديد من المنظمات والمؤتمرات الدولية، وعلي أعداد ضخمة من العمال.. وتستغل هذه الدعاية الصحف والمجلات والسينما والمسرح والإذاعة والمدارس وحتى الجامعات.. وشيئا فشيئا تتمكن من الدخول إلي عقول الناس من مختلف الطبقات أو الفئات.. وهناك عنصر آخر يسهل انتشار الشيوعية، هو الإسكات أو التضييق علي قطاع كبير من الصحافة العالمية.. ونحن نقول تضييق، لأنه التفسير الوحيد لسكوت الصحافة أو بقائها بعيدة عن جو الإرهاب الذي عم روسيا والمكسيك وحتى جزءا كبيرا من أسبانيا.. وكيف تسكت الصحافة وهي التي تبحث دائما بنهم عن الأخبار لتملأ بها صفحاتها، ولا تتغاضى عن أي خبر صغير أو كبير، فما بالك بتنظيم عالمي كالشيوعية الروسية. إن هذا السكوت يعود من جهة إلي قصر النظر للأبعاد السياسية، ومن جهة أخري لوجود القوي الشريرة العديدة التي مازالت تعمل منذ وقت طويل علي تحطيم المجتمع.. وها نحن نري النتائج المؤسفة لهذه الدعاية أمام أعيننا.. انتشار واسع للشيوعية، وتفاخر أبطالها الصريح بتحطيم الثقافة المسيحية واقتلاع كل ذكري لها من قلوب الناس، وخصوصا من قلوب الشباب.. وفي أسبانيا دمروا كل ما استطاعوا تدميره من الكنائس والأديرة، وأزالوا كل ما استطاعوا إزالته من مظاهر الدين المسيحيّ.. ولم تكتفِ نظريتهم نفسها بذبح المطارنة وآلاف الرهبان ورجال الدين من الجنسين، بل تعدتهم إلي أولئك الذين نذروا أنفسهم لخدمة العمال والفقراء، فكانت الأكثرية الساحقة من ضحاياهم من بين عامة الشعب ومن جميع الطبقات.. وقد ماتوا جميعا بحقد وحشي بربري لا يمكن أن تصدق أنه يقع في هذا العصر.. ولا يستطيع أي رجل عاقل أو سياسي مسئول، أن ينكر أن ما يحدث في أسبانيا يمكن أن يحدث غدا في أي بلد متمدن آخر.. هذا ما يحدث إذا حذفنا فكرة الله من قلوب البشر، لأنه عندها لا يمكن أن يمنعهم أي شيء عن ارتكاب أبشع الجرائم البربرية".

 

 

 

الحرب الأهلية في أسبانيا:

 

يقول الجنرال مولا Mola: "بعد انتخاب الحكومة الاشتراكية في إسبانيا ورحيل الملك عن البلاد، حدث انجراف واسع النطاق نحو الانضمام إلي محافل الشرق الأكبر الماسونية.. وقد فكر المسئولون والرسميون أنهم بطلبهم الدخول إلي هذه المحافل، سيكونون بمأمن من الظلم الذي كانت تمارسه الأكثرية الماسونية في الحكومة، وأنهم بهذا يبرهنون عن إيمانهم بالحكم الجمهوري، وبذلك ينجون من خراب محتم".

 

***

 

كتب تشرشل: "لقد ساعد الشيوعيون في إقامة الحكم الجمهوري، ليتمكنوا مرة أخري من خلق الفوضى الاقتصادية والسياسية، حتى يتوصلوا إلي جعل القادة يعلنون بالمنطق إلي شعبهم الذي عمته الفوضى، أن الطريق الوحيد لاستعادة النظام والقانون ولإنقاذ الموقف، لا يكون إلا بديكتاتورية البروليناريا".

 

وهكذا كانت الخطوة المنطقية بعد الإطاحة بالملكية، هي مهاجمة الدين الذي يؤمن به الشعب، فادخلوا العلمانية إلي المدارس، وقاموا بحملة واسعة ضد السلطة الأبوية والسلطة الكنسية.. وبعد خلق الآلاف من اللادينيين ومن البلاشقة الشبان المعادين للقيم الاجتماعية، لم يعد عليهم إلا الانتظار حتى تسنح الفرصة المناسبة، لدفع هذه الجماهير كي تستعمل القوة ضد القانون والنظام.

 

وفي اجتماع عقد في نادي اتينيو في مدريد، لدراسة البرنامج السياسي المقبل، تم الاتفاق علي النقاط الثماني التالية:

 

1.    خلق ديكتاتورية جمهورية.

2.    معاقبة كل مسئول عن عمل غير شرعي في ظل هذه الديكتاتورية فورا.

3.  تسريح الحرس الأهليّ والجيش والبوليس، واستبداله الجيش الجمهوريّ به، والذي تم اختياره من الطبقات العمالية ومن أعضاء النوادي الجمهورية.

4.    مصادرة ممتلكات الهيئات الدينية.

5.  تأميم الأراضي. (لاحظ أنّ مصادرة الممتلكات والأراضي، تضمن تدمير كل السلطات والقوى القديمة في المجتمع ـ خاصة مع تدمير سلطة الدين ـ  لضمان سيطرة هؤلاء الطغاة على المجتمع.. وهذا هو نفس ما فعلته الثورات الشيوعية والاشتراكية في مصر والوطن العربي.. وطبعا وزعوا الأراضي على الفقراء وزجوا بالملايين في تعليم عقيم وقطاع عام خرب اقتصادنا، فقط لرشوة كلّ هؤلاء وشراء ولائهم!!.. والنتيجة هي الواقع المريض الذي نعيشه اليوم!!))

6.    القضاء علي وكالات الصحافة المعادية للنظام الجمهوري الديكتاتوري.

7.    استغلال المدارس التكنيكية للخدمة العامة مع بعض الأبنية الأخرى.

8.    تأجيل انعقاد المجلس التشريعيّ لإسبانيا والبرتغال، حتى يتم تنفيذ هذا البرنامج. 

 

وكان من أبرز القادة السياسيين في ذلك الوقت أزانا Azana ذو الفكر التحرري، وبريتو Prieto الاشتراكي، وكابا ليروCaballero الشيوعي.. وقد تظاهر أزانا بأنه لا يؤيد هذه الاقتراحات المتطرفة وسخر منها، مع أنه بالفعل كان يؤيدها سرا، لأنه ما إن تم انتخابه حتى قام بتنفيذها فورا.

 

وبعد الاتفاق هلي هذه النقاط الثماني، تم انتخاب المجلس التشريعي التأسيسي.. وتحت شعار "القانون هو الذي يعمل علي الدفاع عن الشعب"، تم إنشاء ديكتاتورية عديمة الشفقة  لم يكن فيها من مظاهر الديمقراطية إلا اسمها، وهو "الجمهورية العمالية".. ثم قام ثوري مدرب يدعي جيمينزا أسوا Jiminez Asua بوضع مسودة الدستور.. أما أزانا فقد وجه اهتمامه الأكبر نحو القضاء علي الكنيسة والتخلص من رجال الدين.. وفي كانون الأول 1932 أسس "الرابطة الإلحادية"، وقام بتمويل مجلتها "سن ديوس" Sin Dios (المنكرون للألوهية) من أموال الشعب.. وقد تم الوصول إلي هذه الأهداف جميعا تحت اسم الديمقراطية!!.. وأعلن للشعب عن طريق القادة أنهم الآن قد حرروا من سيطرة الكنيسة ورجال الدين، الذين تحالفوا مع الإقطاعيين من الملوك المستبدين.. ثم جاء الدور التالي من المخطط، وهو خلق جو من الفوضى والشغب، فبدأ النشاط الثوري في كتالونيا Catatonia.. واستطاع الجنرال بريمو أن يحيطه أول الأمر، لكن النشاط الثوري عاد للظهور من جديد.. وفي كانون الثاني 1933 كتب مراسل "المورننغ بوست" اللندنية أن "مخازن ضخمة للقنابل والبنادق والذخيرة قد تم العثور عليها في جميع أنحاء أسبانيا.. كما أن البوليس تمكّن من التأكد من أن مبالغ ضخمة من المال قد صرفت لإشعال الثورة.. وقد تبين عند تفتيش الذين قبض عليهم أنهم يحملون مبالغ ضخمة من المال". 

 

وبعد ثورة كاتاونيا، قامت الثورة في استروريا Astruria، عندما اتُهم بعض الضباط ببيع السلاح عام 1934.

 

عندئذ حاول فرانكو جاهدا أن يعيد تنظيم الجيش الأسباني، وأن يضع حدا للفوضى.. لكنه لم يَلقَ مساعدة كافية من السلطات الحكومية.. وهنا يمكننا أن نشير إلي التنظيم السري المحكم للحزب الشيوعي، إذا علمنا أن أكثر من ثلاثمئة كنيسة قد تم إحراقها في وقت واحد في مئة قرية ومدينة متباعدة.. كما انتشر الاغتيال بشكل واسع، حتى ظهر احتراف القتل بشكل واضح ورخيص، بحيث صار في الإمكان قتل أي عدو للثورة وتصفيته بدفع 50 بيزيتا (أكثر بقليل من نصف دولار أميركي).. وهكذا استعمل عملاء موسكو الظروف الفوضوية التي تعيشها أسبانيا، لينفذوا خطة لينين بشأن هذا البلد.. فالتعذيب وبتر الأعضاء والاغتصاب والإحراق وإراقة الدماء والقتل، كلها وسائل استعملتها الشيوعية للوصول إلي السلطة.

 

وهكذا تدهورت الأحوال في أسبانيا من سيئ إلي أسوأ، ولم تأتِ بداية عام 1936 حتى عمّ الاضطراب والهيجان البلاد بأسرها.. عندئذ حل الرئيس المجلس التشريعي التأسيسي "Cortes"، وعيّن السادس عشر من شباط موعدا لانتخابات عامة.. وحتى يحين موعد الانتخابات، قام جيل روبلز وكالفو سوتيلو بحملة معادية للشيوعية، بينما كانت الدعاية للبلاشقة تتم عن طريق نشرة تدعى "أصدقاء روسيا"..

 

في هذه الإثناء كان لارغو كاباليرو الشيوعي يقبع في السجن، إثر فشله في تنفيذ محاولة انقلابية.. وقد أجرى معه المستر إدوارد كنوبلر مقابلة نشرها بعنوان "مراسل في أسبانيا"، يقول فيها: "وسنحصل علي 265 مقعدا، فنغير النظام تغييرا شاملا.. ولن تمضي سنوات خمس إلا ونكون قد قمنا بالاستعدادات لتحقيق هدفنا النهائي، وهو اتحاد الجمهوريات الايبرية.. وهكذا ستعود شبة الجزيرة الايبرية لتكون بلدنا الأوحد.. ونحن نأمل أن تنضم البرتغال بالطرق السلمية، غير أننا قد تستعمل القوة إذا احتاج الأمر.. ويمكنك أن تري من خلال هذه القضبان حاكم أسبانيا القادم.. لقد أعلن لينين أن أسبانيا ستكون الدولة السوفياتية الثانية في أوروبا، وستتحقق نبوءته هذه، وسأكون أنا لينين الثاني الذي سيقوم بتحقيقها".

 

وبعد انتخابات متحيزة تماما، لم تشهد أسبانيا لها مثيلا في تاريخها، كتب الرئيس زامورا يقول: "وصلت الجبهة الشعبية إلي السلطة في 16 شباط، بفضل نظام انتخابي سيء جدا وغير عادل أبدا.. وبفضل هذا النظام توصلت الجبهة الشعبية لنيل أكثرية تقريبية، بينما هي في الحقيقة لا تشكل إلا أقلية بعيدة عن الفوز" (((لاحظ أنّ هذه دائما هي نتيجة أيّ انتخابات!! فهي لا يسيطر عليها إلا الأقوى سلطة ونفوذا ومالا وإعلاما!!!))).

 

علي أن النتائج لم تكن في صالح الجبهة في التصويت الأول، لأنها نالت 200 من أصل 465 صوتا.. وهذه النسبة لا تؤهلها لتشكيل حكومة، فكان لا بد لهم من أن يتحالفوا مع أقليات برلمانية، فتحالفوا مع الباسك وغيرهم، وشكلوا مجلسا يتولي إعادة الانتخابات في جميع المحافظات.. ولقد تأكدوا من نجاحهم هذه المرة، بعد أن تمكنوا من تشويه سمعة بعض المرشحين اليمينيين وتشكيك الناس بكفاءتهم.. وجاءت النتائج النهائية لينالوا 265 صوتا ـ تماما كما تنبأ كاباليرو!.. ومع هذا فقد جاء تقسيم الأصوات علي الشكل التالي:

 

أحزاب الوسط والأحزاب اليمينية 4.610.000 صوتا.

 

حزب الجبهة الشعبية 4.356.000 صوتا.

 

وبهذا تكون زيادة الوسط واليمين علي الجبهة 554.000 صوتا.

 

ويستطيع القارئ أن يري أن نجاح الجبهة الشعبية جاء بسبب توحيد القوي اليسارية بشكل واضح وعجيب، حتى إنها جمعت لواءها من الاشتراكي المعتدل حتى الشيوعي البلشفي.

 

وهكذا نري كيف أعد الشيوعيون الستالينيون الوضع العام في أسبانيا حتى وصلوا إلي هذه النتائج.. لقد جاء في السجلات الحكومية للفترة التي سبقت انتخابات شباط 1936 ما يلي: "منذ نهاية ديكتاتورية الرئيس دي رييرا عام 1931، قامت ثورة واحدة قتل فيها 2.500 شخص، و 7 انتفاضات و 9.000 إضراب، و 5 تأجيلات للميزانية، وزيادة بليوني بيزيتا علي المصارف الداخلية، وحُلت 1000 بلدية، وتوقفت 114 جريدة، وعاشت البلاد سنتين ونصف من الحكم العسكري".

 

أما في الأسابيع الستة التي تلت إنشاء حكومة الجبهة الشعبية برئاسة ازانا وكابا ليرو وبريتو، فقد حدثت الأمور التالية:

 

أولا: اغتيالات وسرقات: في مراكز القيادة السياسية 58 حادثا، في المؤسسات الخاصة 105 حوادث، في الكنائس 36 حادثا.

 

ثانيا: حرائق: في مراكز القيادة السياسية 12 حريقا، المؤسسات الخاصة 60، الكنائس 106.

 

ثالثا: أعمال شغب: إضرابات عامة 11، انتفاضات 169، قتلي 76، جرحي 364.

 

وجاء في حديث لكاباليرو في منطقة زاراغوزا: "يجب أن ندمر أسبانيا حتى تصبح لنا.. وفي يوم الانتقام لن نترك حجرا علي حجر".. وأعلن في مكان آخر: "قبيل الانتخابات كنا نسأل عما نريده، ولكن الآن وبعد الانتخابات سنأخذ ما نريد بأي وسيلة كانت.. ويجب علي اليمينيين أن لا يتوقعوا أي رحمة من العمال، لأننا لن نخلي سبيل أحد من أعدائنا".

 

وأعلن ازانا هو الآخر، وقد ظهرت السعادة عليه: "أن أسبانيا لم تعد بلدا كاثوليكيا أبدا".

 

وقد جاء في تقرير مراسل جريدة "التايمز" عن أوضاع برشلونة في شباط 1936 ما يلي: "أنذر أحد المجالس الحكومية عددا من الرسميين بضرورة التخلي عن مناصبهم في شباط، وقد نفذ الإنذار فورا".. وبعد شهر كتب يقول: "أصبح الآن هم جميع الشيوعيين أن يقيموا ديكتاتورية البروليتاريا".. ثم كتب بعد مدة أيضا: "بدأت الاشتراكية الأسبانية تسير بسرعة نحو الشيوعية.. ويلاقي ماركس ولينين تأييدا شديدا من قبل الشبان، الذين يعتبرون أنفسهم تلاميذ لهما.. ويعتقد هؤلاء الشباب أن الحصول علي السلطة هو المطلب الثوري للاشتراكية الأسبانية، وأن العنف والقسوة هما الوسيلة الناجحة للحصول علي هذه السلطات.. ويعتقدون أيضا أن الطريق الوحيد للمحافظة علي السلطة هو ديكتاتورية البروليتاريا.. وهكذا تنتشر تعاليم هذه المبادئ الهدامة بصورة واسعة".. وفي آذار 1936 كتب هذا المراسل أيضا يقول: "لقد أنشد النواب في البرلمان الإسباني نفسه، النشيد الوطني السوفيتي وهم يرفعون قبضات أيديهم مؤدين التحية الشيوعية".

 

والآن نسأل أنفسنا: لماذا تحوّل الشباب الإسباني بإعداد كبيرة إلي الشيوعية؟

 

تشير التحريات إلي أن أزانا ـ أحد قادة الثورة المذكورين سابقا ـ ظهر للشعب علي أنه صاحب أفكار تحررية، يؤمن بالاشتراكية ولا يعادي الدين.. وكان يحتج علي الإرهاب الذي يقوم به الهدامون والشيوعيون.. ولكن هذه الصورة تغيرت تماما عندما وصل إلي السلطة السياسية، حيث استعمل هذه السلطة للقضاء علي المجالس الدينية وعلي مدارسها، ثم عهد إلي فرانسيسكو فرار بتأسيس المدارس العلمانية.. وهكذا أصبح التلاميذ ينشدون الأناشيد العلمانية عند بدء دروسهم، بدل أن ينشدوا لله خالقهم وخالق الكون بأسره.. ومن هذه الأناشيد:

 

"نحن أبناء الثورة نحن أبناء الحرية.. بنا ظهر فجر جديـــد للإنسانية" 

 

كما أنشدوا أيضا تراتيل أخرى في مدارس برشلونة منها:

 

"اقذف المتفجرة، ركز اللغم جيدا، تمسك بقوة المسدس، وأنشد كلمات الثورة.. قف مستعدا بسلاحك حتى الموت، ودمر بمسدسك وديناميتك الحكومة"!!

 

وهناك أناشيد أخري مماثلة، كانت تذاع بالإنكليزية من إذاعة موسكو، موجهة للشيوعيين الإنكليز بين عامي 1937 و 1938.. هذا وقد رفض ناشرو الصحف البريطانية والأمريكية أن ينشروا الحقيقة لأنها ظهرت غريبة لا تصدق.. ومع هذا فإن الحقيقة المرة جاءت في رسالة من فرانسيسكو فرار إلي أحد الرفاق، كتب فيها يقول: "وحتى لا نخيف الناس ونعطي مبررا لإغلاق مؤسساتنا، كنا نسميها المدارس الحديثة وليس مدارس لتعليم مبادئ الرفض والتغيير.. ومع أنني أرغب بإقامة الثورة، إلا أنني كنت أكتفي في ذلك الوقت بزرع الأفكار الثورية في عقول الشباب، بحيث يصبح عندهم الاعتقاد الجازم بضرورة استعمال العنف ضد البوليس ورجال الدين، وبحيث تصبح وسائلهم الوحيدة هي القنابل والسموم".

 

وقد استعملت هذه الرسالة كدليل ضد فرار، عندما ألقت عليه القبض قوات فرانكو خلال الحرب الأهلية.. ولما حكم علي فرار بالإعدام بتهمة الخيانة، ثارت ثائرة محفل الشرق الأكبر في باريس، واحتج لدي جميع المحافل في العالم، مدعيا أن فرار هذا قتل لنشاطاته المعادية للكاثوليكية.

 

ويكفينا أن ننقل قول لينين: "إن أفضل الثوريين هو شاب متحرر من المبادئ الأخلاقية".. ونحن نعلم أن كلمات لينين هي بمثابة قانون بالنسبة للشيوعيين، لذلك عمل جميع أفرادهم علي خلق جيل من الشباب من الجنسين، لا يؤمن بالقيم الاجتماعية والخلقية.

 

تشمل الخطوات الأولي لبرنامج تربية الشباب الثوري تفكيك روابط الأسرة، وإثارة الأولاد علي سلطة آبائهم حتى قبل بلوغهم سن الرشد.. ولقد أدخل هؤلاء المخربين في روع الأطفال أن آباءهم هم جيل رجعيّ متأخر، وأنهم يربون أولادهم علي الكذب والأساطير، كما هي الحال في قصة بابا نويل والمكان الذي يخرج منه المولود!

 

وعلّل المخربون هذا التأخر عند الآباء، بأنه نتيجة للاستغلال الرأسمالي، وأن الجيل القديم هو ضحية التعاليم الرجعية.. ومن هنا كان علي الولد أن يعلّم والدية الأفكار التقدمية الحديثة، وألا يسمح لهما أبدا بالسيطرة عليه وتوجيهه كما يشاءان.. وكان الهدف من هذه الحملة الهدامة هو تقويض قدسية ووحدة الحياة العائلية.

 

وتأتي الخطوة التالية وهي: إزالة احترام رجال الدين من نفوس الأطفال.. وحتى يتوصلوا إلي ذلك صوروا رجال الدين وكأنهم الفئة الأقل ذكاء والأضعف بنية في المجتمع، وأنهم في الحقيقة خدام للطبقات الحاكمة.. وتعلّم الأولاد قول ماركس المعروف: "الدين أفيون الشعوب، لأنه يعلم الخنوع والقبول بالفقر والمرض والعمل المرهق، بهدف إصلاح الروح".. وهكذا صار الرهبان بالنسبة للأطفال "ذئابا في ثياب حملان" و "غربانا" تأكل من جهل وسذاجة العامة من الشعب.. وإذا حدث أن تورط أحد الرهبان في فضيحة، استعملت جميع وسائل الدعاية للنيل من الدين ككل.

 

حتى إذا اتضحت هذه الصورة البشعة لرجال الدين عند الشباب، بدأ الهجوم الفعليّ علي الدين، وانطلقت عمليات السخرية من الدين بشكل مقرف للغاية.. فصوروا المسيح علي أنه ابن غير شرعي لمريم، تلك الشابة اليهودية التي خدعت يوسف وأوهمته أن ابنها هو هدية الروح القدس.. ووصفوا المسيح بأنّه مخادع يخفي الضعف في شخصيته بالسحر والشعوذة التي يسميها معجزات.. وقالوا إن التلاميذ الاثنى عشر للمسيح هم أعوانه الشريرون!!.. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل اتخذوا من أحب الحكايات عن المسيح ـ وهي أنه كان صانع أحذية في سن مبكرة جدا ـ ليستعملوها بمعني آخر، وهو انه كان يستعمل السحر لبيع الخمور في حفلات الزفاف.. واتهموا المسيح أيضا وجميع أتباعه من الكاثوليك بأنهم من آكلي لحوم البشر، واعتمدوا في ذلك علي النص التوراتي الذي عاتب فيه المسيح أتباعه على أنهم إذا لم يأكلوا من لحمه ويشربوا من دمه فإنهم لن يحظوا بالخلود!!

 

وكان يجري تدريب المراهقين عن طريق المرافقة والمصاحبة، فيصاحب أحد المدربين مراهقا يعلمه التحرر، الذي يتحول فيما بعد إلي تحلل من جميع القيم، وانفلات كامل من جميع القوانين.. ويتعلم المراهقون أن الخطيئة الوحيدة هي في عدم طاعة قادتهم، وأن هناك جريمتين فقط يمكن أن يرتكبهما الفرد: إهمال الواجب، وخيانة أسرار الحزب.

 

بعد كل هذه الخطوات يأتي دور الاحتكاك الفعلي مع البوليس.. وحتى يعتاد الشباب المدربون حديثا علي هذه الأعمال، يدخلونهم في مجموعات أو عصابات يقودها قادة شيوعيون.. ويدرب هؤلاء القادة الشباب علي الأعمال المخلة بالنظام والقانون، ويرغمونهم علي الاقتتال حتى يتعرفوا علي مقدارتهم الجسدية.. ثم يدفعونهم إلي ارتكاب جرائم صغيرة تكون الخطوة الأولي إلي جرائم أخرى، وبعدها يسمحون لهم بالتعرف أكثر فأكثر علي التنظيم السري للشيوعية.

 

ويستعمل الشيوعيون قصص الإجرام والتمثيليات الجنسية المريضة كجزء من حربهم النفسية.. وتقوم هذه التمثيليات المعدة بشكل خاص، بإثارة الدوافع الشريرة الكامنة عند الأطفال، كالميول السادية.. كما أنّها تضعف من الدرع الأخلاقي الذي يصون بعض الأولاد.. فحتى اللعب صارت تمثل مسدسات وجنودا وبنادق، بالإضافة إلي الأفلام السينمائية التي صارت تكثر من تصوير الجرائم وإطلاق النار.. وكل هذا يعمل علي تحطيم الروح المسيحية العادية عند الناشئة، ويجعلهم يتأقلمون مع المناظر القاسية والموت المفاجئ واستعمال الأسلحة.. وهناك أيضا كتب ومجلات الدعارة التي وزعها ونشرها الشيوعيون بشكل واسع وبأسعار رخيصة.. وهذه المنشورات أعدت خصيصا لتحطيم ذلك الوجه الأخلاقي الذي أوجدته وطورته قيم الثقافة المسيحية.

 

أما تأثير السينما فقليلا ما يدركه الناس.. فلقد لعبت السينما الحديثة دورا كبيرا جدا في انقلاب الشباب علي بيوتهم وأوطانهم وأديانهم.. فدور السينما تعرض أفلاما تدور فيها لأكثر من ساعة جميع الأعمال الإجرامية التي يقوم بها الفاسقون من الرجال والنساء، والتي يعاقبها الضمير ويحرمها القانون.. وفي النهاية تخصص دقيقة واحدة فقط لعقاب هؤلاء، بأن يموتوا أو يقبض عليهم رجال القانون!!.. ولما عرض فيلم الثورة المكسيكية في مدينة غالفستون في تكساس، وهو يصور تصويرا حقيقيا تلك الثورة، حيث يقتل الرجال أو يجرون من منازلهم ويذبحون علي يد الثوار، كانت نتيجة هذه المشاهد أن أغمي علي المشاهدات.. أما المشاهدون فقد تقيا أكثرهم من هذه الصور.. ولقد أدي هذا إلي منع الفيلم.. ولكننا اليوم نجد أن أفلاما كهذا الفيلم تعرض في حفلات خاصة يطلبها الأطفال والناشئة!!.. وهذا مثال علي مدى ما حققته السينما تدريجيا من سيطرة علي شبابنا، بحيث أصبحوا قساة لا تهمهم المناظر الدموية المؤذية، وأصبحوا يشاهدون ـ بدون أي انزعاج ـ مناظر القتل والاغتصاب.. كل هذا التخطيط يؤكد المبدأ الثوري الذي يقول "لا يمكننا أن نحقق بسرعة إصلاحا ملحا جدا، إلا عن طريق عمل ثوري". 

 

وفي البلاد التي لم تخضع بعد لقادة الحركة الثورية العالمية تقوم، وكالات أفلام خاصة بتوزيع آخر ما يتصوره خيال، من مشاهد الدعارة والرذيلة، لتعرض سرا علي مجموعات من الناس.. وتصور هذه الأفلام جميع الانحرافات الجنسية التي عرفتها البشرية ((الآن صارت هذه المواد الإباحية تبث في القنوات الفضائية بل والأرضية!!!)).. وتستعمل هذه الأفلام لإفساد الشباب، مما يشجعهم علي الانخراط في صفوف المنظمات الثورية.

 

وهكذا تتم عملية تربية الشباب الثوري.. حتى إذا برهن الشاب عن عدائه للدين وللقيم الاجتماعية، وبدت عليه ملامح القسوة والشدة، أرسل إلي موسكو، حيث يتم تعريفه "بالحرب الثورية وبحرب الشوارع".. وهذا بالطبع يختلف عن التدريبات التي تعطي لقادة المثقفين والعمال.

 

ولقد حققت الحرب النفسية الثورية دورها في العالم الغربي كما حققته في أسبانيا، فالانسان هناك أصبح يسمع آخر التطورات العالمية وأخبار الجرائم وحوادث الطائرات والسيارات والاغتيالات الوحشية، ثم يذهب لينام بهدوء دون أن يرفّ له جفن.. بينما كانت أخبار مثل هذه، لو حدثت قبل خمسين سنه تمحو النوم من الجفون.

 

لقد أصبحت هذه الأعمال الإرهابية أمورا عادية تحصل كل يوم، وأصبحت عندنا مناعة ضد الانفعال والاضطراب الذي كان يصيبنا عندما كنا نشاهد في الماضي عملا غير عادي.. أصبحنا لا نكثرث عندما نسمع خبر الإطاحة بحكومة ما عن طريق القوة، ولو كنا نكثرت، لفعلنا شيئا ما لوقف ما يحدث.

 

وعندما كانت الشيوعية تتوغل في أسبانيا، كان الناس يقولون "لن تستطيع الشيوعية أن تسبب أي ثورة هنا"، لأن معظم الناس يوجهون أسماعهم إلي من يحدثهم عن الأمن والاستقرار المزعومين.. إنهم كالنعامة يضعون رؤوسهم في التراب عندما يشاهدون اعداءهم ويظنون أنهم بمأمن منهم.. ولكن عليهم أن يتذكروا أنهم بوضع رؤوسهم تحت التراب لا ينقذون إنسانا من قاتل أو مغتصب، ولا يبعدونه عن قنبلة متفجرة.

 

***

 

عندما اقترب موعد الانتفاضة الثورية في أسبانيا، تشجع موزعو الأدب الخليع والصور العاهرة، حتى إنهم كانوا يقفون علي أبواب الكنائس يعرضونها علي المصلين عند دخولهم وخروجهم منها!!.. وتصور أغلفة هذه المناشير الرهبان والراهبات في أوضاع مخلّة.. ويذكر المراسل المستر أضرار كنوبلو الذي يعتبر بحق مرجعا عن الحرب الأهلية في أسبانيا، كتابه "مراسل في أسبانيا": "بين الفينة والفنية، كانت وقود رجال الدين البروتستانت تأتي لتحتج علي بعض الكتابات المعادية لرجال الدين.. فيتم استقبالهم علي أحسن وجه، ثم يأخذهم مرشد خاص إلي حيث تريد السلطات الشيوعية.. وبعد يوم أو يومين يعودون إلي بيوتهم وقد تم التأثير عليهم بالشكل المناسب.. ولكن حدث في أحد الأيام أن دخل وفد من رجال الدين إلي إحدى المكتبات للبحث عن بعض المؤلفات.. وقبل أن يستطيع موظف المكتبة منعهم، شاهدوا بعض نسخ مجلتي "La Traca" و"Bicharracos".. وظهر علي أغلفة هذه المجلات صور مخلة بين رهبان وراهبات شبه عاريات.. كما اشتملت المجلتين على العديد من الصور البذيئة.. وخرج الوفد وكأن بهم مسا".

 

ويمكننا أن نعقد مقارنة بين حالة أسبانيا خلال أعوام 1923 ـ 1936، وبين حالة كندا في الوقت الحاضر.. حيث الخلاف قائم فيها بين السكان الذين ينطقون الإنكليزية والسكان الذين ينطقون الفرنسية.. فهناك في أسبانيا يعيش شعب الباسك المتميز بلغته وثقافته وعاداته التي ترجع إلي عهود سحيقة جدا.. كما أن هذا الشعب يعرف بكبريائه وتدينه الشديد.. ويعتقد الباسك ـ كما يعتقد الكنديون الفرنسيون ـ أنهم يستحقون استقلالا قوميا.. وحتى يحققوا هذا الاستقلال نظموا حركة انفصالية لتحرير الباسك وفصله عن بقية أسبانيا.. وكان طبيعيا بالنسبة لمخططي الحركة العالمية في أسبانيا، ألا يهملوا هذا الوضع، فالباسك شعب كاثوليكي شديد الإيمان، وهو يؤمن أنه سيكون علي حق عندما يحارب من أجل الاستقلال.. ولكن الأكثرية من هذا الشعب عملت مع الشيوعيين لتحقق أهدافها، دون أن تعلم إنها متحالفة معهم.. وحدث هذا عندما تسرب الشيوعيون إلي المجتمع الباسكي وأخفوا حقيقتهم، حتى صاروا قادة "الانفصال".. وعندئذ قادوا شعب الباسك نحو المذبحة، تحت شعارات الوطنية والحماس الديني.. وكان هؤلاء القادة مثل الرئيس اغويير Aguirre، وغيرال Giral، ونيرجنNergin، يعملون علي الحبلين، رابطين بين شعار الصليب المسيحي وشعار المنجل والمطرقة الشيوعيين.. ولما اشتعلت الثورة تركت الجماهير لتلاقي مصيرها.. وبينما كان المئات يلاقون حتفهم، كان اغوييرAguirre رئيس دولة الباسك وقائد جيشها يجلس في مكتبه في بلباو Bilbao.

 

وقد جاء مقدمة كتاب "الظلم الأحمر في بلاد الباسك" The Red Persecution in The Basque Country، التي كتبها F. J. Olondriz ما يلي:

 

"وعندما جاء اليوم المحدد، شعر الانفصاليون الباسك وقد أثارتهم العاطفة العمياء، أنهم متحدون بقوة مع الشيوعيين.. مع الملحدين الهدامين.. ودخل الباسك الحرب وتحملوا مسؤولية الذبح والقتل، معتقدين بشرعية جميع الأساليب الوحشية.. لقد تجاهل هؤلاء كلمات رئيسهم الديني البابا بيوس الحادي عشر، التي جاءت في الأمر العام الذي وزع علي جميع أبرشيات الروم الكاثوليك، والتي تقول: الشيوعية هي ارتداد عن الدين لا جدال فيه.. ولا يسمح أبدا لمن يرغب في خدمة الثقافة المسيحية أن يتعاون مع الشيوعية بأي شكل من الأشكال".

 

***

 

بدأت الحرب الأهلية في أسبانيا 1936.. وقد أعلن كالفو سوتيلو في المجلس التشريعي Cortes أنه في الفترة بين شباط وحزيران من عام 1936، حدث 113 إضرابا عاما، 218 إضرابا جزئيا، بينما أحرق 284 بناية و 171 كنيسة، و69 ناديا و10 مكاتب صحيفة، كما ارتكبت 3300 عملية اغتيال.

 

وبسبب هذا الإعلان، قفز رئيس الوزراء كساريس كويروغا علي قدميه وأجابه بغضب: "ستكون أنت المسئول شخصيا عن الانفعالات التي سيسببها خطابك".. أما الشيوعية دولوريز إباروري فقد وقفت في المجلس وأشارت إلي سوتيلو صارخة: "لقد لفظ هذا الرجل خطابه الأخير".

 

وبالفعل كان هذا خطاب سوتيلو الأخير، لأنه سحب من منزله علي يد جنود يقودهم الكابت دون أنجل مورينو، وجره هؤلاء إلي باحة إحدى الكنائس القريبة وقتلوه.. ولقد كان هذا الحادث السبب وراء ترك بعض الجنرالات لمحفل الشرق الأكبر، وطلبهم من فرانكو أن يتسلم قيادة البلاد.. ويجب أن نعلم أن دولوريز إباروري كانت عملية لستالين، وكانت مهمتها إفساد ضباط الجيش، وتنظيم وتدبير غارات علي القوات الحكومية.. وقد أدت مهمتها المتعددة الجوانب علي الوجه الأكمل.

 

وبعد اغتيال سوتيلو أغار حرس الطوارئ علي منازل العديد من الشخصيات البارزة المعادية للشيوعية، ولكن أكثرهم تمكن من الفرار بعد أن تم إخطارهم بالأمر مسبقا.

 

وفي يوم الانتخابات (شباط 1936)، اتصل فرانكو تلفونيا بالجنرال بوزاس ـ قائد الحرس الشعبي ـ وأخطره بأن الشيوعيين المنتخبين للمجلس التشريعي يخططون لإثارة الشغب وأعمال العنف، بهدف الإطاحة بالحكومة الجمهورية.. ثم اتصل بالجنرال موليرو وزير الحربية، وأخبره بالأمر وبالخطر الداهم.. واقترح فرانكو أن يُسمح له بإعلان الأحكام العرفية في البلاد.. وقد استطاع فرانكو أن يحصل علي موافقة أكثر القيادات للعمل علي إيقاف موجة العنف والشغب، ولم يبق عليه إلا توقيع مجلس الوزراء، ليستعيد النظام وليمنع قيام الحركة الثورية ضد الحكومة الجمهورية.. ولم يتمكن فرانكو من الحصول علي هذا التوقيع، لأن رئيس الوزراء طلب إعفاءه من مهمة تصديق مثل هذا القرار.. وكانت إجابة فرانكو له صريحة، إذ قال: "أنت السبب فيما آلت إليه الحالة في أسبانيا.. وعليك الآن أن تحاول إنقاذها".

 

عندئذ صدرت الأوامر للجنرال فرانكو أن يذهب إلي جزر الكناري.. وكان هذا بمثابة نفي له من أسبانيا.

 

وقبل أن يغادر فرانكو البلاد، اجتمع بالجنرالين مولا وفاريلا، اللذين أكدا له أن بقية الجنرالات سيتركون المحافل الماسونية العسكرية عندما يعرفون الحقيقة.

 

وقبل أن ينتهي الاجتماع، تم الاتفاق علي طريقة اتصال سرية بين مولا وفرانكو.. وما أن غادر فرانكو أسبانيا إلي جزر الكناري، حتى جدد عملاء ستالين نشاطهم في البلاد.

 

وفي 23 حزيران 1936، بعث فرانكو وبرسالة مطولة إلي وزير الحربية، يعيد فيها تحذيره من أخطار محددة.. ولكن هذه التحذيرات لم تنل إلا الإهمال، لأن الوزراء الشيوعيين في الحكومة الجمهورية كانوا يسيطرون علي سياستها وتحركاتها. 

 

حتى إذا جاء مقتل كالغو سوتيلو في 13 تموز، قرر فرانكو أن يبدأ العمل، فأرسل رسائل بالشفرة إلي بعض الجنرالات، الذين أقسموا أن يحاربوا من أجل إنقاذ أسبانيا من براثن الشيوعية ومن الانخراط في فلك الروس.. ومن بين الذين اتصل بهم فرانكو، مولا وغوديد وفانجول وسانجورجو وساليكويت، وبعض الضباط في البحرية الأسبانية.. كما اتصل بكويبو دي.. وبعد إرسال الرسائل، طار فرانكو من جزر الكناري إلي تطوان، حيث يمكنه الاعتماد علي القوات المغربية.

 

وفي 21 تموز، أصدرت فرانكو بيانه الذي حدّد القضية بأقل عدد من الكلمات: "من واجب الجميع أن يدخلوا هذا الصراع الواضح بين روسيا وأسبانيا".. وهكذا بدأت الحرب الأهلية، فانقسمت البلاد إلي فئتين: الموالون Loyalists وهم جميع الفئات اليسارية التي جمعتها الجبهة الشعبية تحت لوائها، و الوطنيون Nationalists وهم جميع الفئات التي انضمت تحت قيادة فرانكو، وضمّت كل الأحزاب اليمينية.. وكانت الدعاية التي سرت في ذلك الوقت قد أقنعت الرجل الإسباني العادي، أنّ مجموعة صغيرة من الجنرالات قد دبرت انقلابا عسكريا لتحويل، حكومة الجبهة الشعبية الجمهورية إلي ديكتاتورية عسكرية.

 

وانقسم الشيوعيون إلي مجموعتين.. الأولي تريد تحويل ديكتاتورية البروليتاريا إلي حكم مطلق علي الطريقة التي اتبعها ستالين، والثانية كانت ترغب في جعل أسبانيا جزءا لا يتجزأ من الجمهوريات السوفياتية التي تدعو لها الماركسية.

 

وأما القوميون الأسبان فقد ضموا فيمن ضموا، الحركة الملكية التي كانت تنادي بإعادة الملك إلي أحفاد دون كارولز منذ 1837.. وقد ساعد هؤلاء فرانكو، فقط لأنهم لا يتحملون أن يروا الشيوعية تنتشر في أسبانيا.. وإلي جانب الملكين ضم جيش فرانكو حزب الكتائب الأسبانية، وهو حزب يميني متطرف كان يضم مجموعة من النازيين الألمان، الذين يؤمنون بالحرب الشاملة لإبادة أعدائهم اليساريين.. وفي حالة من الانقسام كهذه، كان لابد من أن يتهم اليمينيون جميع اليساريين بالشيوعية، وأن يتهم اليساريون جميع اليمنيين بالفاشية.. ومن جراء هذا الانقسام أيضا، صارت البلاد عرضه لأعمال الإرهاب، وخصوصا التي ارتكبها الشيوعيون، الذين عذبوا واغتصبوا وأعدموا الآلاف، كجزء من خطة إرهابية للسيطرة علي الوضع.. ولكن بعض الفئات المتطرفة التي عملت مع فرانكو لم تسكت، وعاملت أعداءها بالمثل.. وهكذا نجد أن الحروب الأهلية تنخفض بالإنسان إلي درجة أحط من الوحوش.. وهنا يقع اللوم كله علي أولئك الذين يثيرون مثل هذه الحروب.

 

والعجيب أن خطة فرانكو ومحاولته هزيمة الشيوعيين لم تفشل، مع العلم بأن التحريات التي تلت الحرب الأهلية أثبتت أن مجموعات كبيرة من الخونة كانت قد تسربت إلي الجيش وتسلمت مراكز حساسة، وذلك بمساعدة عملاء موسكو من أعضاء حكومة الجبهة الشعبية في أسبانيا.

 

وقبل قيام الحرب الأهلية، كان جوليو الفيريز ديل فايو، وزيرا للخارجية في حكومة الجمهوريين ورئيسا عاما لشؤون الجيش الأسباني، وكانت الأغلبية العظمي من هؤلاء تنتمي إلي الحزب الشيوعي، فعملت علي إجبار الجنود علي الانضمام للحزب.. وقد نشر السفير السابق للجمهورية الأسبانية في باريس هذه الحقيقة، في مجلة "نيويورك تايمز" في 19 أيار 1939.

 

وهناك دليل آخر نورده علي لسان انداليكو بريتو، أحد النواب الاشتراكيين، الذي كان يشغل أيضا منصب وزير الدفاع أيام الحرب الأهلية، وهو نفسه الذي كان يوجه الحرب ضد فرانكو.. يقول في تقرير نشرة في باريس عام 1939 بعنوان: "كيف ولماذا تركت وزارة الدفاع الوطني؟": "لقد كان تحمل المسؤولية صعبا جدا، وذلك لأن الشيوعيين كانوا يشغلون مراكز حساسة، وقد أخفوا بسرية تامة حقيقة أمرهم وانتماءاتهم، وتمكنوا من دخول الأحزاب الأخرى.. وأذكر علي سبيل المثال واحدا منهم، وهو الدكتور جوان، الذي كان له سلطة قوية خلال الحرب الأهلية.. ولأنني رفضت إطاعة الأوامر الصادرة من موسكو، طردني جوان نرجن من الحكومة التي ترأّسها في الخامس من نيسان 1938.. واستطاع طردي من مركز وزير الدفاع الوطني، بعد أن وجه ضدي مؤامرتين في وقت واحد.. الأولي قامت بها قوات البوليس السري الروسي ورجاله العسكريون في بلادنا، والثانية ثم تنفيذها علي يد الشيوعية الأسبانية.. فالروس كانوا يأمرون والشيوعية الأسبانية كانت تنفذ".

 

ويدّعي الدكتور جوان هذا انه ليس شيوعيا وإنه لم يكن يوما من الأيام كذلك، ولكنه هو الذي أمر بتسليم سبعة آلاف صندوق من الذهب الأسباني إلي ستالين.. وقد حملت هذه الصناديق علي السفن: كين، ونيف وفولجيلز التي رفعت العلم الروسي.. ورافق هذه السفن جوزية فيلاسكو وأرتورو كانديلا كأمناء ورجال ثقة، حتى وصلت السفن الثلاث إلي أوديسا في روسيا.. وتم كل شيء في الخفاء.. حتى أعضاء حكومة الجبهة الشعبية لم يكونوا علي علم بذلك.. وفي عهد جوان أيضا تم تعيين ثلاثة من الشيوعيين في مناصب مساعدي "سكرتيريا" الدفاع، وكانوا هم المسيطرون الفعليون علي القوات الإسبانية، برا وبحرا وجوا.

 

ومع أن لارغو كاباليرو كان شيوعيا، إلا إنه لما رفض إطاعة الأوامر الصادرة إليه من الموفدين العسكريين، تجاهل الشيوعيون أوامره وهو في مركز الرئاسة.. وكان كاباليرو يحاول أن يكفر عن أخطائه التي ارتكبها، ولكنه وجد أن الوقت أصبح متأخرا جدا.

 

وهناك إشارة لثيو روجرز في كتابة "أسبانيا في الرحلة المأسوية"، إلي وقوع وثائق في يد فرانكو والجنرال مولا، عن قيام ثورة واسعة النطاق، أكيدة الوقوع.. يقول روجرز: "تم العثور علي وثائق وخطط من بعض الشيوعيين والفوضويين.. وهي تظهر أن هناك خطة مدروسة بدقة قد وضعت للانقلاب علي الحكومة المركزية في مدريد، وإنشاء ديكتاتورية سوفياتية"

 

وقد تأجل تنفيذ الخطة الشيوعية ثلاث مرات، حتى تستكمل القوات العميلة ترتيباتها النهائية الأخيرة.

 

وكان علي العالم بأسره أن يلم بالخطة التي أعدتها موسكو ضد أسبانيا، لأن الوثائق التي كانت تحمل الأمر النهائي بالثورة من الكومنترن إلي الحركة الثورية الأسبانية، تم كشفها ونشرت في "صدي باريس" في نيسان 1936. 

 

وجاء في هذه الجريدة ما يلي:

 

"نص التعليمات الموجهة إلي الميليشيا الحمراء".

 

"هذه التعليمات الموجهة إلي الميليشيا الحمراء الأسبانية، ليست صادرة من تنظيم مركزي أسباني، ولكنها صادرة من فرع الخدمات التكنيكية التابع للحزب الشيوعي الفرنسي، الذي بتعاون مع الكومنترن وموفدية في فرنسا.. هذه الوثيقة التي ننشرها الآن قد وقعت في أيدي الحكومة، ونحن مقتنعون بان المسيو دالادير وزير الحربية والدفاع قد أعطي الأوامر لأخذ الاحتياطات الدفاعية والوقائية اللازمة".

 

وجاء في النص الذي اختصرناه ما يلي:

 

1.  تقوية فرق الصدام والحرس في الثكنات وتزويدهم بالمسدسات الأوتوماتيكية.. هذه الفرق هي أفراد الحزب الشيوعي التي تخدم في القوات العسكرية الدائمة وفي القوات الاحتياطية.

2.  سيتم الاتصال بين هذه الفرق وبين من سيهاجمون الثكنات.. وسيلبس المهاجمون اللباس الموحد، ويكونون تحت إمرة ضباطنا الذين نثق بهم كل الثقة.

3.  عندما يبدأ القتال، سيتم إدخال ضباطنا وجنودنا إلي الثكنات سرا.. وعندما تستقبلهم لجنة خاصة ويعملون سوية معنا داخل الثكنات حسب الخطة المتفق عليها. 

4.  ستقوم اللجنة المؤمّنة داخل الثكنات، بإعداد لوائح كل يومين، تشمل العناصر المعادية والحيادية والمؤازرة والخبراء.. وعندما تقع الثكنات في أيدينا، سنتخلص بسرعة وبدون تردد من المصنفين كأعداء لنا، وخصوصا الضباط والقادة.

5.    سيزود كل عنصر من عناصر اللجان بلائحة تشمل أسماء الأفراد الذين يجب عليه قتلهم شخصيا.

6.  بعد التخلص من الأعداء، يتعرض الحياديون لامتحانات قاسية للتخلص من التردد الذي يصيب هؤلاء عادة.

7.  تعمل اللجنة المسئولة عن الحياديين، الترتيبات اللازمة للسماح لمجموعات الحراسة الموجودة خارج الثكنات بالدخول إليها، بحجة المساندة لوضع حد للثورة.

8.  تتألف المجموعات المكلفة بتصفية الجنرالات المعادين المسجلين علي اللوائح، من عشر رجال مسلحين بالمسدسات الحربية.. ولكل جنرال مساعدان وسكرتير يجب أولا قتلهم في بيوتهم.. وعلي هذه المجموعة المكلفة بتنفيذ هذه العملية المهمة ألا تتراجع أمام أيّ صعوبة كانت وإن اضطرت للتخلص ممن يقف في وجهها مهما كان عمره أو جنسه.

9.  أما الجنرالات المسرحون من الخدمة والذين تشملهم اللوائح، فتجري تصفيتهم بمجموعات تتألف من ثلاثة عناصر، تقوم بمهمتها علي الشكل المذكور في المقطع السابق.

10.  تفاصيل عن كيفية احتلال بعض البيوت والعقارات في المراكز الستراتيجية وتحصينها بالأسلحة، بحيث تتمكن الميليشيا الشيوعية من نصب كمائن للقوات الهاربة من الثكنات.. وجاء في التعليمات "بينما يقوم ضباط الميليشيا بحماية السيارات، تقوم مجموعات الميليشيا بالتقدم إلي المراكز الاستراتيجية كمفارق الطرق بسياراتهم ودباباتهم، وهم يحملون الأسلحة الرشاشة لمنع أي مساعدة من أن تصل إلي المدن.. ستحمل الشاحنات كميات من القنابل اليدوية".

11.  عندما تبدأ الثورة، تقوم مجموعات الميليشيا وهي ترتدي لباس الحرس الأهلي والحرس الهجومي، باعتقال رؤوس الأحزاب السياسية، بحجة الاحتياطات الضرورية لحمايتهم.. وبعد الاعتقال تتم عملية تصفية الجنرالات المسرحين.. وتقوم هذه المجموعات ذات اللباس الموحد باعتقال الرأسماليين البارزين الواردة أسماؤهم في اللائحة "ب" من القرار المعمم رقم 32.

12.  يجب ألا يستعمل العنف مع هؤلاء الرأسماليين، إلا عندما يبدون مقاومة.. ولكن يجب إجبارهم علي تسليم أموالهم الموجودة في البنوك وسنداتهم المالية.. بعدها يتم التخلص منهم ومن عائلاتهم ولا يترك منهم أحد.

13.  يستعمل نفس الأسلوب الذي استعمل في روسيا، في معاملة أفراد القوات المسلحة الذين يظهرون ولاءهم وتعاطفهم معنا.. فنستغل خدماتهم أولا، ثم يتم التخلص منهم كالأعداء تماما.. لأنه حتى تتكلل مساعينا بالنجاح ويكون لها صفة الدوام، يجب أن ننظر إلي الجندي المحايد علي أنه أفضل من الذي يخون القوانين العسكرية عندما يواجه الخطر، فهذا لا يمكن أن نتوقع منه إلا الخيانة إذا تركنا له الفرصة المناسبة.

14.  تتم عمليات الاتصال ونقل الأوامر بواسطة سيارات صغيرة أو دراجات نارية تكون مسلحة بمسدسات حربية.

15.  يجب وضع تقارير دقيقة جدا عن حياة المحايدين والمؤازرين، تشمل كل شيء عنهم، حتى أمورهم العائلية، والأفراد الذين تربطهم بهم روابط الحب والتعلق.. هذه الأشياء تهمنا عند الضرورة.. وإذا حدث أن أظهر أحد عناصرنا أوحد الموالين أو الحياديين ضعفا أو مقاومة للأوامر أو رفضا لها، عندئذ يجب أن تنقل فورا الشكاوى بحقه إلي اللجنة العليا.

16.  يجب تنظيم الميليشيا وتوزيع عناصرها، بشكل يبعد الفرد عن منطقة سكنه أو المحلة التي يوجد له فيها أقارب، لأن التجارب الماضية علمتنا أنه في اللحظة الأخيرة كان الأفراد يرفضون الأوامر الصادرة إليهم بسبب العاطفة التي تربطهم بأقاربهم وأهليهم.. كما أن الصداقات كانت السبب في كثير من التلكؤ في تنفيذ الأوامر حسب الخطط التي كنا نعدها. ((يذكرني هذا بقوات الأمن المركزي التي تطلق الرصاصات على شعبها في الانتخابات!!!))

17.  يجب اعتبار أصحاب عنابر البضائع والمخازن التجارية من الفئة الرأسمالية المهمة.. ويتم تنظيم هذه العنابر والمخازن لخدمة الحكومة العمالية عن طريق لجان إدارية.

18.  يتطرق هذا المقطع لقضية استعمال المجاعة كوسيلة للقضاء السريع علي المعارضة.. وفي النص ما يلي: "يمنع تزويد الطبقة البرجوازية بالطعام والشراب خلال الأسبوع الأول، وحتى تتشكل اللجنة التأسيسية بشكل طبيعي.. أما الأطعمة المخزنة في الثكنات والتي لا يمكن الاستيلاء عليها فيجب إفسادها بالبرافين وغيره من المواد المفسدة للأطعمة".

 

ومنذ أن صدرت هذه التعليمات، بدأت القيادات الثورية في جميع الدول بوضع الخطط اللازمة للتصرف مع رجال البوليس والطوارئ، لأن التجارب أظهرت أن أفراد هذين التنظيميين الرسميين "يبقون مخلصين لسادتهم البورجوازيين".. وشملت هذه الخطة الخطوات الثلاث التالية:

 

1.    التسرب داخل هاتين القوتين.

2.    إفساد التنظيم الداخلي في هذين التنظيميين.

3.  يطلب من أفراد الحزب أن يشتروا أو يستأجروا الأماكن المشرفة علي مراكز البوليس وسرايا الطوارئ، حتى يتم القضاء علي الأفراد وهم يبدلون الدوريات.. وبهذا يأتي توقيت بدء الثورة، في الوقت الذي يتم فيه تبديل الدوريات.

 

وهكذا حددت هذه المعلومات التفاصيل اللازمة حتى تتمكن قيادة الحزب الشيوعي من الاستيلاء علي المرافق العامة والإدارات الرسمية في أسبانيا.. وكان الغرض من هذا هو السيطرة التامة بأقصر وقت علي جميع مخازن المواد الغذائية ووسائل المواصلات.

 

 

 

الحكم الثوري الإرهابي:

 

استعمل القادة الثوريين خلاياهم السرية، لكي يسيطروا علي مراكز رئيسية في السجون والمعتقلات ومستشفيات الأمراض العقلية، لإطلاق سراح العناصر المخربة في المجتمع واستعمالها في الصدامات التي تجري عند قيام الثورات، لإنارة الرعب بين الجماهير وإراقة الدماء، تمهيدا لقيام "حكم إرهابي" يمكن القادة الثوريين من السيطرة علي عامة الشعب في أسرع وقت ممكن.

 

هذا وكانت سياسة سجن مدريد تتأثر بنصائح الجنرال كلبير ـ وهو الكندي الذي تم تدريبه تدريبا نظريا في مؤسسة لينين في موسكو ـ ثم أرسل إلي أسبانيا ليخدم ستالين وليحصل علي التدريب العملي في الحرب الثورية.

 

وما إن تسلمت حكومة الجبهة الشعبية أعمالها في آذار 1936، حتى أصر اليساريون المتطرفون علي إصدار عفو عام يمنح الحرية لجميع الذين اعتقلوا إبان الثورة الاستورانية.. وهكذا أطلق سراح هذا الجيش الصغير ـ ثوار أستوريا ـ ومعه سراح أربعين ألفا من المجرمين العاديين، شرط أن يحملوا السلاح مع جيش الموالين.. وقد تخلص القادة الثوريون من معظم هؤلاء المجرمين بعد أن أدوار خدماتهم.. وبذلك استطاعوا إقناع الناس بأن الأعمال الإرهابية التي ارتبت إبان الثورة، كانت أعمالا إجرامية فردية، وليست حسب خطة إرهابية مدروسة مسبقا.

 

هذه هي الأحوال التي واجهها فرانكو عندما عزم علي إنقاذ أسبانيا من الظلم الشيوعي.. ولقد صنفت العديد من الكتب التي تروي كيف استطاع فرانكو مع حفنة قليلة من الجنرالات، من إحباط المخطط الشيوعي... فما إن أصدر فرانكو بيانه، حتى صدرت الأوامر من المسئولين الشيوعيين في سكرتيرتا الجيش البري والبحري والجوي، إلي الخلايا الشيوعية، بتصفية جميع الضباط الموجودة أسماؤهم علي اللائحة كأعداء.. وقد نفذت هذه الأوامر بدقة متناهية، لأن الخلايا الشيوعية السرية كانت قد ركزت نفسها وسيطرت علي وسائل الاتصال بأنواعها الميكانيكية والسلكية واللاسلكية.

 

وهكذا اغتيل ثلثا ضباط أسبانيا علي حين غرة، وببرودة متناهية، في المراحل الأولي للهجوم.. وكان المتمردون يقنعون المسؤولين وبقية الرتباء بأنهم ينفذون أوامر الحكومة، وأنهم يتخلصون ممن ثبتت أدانتهم كأعداء.

 

وقد حدثت أشياء لا يمكن تصديقها عندما نشبت الحرب الأهلية.. فقد أصبح مألوفا أن تري سفينتين حربيتين تتبادلان إطلاق النيران وهما علي بعد أمتار فقط.. وفي إحدى المرات كانت إحدى السفن تتلقي المدافع الشيوعية في مقدمتها، وفي نفس الوقت تتلقي مدافع خصوم الشيوعيين من الخلف.. وامتدت المجازر من السفن إلي المواني ثم إلي المدن القريبة منها.

 

وقد يبرر البعض هذه المجازر، علي أنها كانت أعمالا ضرورية ضد من يمكن أن ينضموا إلي فرانكو، ولكن ليس بوسع أحد أن يبرر الإرهاب الشيوعي الذي فرضوه علي الشعب الآمن الأعزل من السلاح.. ولكن الواقع برهن بمقتل مئات الآلاف من الأبرياء، أن سياسة لينين هي التي اتبعت.. فلينين يصر علي أن الإرهاب يجب أن يتبع كل محاولة للإطاحة بالحكومات عن طريق القوة، لأن الإرهاب هو الوسيلة الاقتصادية للسيطرة علي الجماهير بسرعة وبشكل كامل.. وأيضا قال ستالين: "الأفضل أن يموت مئة من الأبرياء من أن يهرب مناهض واحد".. ونفذ هذا الأمر بعناد شيطاني.

 

***

 

في السابع عشر من تموز 1936، وصلت فرقة من الشيوعيين الذين يلبسون الزي الحكومي إلي دير الراهبات الدومينيكان في برشلونة.. وأخبر قائد الفرقة رئيسة الدير أنه نظرا لخوف السلطات من أن تصل أعمال العنف إلي الدير، فإنه يحمل الأوامر بمرافقة الراهبات إلي مكان أمين.. وجمعت الراهبات ممتلكاتهن الدنيوية القليلة، ورافقن الجنود بدون ارتياب إلي ضواحي المدينة، حيث لقين حتفهن جميعا.. وأعلن القادة بعد ذلك ببرود: "لقد كنا بحاجة إلي البناء، ولم نشأ أن ندمره قبل أن نقوم باحتلاله".

 

وهناك أيضا قصة السنيور سالفانز، الذي عرف بعدائه للشيوعية.. لقد زارت سرايا التطهير منزله في برشلونة ثلاث مرات.. ولما يئست في المرة الثالثة من استقاء معلومات عن مكانه، قام الشيوعيون بقتل جميع أفراد عائلته المؤلفة من ثمانية أشخاص!

 

ومن أكثر الأعمال وحشية وعنفا التي ارتكبت تحت شعار "الحرية والمساواة والأخوة" هو مقتل ستة عشر رجلا تطوعوا كممرضين في إحدى مستشفيات برشلونة.. وكانت الجريمة الوحيدة التي ارتكبها هؤلاء، أنهم ينتمون إلي تنظيم ديني، جعلهم يعاملون جميع المرضى بالمساواة، دون مراعاة للطبقة أو اللون أو الطائفة!!

 

ويقول ي. م. غودن في الصفحة 72 من كتابه "الصراع في أسبانيا": "وتبع ذبح الأحياء تمثيل بالأموات.. ففي الأسبوع الأخير من تموز 1936، أخرجت جثث الراهبات من القبور وأسندت إلى حيطان الأديرة، وعلقت علي أجسادهن لوحات تحمل عبارات بذيئة ومهينة".

 

وكان لي ابن عم، هو توم كار، كان يعمل مهندس مناجم في أسبانيا بين عامي 1919 و 1938.. وقد تزوج بابنه القنصل الاميركي في هولفا، السيد الكوك.. وقد نقل لي توم أنه لما تم انتخاب أحد أفراد طابور كاباليرو الخامس محافظا علي هولفا، وصدرت الأوامر من موسكو، سلم هذا جميع السلطات الرسمية إلي الشيوعيين.. وأول عمل قام به هؤلاء هو تعذيب جميع الرهبان ثم قتلهم.. أما الراهبات فكن يعرين من ملابسهن ويدفع بهن إلي الشوارع، ليكن عنصر تسلية للثوريين!!

 

وينقل غودن أيضا مقابلة أجراها مع امرأتين إنكليزيتين، تمكنتا من التخلص من الاعتداءات والمشاكل لأنهما أجنبيتان.. وتقول هاتان المرأتان إنهما أجبرنا علي مشاهدة جمهور غفير من النساء والرجال وهم يتصرفون كالدراويش المتعصبين.. فقد شاهدتا أول الأمر مجموعة من الشيوعيين وهم يعذبون أحد الرهبان، ثم علقوا جسمه وأطرافه بعد بترها علي تمثال السيدة العذراء.. ثم شاهدنا الناس وهم يحفرون ثقبا في جسم أحد الرهبان وهو لا يزال علي قيد الحياة، بعدما قاموا بتثبيته علي صليب.

 

وفي شهر أيلول 1936، نقل الكاتب الفرنسي المشهور بيرفان روي عن ديمتروف قوله: "ويلوموننا علي أننا ندمر الكنائس والأديرة في أسبانيا.. وماذا يهم إذا دمرنا بعض الكنائس والأديرة؟.. إننا نبني عالما جديدا".

 

وفي عام 1936، قامت لجنة رسمية لتقصي الجرائم الوحشية التي ارتكبها الشيوعيون في أسبانيا، فوجدت أن أكثر المراقبين تحفظا، يقدر عدد المواطنين الذين تمت تصفيتهم في برشلونة بين عامي 1936 ــ 1937 بخمسين ألفا.. أما في فالنسيا فقد وصل العدد إلي ثلاثين ألفا.. ووجدت اللجنة أن ما يقارب عشر سكان مدريد لاقوا حتفهم في سبيل قيام دولة دكتاتورية أخري.

 

ويقول الكاتب الفرنسي المعروف مارسيل دوتراي: "تسلم القيادة العسكرية الشيوعية في كاستر أورديالز، رجل كان شرطيا سابقا طرد من عمله لأنه ارتكب جريمة السرقة.. أما القائد الأعلى للبوليس فكان يعيش قبل ذلك علي تصوير وبيع صور الرذيلة.. كما تسلم منصب رعاية الشؤون العامة ابن غير شرعي لامرأة عرفت ببغائها وتسكعها في الشورع.. وكان هذا يكني بابن أمه.. أما منصب رئيس القضاة فقد تسلمه عامل مناجم يساعده رجلان لا يعرفان عن هذا العمل شيئا.. وكان جميع هؤلاء من الساديين، الذين يسرهم أن ينفذوا الأحكام التي يصدونها بأنفسهم.. لقد بقروا بطن فنسنت مورا، وأعدموا جولي يانكو في الساحة العامة، وبتروا أطراف فاريز بطل سباق الدراجات النارية الأسباني الشهير، لأنه رفض أن يخون رفاقه ويوقعهم في أيديهم.

 

ويشير المستر أرثر بريانت، الذي كتب مقدمة البحث الموضوعي المدعم بالوثائق والشواهد "وحشية الشيوعيين في أسانيا" إلي أن "العملاء السوفيات تمكنوا من السيطرة علي وسائل الاتصال بشكل سمح لهم بتوجيه الإعلام لصالحهم، ولم يسمحوا بتسرب أي خبر ضدهم.. وكذلك كانوا يبثون الأكاذيب ويختلقونها عن فرانكو وقواته، دون أن يقف بوجههم أحد.. ولم يقف محاضر في أي جامعة أو أي معلق إذاعي في الإذاعة البريطانية B.B.C ليعلن أي شيء عن حقيقة ما لاقاه نساء سان مارتن فالديغلازير، اللواتي تعرضن لأبشع أنواع الإهانات، علي يد خمسة وعشرين رجلا من المليشيا الحمراء.. وكانت الجريمة الوحيدة التي ارتكبها هؤلاء البنات، أنهن كن يحملن في قلوبهن شعورا دينيا.. ولم يمنع أفراد المليشيا من هتك أعراضهن أن يكون آباؤهن في السجون، وأن تكون أمهاتهن تشاهدن بأم أعينهن ما يجري لهن من إهانات، بل نفذوا الحكم دون مبالاة.. وقد أثرت هذه الأعمال الإجرامية علي عقول هؤلاء النسوة، حتى إن بعض اللواتي قدر لهن أن يبقين علي قيد الحياة، قلن إنهن تمنوا علي جلاديهن أن يقتلوهن بدل أن يفعلوا بهن ما يفعلون.. والأسوأ من هذا أن هذه الأعمال الإجرامية حدثت أما أعين بعض الأطفال، لأن بعض النسوة كن يحملن أطفالهن بين أيديهن عندما كان جنود المليشيا يتبادلون النساء بينهم".

 

وهنا لا بد من ذكر هذه العبارة التي كررها مرارا لينين: "لا يوجد شيء في السياسة اسمه أخلاق.. ولكن هناك مصالح.. وقد تكون المصلحة بالتعاون مع لئيم لا أخلاقي، فقط لأنه كذلك".. ويقول لينين أيضا في مناسبات أخرى: "علي الثوري الشاب أن يبدأ بالتدرب علي القتال فورا، وذلك عن طريق عمليات فعلية، كتصفية خائن أو قتل جاسوس أو نسف مركز بوليس أو سرقة بنك واستعمال أمواله في الثورة … الخ.. ولا تتوانوا عن مثل هذه الهجمات التجريبية.. قد تؤدي هذه الأعمال إلي التطرف وهذا شيء طبيعي، ولكن المشاكل التي تسببها ستكون مشاكل المستقبل وليس الوقت الحاضر".

 

ويخبرنا أحد "الأولاد" كيف سمحت له الظروف أن يسخر ويتلاعب بعواطف أحد الرهبان قبل قتله فيقول: "وليلة بعد ليلة، كنا نأخذه مع المجموعات التي قررنا التخلص منها، ثم نضعه في آخر الصف، حتى يتمكن من مشاهدة رفاقه وهم يموتون.. ثم كنا نعيده إلي قصر البيل أرت.. وفي كل ليلة كان يتوقع أن يلاقي حتفه.. ولكن الموت السريع هو شيء كثير بالنسبة له.. لذلك مات هذا الراهب سبع مرات قبل أن نتخلص منه في النهاية".

 

وينقل المستر كنوبلو في الصفحة 87 من كتابه "مراسل في أسبانيا" قصة شابين شيوعيين كانا يتفاخران أمام أحد الأطباء بقتلهما لاثنين من الرهبان.. لقد أخبراه كيف جاءا متنكرين بلبلس الرهبان إلي هذين المسكينين، وهما يعملان خوفا من القتل في جمع الفحم في أحد المناجم، ثم أخذاهما إلي أحد الأمكنة، حيث طلبا إليهما حفر قبورهما.. وبعد ذلك جلسا يتفرجان بسرور علي الراهبين وهما يموتان ببطء.

 

ونعود لننقل بعض ما حدث في مدينة الكالا، لنؤكد ما قلناه سابقا، عن اطلاق سراح المجرمين والمجانين والمهووسين.. لقد أطلق الشيوعيون جميع المساجين في مدينة الكالا في 20 تموز 1936، حتى بلغ عددهم ألف رجل وألفي امرأة، تم تسليحهم جميعا في ثكنة المدينة.. وبعد أن أدوا واجبهم علي أحسن وجه في هجومهم علي مدريد، أرسلوا الي سيكونزا، حيث قتلوا مائتين من المواطنين ليقضوا علي مقاومة الآخرين.. وبقي هؤلاء المجرمون في سيكونزا ستة عشر أسبوعا حتى استردها منهم فرانكو.. ولما تم لفرانكو طردهم من سيكونزا، وجد أن جميع النساء من سن الحادية عشر إلي سن الخمسين، قد اعتدي عليهن وهتكت أعراضهن.. وكان بينهن من حمل سفاحا أو أصيب بأمراض خبيثة، أو أصيب بالمصيبتين معا.

 

وننقل أخيرا ما نشره الكاتب مارسيل دوتري عن مدينة كيمبوزيولوس، حيث ربط مئة راهب ورجل دين إلي مجموعة من المجانين، وهم يحملون في أيديهم السكاكين.. ويستطيع القارئ أن يتخيل الرعب الذي تلا هذا العمل.

 

(((سؤال: بعد ما فعله الأمريكان بالشعب الأفغاني والشعب العراقي (وخاصة في سجن أبي غريب).. فهل ترى أنّ هناك فارقا بين الشيوعية والليبرالية في شيء؟.. أليس الكفر ملة واحدة؟!!!)))  

 

 

 

 
14الحرب العالمية الثانية

 

 الأحداث التي قادت إلى الحرب العالمية الثانية:

 

بينما فيما سبق، كيف مهد المرابون الدوليون لاعادة تسليح ألمانيا سريا بمساعدة ستالين، وذلك رغم القيود التي فرضت عليها في معاهدة فرساي.. ولكي ندرك الأسباب التي ساعدت علي ظهور هتلر، يجب أن نلم بالمؤامرات السياسية التي حيكت في الفترة التي ما بين 1924 ـ 1934م.

 

إذا استثنينا الشيوعيين الألمان، نجد أن أكثرية الشعب الألماني كانت تنفق علي الأمور التالية: أن ألمانيا لم تكن لتنهزم في الحرب العالمية الأولي، لولا الخيانة التي جعلتها ضحية الحرب.. وأن الممولين الدوليين هم الذين استعملوا ما يسمي بالديمقراطية في كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، لفرض الهزيمة علي القوات المسلحة الألمانية.. وأن الحزب الشيوعي بقيادة اليهود وبمساعدة الممولين الدوليين، هو السبب في خلق حالة الفوضى التي سبقت توقيع الهدنة، وفي قيام الثورة بعدها.

 

واتفق الجميع أن علي كل وطنيّ ألماني، ذكرا كان أم أنثي، أن يعمل أقصي جهده لبناء ألمانيا بعد الحرب، ولتحطيم الأغلال الاقتصادية والعسكرية التي فرضتها معاهدة فرساي علي أمتهم.

 

وإذا استثنيا الشيوعيين مرة أخرى، نجد أن أكثرية الزعماء السياسيين الألمان كانوا يتفقون علي وجوب تحرير أنفسهم من الاتفاقيات الاقتصادية، المفروضة علي أمتهم من قبل الممولين والمرابين الدوليين.. لقد أدرك الزعماء الألمان خطر هذه الاتفاقيات علي استقلال البلاد، لأن الفوائد المفروضة علي القروض المالية بموجب هذه الاتفاقيات ستؤدي حتما غلي وقوع البلاد في برائن دائنيها، تماما كما وقعت بريطانيا عام 1694، وفرنسا عام 1790، والولايات المتحدة عام 1791 فرائس في أيدي المرابين العالميين.. وعلم الجميع أن مثل هذه القروض ستكون دينا واستبعادا لكل أفراد الشعب، لأن تسديدها لن يكون إلا بفرض مزيد من الضرائب، يدفعها المواطنون جميعا.

 

عندئذ، صمم قادة الحزب الفاشي علي خلق عملة ألمانية لا تستند إلي القروض، بل تعتمد علي الدخل القومي والممتلكات الوطنية، وعلي موارد الصناعة والزراعة والثروات الطبيعية، وعلي الطاقة الإنتاجية للأمة.. ووجد الشعب الألماني بصورة عامة، أنه يشارك شعوب إيطاليا وأسبانيا واليابان آمالهم وأمانيهم في المستقبل السياسي والاقتصادي لهذه البلدان، فظهر حلف المحور إلي الوجود، وبدأت الحركة الفاشية التي تزعمها هتلر وموسوليني وفرانكو.

 

وينقل لنا التاريخ الجهود الضخمة التي بذلها هؤلاء الثلاثة لإعادة بناء بلادهم، والنهوض بها من الأزمات والثورات والحروب التي وقعت فيها.. فلقد طوروا الصناعة والزراعة بشكل يشبه المعجزات.. أما نجاح عملية إعادة البناء العسكري، فيعود إلي المساعدة التي قدمها عملاء النورانيين الذين كانوا يخططون لإيقاع البلاد الفاشية والبلاد الرأسمالية في حرب عالمية أخري.

 

أيّد كل من هتلر وموسوليني السياسة الفاشية المعتدلة بادئ الأمر، وقررا إصلاح الفساد وتطهير البلاد من الشيوعية، وتخليصها من تحكم النورانيين علي صناعتها واقتصادها بشكل عام.. ولكن ما إن تقدم الوقت، حتى وقعا معا تحت تأثير لوردات الحرب النازيين، الذين ادعوا أن سلاما دائما لا يمكن أن يستتب في العالم، إلا عن طريق الاحتلال العسكري.

 

وهكذا بيعت القيادة العسكرية العليا في إيطاليا واليابان لمؤيدي مخطط ونظريات كارل ريتر التي نشرها عام 1849.. أما فرانكو فلم يقبل أن يبقي ضمن المخطط، لأن معتقداته الدينية وإيمانه جعلاه يؤمن بأن كل أيديولوجية تنكر وجود الله هي في صف الشيطان وتعمل معه.

 

وبالإضافة إلي احتلال فرنسا وبريطانيا، خطط النازيون لإبادة اليهود في هذين البلدين كما أبادوهم في البلدان الأوروبية.. وشمل المخطط تصفية الممولين الدوليين وكبار الرأسماليين والاستيلاء علي أموالهم وممتلكاتهم.

 

وفي الوقت الذي كان هتلر ما يزال يعاني عذاب السجن قبل عام 1934، لأنه كان يعتبر العدو اللدود للوردات الحرب النازيين والممولين الدوليين، كتب كتابة "كفاحي Mein Kampf"، حيث يقول في الصفحة الأخيرة: "وبهذا يقف الحزب الاشتراكي الوطني موقفا إيجابيا من المسيحية، ولكنه لا يترك أمور العقيدة لجماعة من المحترفين.. ومن جهة أخري يحارب الروح المادية اليهودية المتغلغلة في نفوسنا وفي نفوس الآخرين".

 

وكان هتلر قد أعلن سياسته بالنسبة لبريطانيا قبل ذلك في عام 1933، مشيرا إلي أن ماركس وستالين ولينين قد أكدوا مرارا أنه قبل أن تتوصل الشيوعية العالمية إلي هدفها الأخير، يجب عليها أن تدمر بريطانيا وإمبراطوريتها.. وقال هتلر في معرض حديثة في ذلك الوقت: "إنى علي استعداد للدفاع عن الإمبراطورية البريطانية بالقوة إذا دعت الحاجة".

 

أما عن معاهدة فرساي، فقد كتب هتلر يقول: "إنها لم تكن لمصلحة بريطانيا، ولكنها كانت أولا وأخيرا في صالح اليهود لتدمير ألمانيا".. وكتب أيضا: "وحتى في بريطانيا نفسها، هناك صراع دائم بين ممثلي المصلح البريطانية ومصالح الديكتاتورية اليهودية العالمية.. وفيما تعمل بريطانيا جاهدة لأخذ مكانتها في العالم، نجد أن اليهود في داخلتها يشكلون لها المتاعب والمشاكل، لذلك سيبدأ الكفاح ضد الخطر اليهودي العالمي في بريطانيا، في نفس الوقت الذي يبدأ في غيرها من البلدان".

 

ولم يغير هتلر رأيه الشخصي بشأن التحالف مع بريطانيا أبدا.. لقد كان يعلم أن بقاء ألمانيا كقوة كبري يعتمد علي التحالف مع الإمبراطورية البريطانية.. لذلك بدأ الإعداد لحملة التحالف عام 1936، فرتّب محادثات غير رسمية بين الدبلوماسيين البريطانيين والألمان.. ولما فشلت المحادثات في تكوين التحالف الذي كان يسعى جهده لتحقيقه، قال: "تهون كل التضحيات في سبيل التحالف مع بريطانيا.. هذا التحالف يجلب التأييد لمستعمراتنا، ويجعل إلي جانبنا قوة بحرية عظيمة، كما يوفر علينا الدخول في منافسة مع الصناعة البريطانية".

 

وقد أدي هذا الفشل في التحالف مع بريطانيا، إلي أضعاف معارضة "الإيديولوجية التوتاليتارية" التي كان ينادي بها المتطرفون من لوردات الحرب النازيين.. واقتنع هتلر، بعد فشل المحادثات، أنّه لا يمكن للسياسة المعتدلة أن توقف سيطرة المرابين الدوليين علي سياسة بريطانيا الخارجية.. وهكذا اضطر هتلر للاعتراف بصدق كارل ريتر عندما قال: "لكي يعود السلام وتعود الحرية الاقتصادية إلي العالم، يجب أولا القضاء علي الممولين اليهود، وعلي جميع أعضاء الحركة الثورية العالمية، الذين يوجهون الشيوعية ويسيطرون عليها".

 

***

 

في المحادثات التي جرت بين بريطانيا وألمانيا في كانون الثاني من عام 1936، مثل الأولى اللورد لندندري، ومثل الثانية غورنغ وهتلر نفسه.. في هذه المحادثات، شرح الهر غورنغ تفاصيل وتاريخ الحركة الثورية العالمية كما فصلها البروفيسور كارل ريتر وغيره.. ثم حاولا إقناعه بضرورة استعمال الحرب الشاملة في وجه مثل هذه العقلية الديكتاتورية.. وفصلا له الخطة الألمانية التي تقضي باحتلال جميع الدول الشيوعية وتحرير شعوبها وإعدام جميع الخونة فيها.. وأوضحا له أن الطريق الوحيد لمحو الشيوعية هو بإفناء الشعب اليهودي برمته.. وقدّما له الوثائق التي تبرهن عن ارتباط الشيوعية بكبار أغنياء اليهود، الذين يوجهون حركتها ويمولونها، كما يوجهون ويمولون في نفس الوقت الصهيونية السياسية، للوصول إلي هدفهم السري المنشود وهو التحضير للعهد الذي سيرجع مسيحهم المنقذ إلي الأرض. 

 

ويقال أن هتلر وعد بالوقوف في وجه الخطط المتطرفة للوردات الحرب النازين، كما وعد بتحديد نشاطه ضد الشيوعية داخل القارة الأوروبية فقط، شرط أن تدخل بريطانيا في حلف مع ألمانيا.. ولكن اللورد لندندري أبدي شكّه في أن تشارك الحكومة البريطانية في خطة تقضي بإفناء الشيوعية، وأنها ستعتبرها عملية إفناء بشرية.. عندئذ عرض هتلر حلا وسطا.. قال إن المانيا ستقوم وحدها بهذه المهمة، شرط أن تدخل بريطانيا معها في اتفاقية بألا تقوم حرب بين البلدين لمدة عشر سنوات مهما كانت الظروف.. وأوضح هتلر أن الطريق الوحيد لاستقلال بريطانيا وفرنسا وروسيا هو بالاستقلال الاقتصادي، وأن علي هذه البلدان أن تنفض عن كاهلها تلك الديون الباهظة، وتتسلم زمام اقتصادها بذاتها، حتى يعود الاقتصاد العالمي إلي حالته الطبيعية.. ثم بين أن الهدف الذي يسعى إليه حزبه الاشتراكي الوطني، هو أن يضع حلا جذريا مباشرا لنفوذ المرابين وسيطرتهم علي الشؤون الوطنية الداخلية والعالمية.. ويقال إنه استشهد بقول بنجامين ديزرائيلي، علي لسان أحد شخصياته في كتابه المشهور "Coningsby": "وهكذا تري يا عزيزي كوننغسي، أن الذين يحكمون العالم هم أشخاص مختلفون جدا عمن يتخيلهم أولئك الذين يجهلون ما يدور وراء الستار".

 

وهنا دعم غورنغ رأي هتلر، مشيرا إلي أن التاريخ يبين كيف استطاع اليهود الأغنياء وذوو النفوذ أن يتحكموا باقتصاد وسياسة الدول التي تمكنوا من التسرب إليها.. وقد حققوا ذلك بوسائل غير مشروعة وطرق فاسدة ومفسدة.. عندئذ استشهد الهر فون ربنتروب بما حدث في كندا، عندما كان اللورد لندندري نفسه فيها.. لقد بين له أن لجنة ستيفن الملكية التي حققت في قضية الجمارك الكندية، وجدت أن البلاد تعاني من سرقة مبلغ مئة مليون دولار سنويا.. هذه السرقة تنظيمها حركة عالمية تتغلغل في البلاد وتنشر الفساد والرذيلة، "فتكبل" العديد من المسؤولين ورجال الحكومة، بإيقاعهم في الرشوة والرذيلة.. وأضاف ربنتروب أن حالة الولايات المتحدة هي أسوأ عشرات المرات من كندا، وأنه للقضاء علي هذا الخطر، يجب التخلص من الثلاثمئة رجل الذين يشكلون العقول المدبرة التي توجه العناصر السلبية والمجرمة لتحقيق وتنفيذ خطتهم بعيدة المدى، وهي السيطرة علي العالم من خلال الحركة الثورية العالمية.

 

ويقال إن غورنغ ناقش بعد ذلك قضية تمويل المرابين العالميين للثورة الروسية عام 1917، مبينا النتيجة التي تمكّن هؤلاء من تحقيقها، وهي نشر العداوة والبغض الذي لم تره البشرية حتى ذلك الوقت.

 

ثم ذكّر هتلر مندوب بريطانيا اللورد لندندري، بالملايين من المسيحيين الذين ذبحوا بدون رحمة في البلدان الشيوعية منذ ثورة أكتوبر 1917، وأضاف أن المسئولين عن هذه المذابح لا يمكن اعتبارهم غير لصوص ومخربين عالميين.

 

وكانت آخر قضية ناقشها المجتمعون، قضية محاولة ستالين تحويل أسبانيا إلي ديكتاتورية شيوعية.. وهكذا تمت تعرية جميع بنود المؤامرة العالمية، من الطريقة السرية التي تمكنت بها ألمانيا من إعادة تسليح نفسها، إلي سيطرة محفل الشرق للماسونيين الأحرار علي فرنسا، إلي الطريقة التي دفعت بها بريطانيا إلي ترك التسليح، في نفس الوقت الذي كان أعداؤها الألداء يتسلحون علي أكمل وجه.. وتبين أن الألمان يرون استحالة استتباب الأمن، ما لم يتم القضاء علي الشيوعية والصهيونية، لأنهم كانوا يؤمنون بأن هاتين الحركتين كانتا تعدان لقيام حرب ثانية.

 

وفي النهاية اختتم هتلر المحادثات بطريقته الخطابية، متمنيا على اللورد لندندري أن يحاول إقناع حكومته بالدخول في الحلف المقترح مع ألمانيا.. وقال بالحرف الواحد: "لأنني مقتنع بأن الإمبراطورية البريطانية والكنيسة الكاثوليكية، كلاهما مؤسستان عالميتان، بقاؤهما ضروري لحفظ القانون والنظام العالمي في المستقبل.

 

***

 

إن هذا الأقوال عن هتلر قد تبدو غريبة عن الرأي العام، لذلك سنسوق الحقائق التاريخية التالية لدعمها:

 

عاد اللورد لندندري إلي لندن بعد المحادثات وقدم تقريرا إلي الحكومة البريطانية.. وفي 21 شباط 1936 أرسل رسالة إلي ربنتروب، قال في أحد مقاطعها: "لقد نسي هتلر وغورنغ، أننا قاسينا هنا في انكلترا من اجتياح الثورة لعدة قرون.. وبالنسبة لليهود، فإننا لا نحب الإفناء.. وبالاضافة إلي ذلك فإن شعورا ماديا بأنكم تحاولون السيطرة علي قوة عظيمة، بإمكانها الرد علي هذه المحاولة من أماكن تشمل الأرض بكاملها.. ويمكننا أن نتبع خطوات اليهود ومساهمتهم في إثارة الشغب في العالم، ولكننا في نفس الوقت سنجد أن بعضهم يقف موقف حازما في الطرف المقابل، مستعملا نفوذه وأمواله للوقوف في وجه النشاط الشرير والماكر الذي يقوم به إخوانهم".

 

ولما تأكد هتلر من فشل تحالف بريطانيا معه، أخذ يميل أكثر فأكثر نحو اليمين، لأنه اقتنع أنه يستحيل علي أي فرد، أو أي مجموعة من الأفراد، أو أي أمة بمفردها، أن تحطم نفوذ المرابين العالميين في الدول المسماة بالديمقراطية، وذلك لتحكمهم المالي بهذه الدول، ولإيقاعهم إياها تحت ديون طائلة.

 

وفي تموز 1936، اندلعت الحرب الأهلية في أسبانيا، وتبعها تقارب وتجاذب بين فرانكو وهتلر وموسوليني.. لقد أدي تصميم فرانكو علي الكفاح من أجل إخراج الشيوعيين من بلاده، لجعل هتلر يقوم بتحصين حدوده عسكريا، لأنه كان يرغب جدا بمعرفة ما إذا كان ستالين يقوم بأي محاولة لتوسيع حدوده علي حساب الدول الأوروبية الأخرى.. وكانت الصحافة المعادية لهتلر تصف كل خطوة يقوم بها "بالعدوان الفاشي".. أما هتلر فكان يبرر خطواته بأنها احترازية، وصرح بأن اهتمامه الأول ينصبّ علي منع ستالين من تأسيس منطقة نفوذ حول خط العرض أربعين في أوروبا.. ولو أنه سمح له بذلك لوقعت ألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية في الفخ، كما يقع الذباب في بيت العنكبوت.

 

***

 

بدأ النازيون بنشر الإيديولوجية الجرمانية الوثنية بين الشعب الألماني.. وتقضي هذه العقيدة بتفوق العرق الجرماني الذي يجب أن يخضع العالم بالقوة العسكرية وينشئ الدولة الجرمانية.. ومن مسلمات هذه العقيدة أن الطاعة لرئيس الدولة الجرمانية يجب أن تكون عمياء لا تناقش أبدا.

 

وهكذا بدأ الصراع بين المسيحيين المتدينين بشقيهم الكاثوليكي والبروتستانتي والدولة.. وهاجم رجال الدين النازية، معلنين أنها تعمل علي تحطيم الإنسانية.. فكان رد النازيين أن رجال الكنيسة يخالفون القانون ويتحدون السلطة.. عندئذ أعلن رجال الدين بأن النازية تعادي وتناقض الخطة الإلهية في خلق البشرية.. فاتهم النازيون الكنيسة بأنها تتدخل فيما لا يعينها من شؤون الدولة.

 

وأصدر هتلر قانونا صارما، حظر فيه علي رجال الدين انتقاد الأوضاع السائدة أو التعرض لقانون الدولة.. وهددهم بتنفيذ العقوبات بهم إذا أثبتت المحاكم مخالفتهم للقانون.

 

وننقل بعض ما جاء في المنشور الذي أمر البابا بيوس الحادي عشر بتوزيعه علي العالم المسيحي في الرابع عشر من آذار 1937، وعنوانه "حول ظروف الكنيسة في ألمانيا".. في هذا المنشور أخبر البابا جميع الكاثوليك أن ما سيأتي في كلامه عن النازيين هو عين الصدق.. وحول فكرة التفوق الجرماني، كتب يقول: "قد يكون هناك تفاوت وتباين بين الشعوب أو الحكومات أو ممثلي السلطات الأهلية وغيرها، وقد يتمتع البعض بمركز مرموق بسبب الاختلاف الفطري والذكاء البشري الطبيعي.. ولكن رفع هذه الفئات أو الشعوب أو المجموعات إلي مركز التفوق المثالي، فهذا تغيير للفطرة وتعدٍّ عليها، لأن الكمال لله، فهو الخالق والمدير وليس لفرد أو جماعة أن يطالبوا بحق العبودية لأنفسهم.. ولا يقع في خطأ الايمان "بالوطن الإله" أو "بالوطن الدين"، إلا غبي يحاول تضييق قدرة الله بهذه الحدود الضيقة، وهو سبحانه الملك المشرع، الذي لا تقاس قدرة الأمم والشعوب إلي قدرته، إلا كما تقاس نقطة الماء إلى البحر". 

 

هذا بالنسبة للكاثوليك.. أما البروتستانت، فقد واجهوا النازية بشجاعة، ونشروا رسالة في التاسع عشر من آب 1938، أكدوا فيها أن موقف النازيين من الدين المسيحي في ألمانيا هو "متناقض بصورة مكشوفة مع تأكيدات الفوهور".. وجاء فيها أيضا "إن ما يهدف إليه النازيون ليس كبت الكنيسة الكاثوليكية فقط أو الكنائس البروتستانتية، بل هو القضاء علي الفكرة المسيحية الحقيقية القائمة علي الاعتقاد بإله واحد واستبدالها بفكرة إله جرماني.. وماذا تعني هذه المحاولة لاستبدال الإله المسيحي بإله جرماني؟.. وما الذي تعنيه فكرة الإله الجرماني هذه؟.. أهو يختلف عن إله بقية الشعوب؟.. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن لكل أمة إلهها الخاص بها.. والمعني الحقيقي لهذه الفكرة هو أنه ليس هناك إله علي الإطلاق".

 

***

 

توحدت القوي النازية السوداء أو القوي الشيوعية الحمراء في حربها ضد المسيحية، وضد الامبراطورية الرومانية.. وهذا الوضع المعقد هو الذي حدا برجال الكنيسة أن يقفوا ذلك الموقف القومي ضد النازية السوداء، في حين أنهم تركوا الخطر الأقل أهمية وهو الخطر الفاشي ـ الفكرة المعادية للشيوعية التي استعملها فرانكو.. وهذا الوضع هو الذي يشرح أسباب تحالف الكاردينال منذزنتي مع القادة الفاشيين للتخلص من السيطرة الشيوعية علي بلاده.

 

وفي ظل هذه الأوضاع، وجد الملايين من شعوب ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا واليابان، أنفسهم مضطرين إلي اختيار أحد طرفين.. إما موالاة الشيوعية، أو موالاة الفاشية.. ودلهم هوبسون علي الطريق، وهو أن يختاروا الأقل ضررا والأبعد عن الشيطان.

 

وهكذا نجحت المؤامرة الشيطانية في تهيئة الوضع لقيام الحرب العالمية الثانية، فالديكتاتورية الروسية كانت تعيد تسليح الألمان سرا.. والديكتاتورية الإيطالية بقيادة موسوليني كانت تبني سرا أسطولا من الغواصات للمهندسين والعلماء الألمان.. وقد جربت هذه الغواصات عمليا في الحرب الأهلية الأسبانية، حيث تم البرهان عام 1936 عن قوة هذه الغواصات ومناعتها ضد جميع الأسلحة البريطانية التي تستخدمها ضد الغواصات، لأن الغواصات الحديثة، صارت تغوص إلي عمق خمسمائة قدم تحت سطح البحر، وهي مسافة لم يكن أي سلاح في ذلك الوقت ليتمكن من الوصول إليها.. ولم يبق هذا الأمر سرا بالنسبة للحكومة البريطانية، بل تسربت إليها أخبار هذه الاستعدادات.. وبرهن الكابتن ماكس مارتون من البحرية الملكية البريطانية، بالتجربة العملية، إمكانية مهاجمة الأسطول البريطاني وهو رابض في موانئه، وذلك بأن استطاع أن يتفادى بغواصته جميع الأسلحة المضادة للغواصات، ويغرق نظريا اثنى عشر سفينة راسية في الميناء.. وبدلا من أن يتلقى الكابتن مارتن الثناء والتقدير من قادة الأسطول، نال سخطهم واستياءهم وتوقفت ترقيته ثم كتم صوته تماما.. وبقي علي هذه الحال، حتى عام 1940، عندما هددت الغواصات الألمانية الحديثة بريطانيا بالاستسلام أو الموت جوعا.. عندئذ طلب منه قيادة المعركة المضادة للغواصات في المحيط الأطلنطي.

 

ورغم التحذيرات المبكرة، لم يكن يرافق السفن البريطانية، عندما اندلعت الحرب، أي سلاح بحري للحماية.. وكانت النتيجة أن خسرت بريطانيا 75 بالمئة من أسطولها التجاري وأربعين ألف بحري، قبل أن تتمكن من إعادة دفة الحرب إلي جانبها عام 1943.

 

***

 

ونعود إلي ألمانيا، فنجد أن هتلر قد اتخذ خطوة معادية للمرابين الدوليين، وذلك بإعلانه للسياسة الاقتصادية المستقلة، وللإصلاح المالي.. وطلب من كل من اليابان وإيطاليا وأسبانيا أن تدعمه في تحديه لقوي الكارتل والاحتكارات التي كان يديرها الممولون الدوليون، وخصوا البنك الدولي الذي كان آخر نتاج لعقوبتهم المدبرة.. ونفذ الرايخ خطوته بالتخلص من الدكتور هانس مدير بنك الرايخ وعميل المرابين العالميين.. وقبل أن يقوم هتلر بهذه الخطوة الجريئة، لم يكن أحد ليتسطيع أن يحرك الدكتور هانس من منصبه، إلا إذا وافق هو علي ذلك ووافق أعضاء البنك الدولي بالإجماع.

 

وكان الممولون الدوليون قد أنشأوا منذ الحرب العالمية الأولى ستة وعشرين بنكا مركزيا، علي غرار البنوك الاحتياطية الفيدرالية التي أنشئت عام 1913 باشراف وتوجية المستر بول واربورغ، الذي جاء إلي أميركا عام 1907 ثم أصبح شريكا في مؤسسة كوهن ـ لوب وشركائهم في نيويورك.

 

وكانت نظرية واربورغ تقضي بانشاء "تنظيم مصرفي مركزي" ترجع إليه جميع السلطات علي هذه البسيطة.. ومن هنا، كان هتلر يدرك أنه إذا استطاع واربورغ وأصحابة إنشاء البنك الدولي، فإنهم سيتمكنون من إنشاء بيروقراطية تتمكن من التدخل في جميع القضايا العالمية، تماما كما يتدخل بنك انكلترا في شؤونها الداخلية وسياستها الخارجية ((هذا واضح الآن بالفعل.. وانظروا لكلّ التنازلات المشينة التي تقدّمها مصر مقابل قروض البنك الدولي)).

 

وفي معرض حديثنا عن الحركة الاقتصادية في تيك المرحلة من التاريخ، سننقل ما جاء علي لسان الرئيس الأمريكي ثيودرو ولسن عام 1916، أي بعد ثلاث سنوات من بدء العمل بنظام بنوك الاحتياط الفيدرالية التي نظمها الصهيوني واربورغ.. يقول ولسن في حديثه عن الوضع الاقتصادي الأميركي: "تسيطر علي أمتنا الصناعية ـ كما هي الحال في جميع الدول الصناعية الكبري ـ أنظمة التسليف والقروض.. ويرجع مصدر هذه القروض إلي فئة قليلة من الناس، تسيطر بالتالي علي نماء الأمة، وتكون هي الفئة الحاكمة في البلاد.. ولهذا لم تعد الحكومات ـ حتى أشدها سيطرة وتنظيما وتحضرا ـ تعبر عن رأي الأكثرية التي تنتخبها، ولكنها في الحقيقة تعبر عن رأي ومصالح الفئة القليلة المسيطرة".

 

وهذه هي حقيقة ما يسميه العالم المتحضر اليوم بالديمقراطية.. ويشارك الرئيس الأمريكي فرانكان روزفلت رأي الرئيس ولسن، وذلك بما جاء علي لسانه عندما وقعت الأزمة ـ أو المأساة ـ الاقتصادية الكبرى في الثلاثينيات.. قال روزفلت يومها: "إن ستين عائلة أمريكية فقط هم الذين يتحكمون باقتصاد الأمة.. ويعاني ثلث الشعب الأمريكي من سوء المسكن والمأكل والملبس".. وقال أيضا: "إن عشرين بالمئة من العاملين في مشاريع W. P. A. هم في حالة يرثي لها من سوء التغذية، حتى إنهم لا يستطيعون العمل اليومي بكامله.. وإني مصمم علي إخراج رجال المصارف من برجهم العاجي".

 

ولكن روزفلت نفسه ما لبث أن تغّير.. لقد وجد نفسه يقود بلاده لتحارب نفس الدول التي وافقت على السياسة التي نادي بها عقب انتخابه مباشرة.. وبعد عمر طويل قضاه في خدمة الرأسماليين، مات روزفلت في بيت أغني وأقوي رجل في الولايات المتحدة، برنارد باروخ، الرجل الذي بقي أربعين عاما يسيطر علي البلاد من خلف الستار.. وإذا كان أحد القراء يشك في ما قلناه عن برنارد باروخ، فكيف يفسر زيارات رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل المتكررة لهذا الرجل؟.. وكيف يفسر صدور بيانات تشرشل التاريخية المؤيدة للصهيونية السياسية، مباشرة عقب زيارته لباروخ عام 1954؟

 

وهكذا أصبحت الديمقراطية كلمة يستعملها الحكام لخداع شعوبهم.. فهي تستخدم في البلاد الرأسمالية، حيث يسرح الممولون العالميون ويمرحون، متلاعبين بقيمة العملات فيها، بزيادة السيولة المالية أو إنقاصها حسب مشيئتهم ومصالحهم.. وتصبح الديمقراطية التي تسمي كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة نفسها بها، تعني ارتباط هذه البلدان مع الممولين الدوليين عن طريق الديون والقروض.. ومن جهة ثانية، تسمي البلدان الشيوعية نفسها بلدانا ديمقراطية لأنها تقع تحت سيطرة نفس المجموعة من المرابين والممولين العالميين.

 

ونري السير انتوني إيدن يعبر عن رأي الممولين، عندما وجه رسالة إذاعية إلي الشعب الأمريكي في الحادي عشر من أيلول 1939، يقول في أحد مقاطعها: "لقد آن لنا تخليص أوروبا من التعصب والأطماع وسيطرة الأهواء.. ويجب علينا أن نبني حضارتنا الجديدة من خلال عالم متحارب".. إنه العفن الفكري ليس إلا.. وهل الحروب للبناء أم للتدمير؟

 

ولقد حاول العديد من البريطانيين تجنيب بلادهم وحليفاتها الدخول في حرب ثانية مع ألمانيا.. ولم يتركوا مناسبة منذ عام 1930 إلا وعبروا فيها عن استيائهم من قيام حرب أخري.. ولكنهم كانوا جميعا يُنعتون بأنهم نازيون سود يعملون لمصلحة لوردات الحرب النازيين.. ومن البريطانيين الذين أعلنوا عن عدائهم للشيوعية وأبدوا الفاشية، السير اوزويلد موسلي.. وقد قام هو والعديد من رجال السياسة والجنرالات المتقاعدين بجهد صامت وجريء لتحذير أعضاء الحكومة من الوقوع فريسة المؤامرة العالمية.

 

وكانت الحركة المعادية للسامية قد بدأت في انكلترا منذ عام 1920، عندما عاد مارسدن إلي إنكلترا، وفي حوزته نسخة من الكتاب الذي ألفه البوفيسور سرجي نيلوس عام 1905 بعنوان "الخطر اليهودي".

 

وفيما كان مارسدن يترجم هذه الوثائق، تلقي تحذيرا بالموت إذا أصر علي نشر الكتاب.. ولكن مارسدن لم يخف من التحذير، فنشر الكتاب وسماه "بروتوكولات حكماء صهيون".. وبعد سنوات قليلة من نشر الكتاب مات مارسدن بالفعل كما جاء في التحذير وبظروف غامضة.

 

أدي نشر هذا الكتاب إلي ضجة كبري في إنكلترا، ومن ثم في العالم أجمع.. وعمد المرابون العالميون لتفادي هذه الفضيحة الدامغة التي كشفت أمرهم، إلي شن حملة دعائية معاكسة ضد مارسدن، متهمة إياه بالكذب وبعدائه الصريح للسامية.. ومن الأبحاث والدراسات التي قمت بها بنفسي أستطيع القول، بأن الوثائق التي جاءت في كتاب البروفيسور نيلوس "الخطر اليهودي" وفي كتاب مارسدن "بروتوكولات حكماء صهيون" هي نفسها الخطة النورانية طويلة الأمد، التي شرحها آمشيل روتشيلد لرفاقة في اجتماع فرانكفورت عام 1773.

 

ومما لا شك فيه أن الوثائق التي وقعت في أيدي البروفيسور نيلوس، كانت إشارات إضافية يمكن الاعتماد عليها في شرح الطريقة التي تم بها تنفيذ المخطط، وكيف تم استخدام الدارونية والماركسية والنيتشية [نسبة إلي نيتشه] منذ عام 1773.

 

ولا يستطيع قارئ هذه الوثائق ـ مهما كان مصدرها ـ أن ينكر أن تسلسل الأحداث العالمية جاء تعبيرا عن البرنامج الذي اقترحته الوثائق منذ عام 1773.. وسيدهش أكثر من هذا التنبؤ الدقيق الذي لم يخطئ أبدا.

 

يقول ماكس ناردو في خطابه في المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقد في بازل في سويسرا عام 1903: "دعوني أخبركم الكلمات التالية، وكأني أصعد بكم درجات السلم درجة درجة.. المؤتمر الصهيوني.. مشروع أوغندا البريطانية.. الحرب العالمية المتوقعة.. مؤتمر السلام حيث يتم بمساعدة بريطانيا قيام دولة يهودية حرة في فلسطين".

 

وقد قرأ العديد من رجال السياسة والصحافة هذه الوثائق، فحملتهم علي البحث والتدقيق في القضايا العالمية.. ومن بين هؤلاء اللورد سيدنهام وهنري فورد.. وقد قام هذا الأخير بعد قراءة الوثائق بتأليف كتاب قيم، جاءت نهاية دراسته مطابقة للأبحاث التي قمت بها بنفسي.. وفي 17 شباط عام 1921 أجرت النيويورك وورلد مقابلة مع السيد هنري فورد، ونقلت عنه ما يلي: "إن أهم شيء أريد أن أقوله عن "البروتوكولات" هو أن ما جاء فيها يتطابق مع ما يجري اليوم.. لقد مضى علي ظهورها ستة عشر عاما، ومازالت تتوافق مع الوضع الدولي حتى الآن".. ((بل وحتّى الآن، بعد قرن من ظهورها!!!!!))

 

لقد مضي الآن علي عبارة فورد هذه اربع وثلاثون سنة، وهي ما تزال حتى الآن مطابقة للواقع الذي نعيشه.. وهذا كاف ليجعل كل منصف يعترف بأن هذه الوثائق لم تكن إلا نسخة أصلية للخطة التي يتم تنفيذها يوما بعد يوم، وأنها قد حققت معظم أغراضها.

 

وفي نهاية حديثنا عن "بروتوكولات حكماء صهيون"، يجدر بنا أن نذكر علاقة مؤلفة المستر مارسدن بالملك الانكليزي ادوارد الثامن، لما لهذه العلاقة من تأثير علي الملك نفسه، وعلي كشف بعض جوانب التآمر الذي حدث في انكلترا في ذلك الوقت.. لقد بقي مارسدن يعمل في جريدة المورننغ بوست من عام 1921 حتى عام 1927، فكسب العديد من الأصدقاء.. ولكنه في نفس الوقت كسب عداوة قوية من قبل المتآمرين.. وفي عام 1927 تم اختياره لمرافقة ولي العهد أمير ويلز في رحلة حول الامبراطورية.. وليس من المعقول أن يترك السيد مارسدن هذه المناسبة دون أن يطلع الأمير علي الوثائق وعلي المؤامرات التي يحيكها الممولون الدوليون الذين يخططون للشيوعية والصهيونية معا.. وهكذا عاد ولي العهد إلي بريطانيا وقد تغيرا كثيرا، ولم يعد ذلك "الأمير المرح المسرف"، بل أصبح رجلا جديا عميق التفكير.. إلا إن مارسدن ما أن وصل إلي بريطانيا حتى تغيرت صحته، ثم مات بعد أيام قليلة.. وهذا يذكرنا بما حدث لميرابو الذي مات مسموما، بعد أن أطلع الملك لويس علي الدوافع الحقيقية للثورة الفرنسية.

 

كان انقلاب ولي العهد بعد عودته من الرحلة عميقا شاملا، فقد أخذ يهتم بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وأخذ يزور مناجم الفحم ويتحدث مع العمال في بيوتهم، خارجا بذلك عن التقاليد الملكية.. ثم أخذ يعارض كل سياسة يعتقد أنها غير صالحا، مبديا راية بجرأة في جميع الأمور حتى السياسة الخارجية، متحديا بذلك "القوي الخفية"، وخصوصا عندما تم تتويجه في 20 كانون الثاني عام 1936.. وهكذا دخل ادوارد الثامن في صراع عنيف مع المسيرين الحقيقيين للسياسة البريطانية.. إلا أنه لم يصمد طويلا، لأن المرابين لم يتركوه لحظة دون أن يشهروا به، وخصوصا بعد مرافقته للمستر مارسدن.. فقد صوروه للناس علي أنه زير نساء وأنه يميل "لليمين"، وأن له علاقة بالسير أوزويلد موزللي المؤيد للحركة الفاشية.. ولكن هذا كله لم يؤثر علي سيرة الملك الجدية التي كان يعيشها، إلي أن عزم علي الزواج من سيدة أمريكية مطلقة تدعي "والي سيمبسون".. عندئذ تحركت أجهزة الدعاية اليسارية بكل قواها، مثيرة الرأي العام ضد هذه السيدة، وأصبحت هذه القضية الشغل الشاغل لانكلترا.. وهكذا حمل المستر بالدوين أوامر المرابين بشأن تنحية الملك عن عرشه.. وكان علي الملك اختيار أحد أمرين: إما التخلي عن العرش، أو التخلي عن زواجه من مس سيمبسون، فاختار الحل الذي يحفظ له كرامته ولا يجعله ألعوبة في أيدي خصومه، وتنحي عن العرش.

 

 

اندلاع الحرب العالمية الثانية:

 

بعد تنحي الملك أدوار الثامن عن العرش، قام عدد كبير من المثقفين والمفكرين البريطانيين ـ بما فيهم أعضاء البرلمان وقادة الجيش المتقاعدين ــ بحملة دعائية واسعة، محاولين إقناع الحكومة البريطانية بحقيقة المؤامرة التي يحيكها "المرابون العالميون".. ومن بين هؤلاء الكابتن رامزي والأدميرال السير باري دومفيل، الذين توصلا في عام 1938، إلي أن قادة اليهودية العالمية الذين يتزعمهم رجال المصارف والممولون اليهود العالميون، يستعملمون الأموال الكثيرة التي في حوزتهم لشراء المراكز الحساسة، بهدف خلق النزاعات بين الأمم، في خطة بعيدة المدى تهدف إلي الإعداد لمجيء مسيح اليهود لتخليصهم، وعندها ستتمكن الحكومة المركزية الموجودة في فلسطين من فرض الحكم الديكتاتوري علي جميع شعوب وأمم العالم.

 

وقد حاول الكابتن رامزي والأدميرال دومفيل جهدهما لمنع توريط بريطانيا في حرب مع ألمانيا، وبذل الكابتن رامزي جهدا كبيرا في سبيل إقناع المستر تشامبرلين ـ رئيس الوزراء البريطاني ـ بالخطر علي المصالح البريطانية، إذا حقق المتآمرون الدوليون خطتهم وورطوا بريطانيا في حرب مع ألمانيا.. ومع أنه لم يقنع رئيس الوزراء، إلا إنّه علي الأقل أثر فيه تأثيرا كافيا، جعله يصلح الأمور مع هتلر ويعود من ميونج وهو يلوح بمظلته المشهورة، وبورقة قال عنها إنها اتفاقية "تضمن السلام في وقتنا هذا".

 

بعد هذا الاعلان مباشرة، قامت الصحافة التي يسيطر عليها المرابون الدوليون بحملة حاقدة علي الفاشية، لاعنة تشامبرلين ومتهمة إياه بأنه "امرأة عجوز تحاول شراء السلام بأي ثمن"، وبأنه متضامن مع الفاشية.. وفي موسكو أحرق العملاء هناك تمثالا وهميا لتشامبرلين، في تظاهرة كبيرة في الساحة العامة.. لقد صورت هذه الصحافة، الفاشية الألمانية والإيطالية علي أنها عقائد إلحادية سوداء ذات أهداف توتاليتارية مطلقة.. وكان القليل من الناس من يفهم الفرق بين النازية والفاشية والشيوعية والاشتراكية.

 

ومما نعرفه عن بعض التفاصيل التي جرت خلف الستار، أن الكابتن رامزي وعد رئيس الوزراء البريطاني بتسليمه وثيقة تشهد بالمؤامرة علي المصالح البريطانية.. وكانت هذه الوثيقة عبارة عن رسائل سرية بالشفرة تبودلت بين ونستون تشرشل والرئيس الأميركي روزفلت.. ووعد رامزي بإحضار هذه الرسائل ليبرهن له عن عزم الممولين العالميين علي إشعال الحرب العالمية الثانية. 

 

وكان الكابتن رامزي قد علم بهذه الرسائل السرية عن طريق "تايلر كنت" الضابط الأييركي المكلف ببثّ واستلام الرسائل في السفارة الأمريكية في لندن.. ولقد اتصل تايلر كنت بالكابتن رامزي، لأنه كان يعرف أنه يشك في "مؤامرة يهودية عالمية"، ويعلم أنه يحاول جهده لإيقاف الحرب.. ولما عرض رامزي أن ينقل هذه الوثائق إلي رئيس الوزراء، وافق كنت علي إحضار الوثائق إلي منزله في غلوستر بلندن.

 

في هذا الوقت كان المتآمرون العالميون يعملون بنشاط واسع.. في آذار 1939 تمكن هؤلاء من دافع تشامبرلين للتوقيع علي معاهدة لحماية البولنديين من العدوان الألماني، وذلك بإبراز إنذار مزور من ألمانيا للبولنديين.. والحقيقة أن ألمانيا لم ترسل هذا الإنذار، بل عرضت مشروعا مقبولا لحل سلميّ لمشكلة الممر البولندي ودانزنغ، التي سببتها معاهدة فرساي الجائرة.

 

ولكن بقيت المذكرة مهملة أشهرا عديدة، في حين كانت الصحافة المعادية لهتلر تشن عليه الحملات العنيفة المضادة.. وقد صورته هذه الصحافة رجلا لا يوثق به، فانطلت الكذبة علي الجميع، واستخدموا قول هتلر بعد احتلاله لسدتنلاند، وهو أنه لا يطلب أي شيء بعد ذلك، كمثال علي تعدّي هتلر علي جميع الاتفاقيات، كما تعدي علي معاهدة فرساي من قبل.. كما حولوا مذكرة هتلر السلمية التي وجهها إلي بولندا إلي مذكرة عدوانية، واعتمدوهما مثالا آخر علي نواياه التوسعية.

 

والحقيقة أن هتلر أعلن أنه لن يطلب أي شيء آخر بعد أن توصل إلي رفع الظلم الذي فرضته عليه معاهدة فرساي التي صاغها أعداء الإنسانية.. وكان هتلر صادقا في ذلك الوعد ولم يتقدم إلا إلى منطقة السدتنلاند وجزء من تشيكوسلوفوكيا والممر البولندي ودانزنغ، فلقد كانت معاهدة فرساي قد فصلت بروسيا عن بقية ألمانيا بإيجاد الممر البولندي.. أما دازنغ فهي مدينة ألمانية فصلتها المعاهدة وعزلتها عن بقية المناطق الألمانية.. وأما القسم المعروف اليوم بتشيكوسلوفاكيا، فقد كان يضم إليه قسما من الرعايا الألمان الذين عوملوا معاملة سيئة ونال منهم التشيكيون.. ولم يدخل هتلر النمسا إلا بعد أن طلب شعبها حمايته من العدوان الشيوعي، وهذا ما ينكره الجميع اليوم.

 

وبشكل عام، كانت الصحافة الغربية قد هيأت الشعوب هناك لنقف موقفا معاديا للألمان ولجميع الدول التي تؤيد سياستها كفرنسا وغيرها.

 

ولما حمل الشعب الألماني هتلر إلي مركز القيادة وقف تشرشل ليعلن ان هتلر ليس إلا "وحش وليد الكذب والخداع".. ولكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن هتلر كان يحاول مرة بعد مرة، الوصول إلي حل عادل لمشكلة الممر البولندي ودانزنغ، ولكن المرابين العالميين لم يسمحوا له بذلك، وذلك بايهام رئيس الوزراء البريطاني الستر تشامبرلين بأن هتلر قد أرسل مذكرة الإنذار.. وكان هذا الخداع والكذب هما اللذان جعلا المستر تشامبرلين ينصح مترددا الحكومة الملكية بإعلان الحرب علي ألمانيا.

 

***

 

قد يعتبر القارئ هذه الاتهامات التي أوجهها للمرابين العالميين غير صحيحة وبعيدة عن الحقيقة.. ولكن إذا حاول أن يجري مقارنة بين ما حدث قبيل وبعد الحرب العالمية الأولى، وبين ما حدث قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية لوجد تقاربا كبيرا في المخططات والنتائج.

 

لقد انتهت الحرب الكبرى بمعاهدة فرساي، التي لا يستطيع أحد أن يقول بأن قادة وزعماء مسيحيين حقيقيين يمكنهم أن يوقعوا معاهدة شبيهة بهذه المعاهدة الجائرة.. ولكنّ الحكاية أعيدت مرة ثانية بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بتبني الحلفاء سياسة "الاستسلام غير المشروط"، وبتبني خطة "ستالين ـ وابت ـ مورغانتو" الاقتصادية، وبتقسيم ألمانيا إلي قسمين، وباختلاف الأزمة الفرنسية بعد الحرب، بالإضافة إلي تلك اللعبة الخطيرة التي لعبها الممولون الدوليون والقادة الديكتاتورية في كل من روسيا والصين بعد نهاية الحرب مع اليابان.

 

***

 

ولما تعب هتلر من انتظار الرد البولندي، ومن الحرب المشينة التي وجهتها ضده صحافة الحلفاء، أمر جيوشه بالتحرك نحو بولندا.. عندئذ أعلنت بريطانيا الحرب علي ألمانيا بموجب اتفاقيتها السباقة مع بولندا.. وهنا نستطيع تبين الجريمة الشنعاء التي ارتكبها المرابون العالميون وخططوا لها.. لقد وعدوا البولنديين بمساعدة بريطانيا وحمايتها مع أنهم يدركون تماما بأن بريطانيا عاجزة فعلا عن أي مساعدة جوية كانت أو برية أو بحرية.

 

وليس أدل من قول اللورد لوثيان ـ الذي كان سفير بريطانيا في الولايات المتحدة ـ حين صرح في آخر حديث له في مجلس العموم "لو أن مبدأ السيادة الذاتية تم تطبيقه لصالح ألمانيا وليس ضدها، لكان هذا يعني إعادة السدتنلاند وتشيكوسلوفاكيا وأجزاء من بولندا والممر البولندي ودانزنغ جميعا إلي الرايخ".

 

وقد امتنع الطيران الألماني عن قصف بريطانيا بالقنابل طيلة الشهر الأولي للحرب، وبصورة أدق طيلة فترة وجود تشامبرلين علي رأس الحكومة البريطانية.. وامتنعت بريطانيا عن الإغارة علي الأراضي الألمانية بدورها، وذلك تنفيذا لما قاله تشامبرلين يوم إعلان الحرب في 2 أيلول 1939، من أنه سيصدر أوامره إلي قواته بعدم ضرب أية أهداف سوي الأهداف العسكرية فقط.. وهذا يعني تفادي الغارات علي المدنيين والمدن الآمنة.

 

***

 

استمرت الحرب فترة من الزمن بعد انسحاب الإنكليز من دنكرك علي هذه الصورة الهادئة شبة السلمية، فالألمان يمتنعون عن الإغارة علي إنكلترا، والإنكليز لا يقومون بأعمال عدوانية.. وسميت هذه الفترة "بالحرب السخيفة".. عندئذ اشتدت حملة الدعاية والتشهير بتشامبرلين، في الوقت الذي كان ونستون تشرشل قد تسلم القيادة العليا للقوات البريطانية، فقام بمغامرة فاشلة في النرويج، أودت بحياة العديد من الجنود والضباط الإنكليز، وأعادت إلي الذاكرة فشل تشرشل في الانتورب عام 1914، وفشله في احتلال غاليبولي عام 1915.. ولا يعود هذا الفشل إلي عدم مقدرته العسكرية فقد كان شديد الذكاء والحنكة، ولكنه كان جزءا من مخطط يرمي إلي الإطاحة بحكومة تشامبرلين، كما أطيح بحكومة اسكويت إبان الحرب العالمية الأولى.. وهكذا لم يقع اللوم علي تشرشل في فشله هذا، بل كانت الحملة الدعائية كلها ضد تشامبرلين، حتى اضطر إلي الاستقالة ليخلفه ونستون تشرشل، أحد الوجوه التي خلفت اسكويت من قبل.

 

وفي أيار 1940 تحالف تشرشل مرة أخري مع الاشتراكيين، ليؤلف حكومة جديدة سيتم علي يدها تحويل الحرب من "حرب سخيفة" إلي حرب فعلية.. وفي مساء اليوم الذي صعد فيه ونستون تشرشل إلي الحكم في 11 أيار 1940، صدرت الأوامر إلي الطائرات البريطانية بالإغارة علي المدن الألمانية، فاتحة بذلك الباب للألمان كي يردوا بالمثل، فتتحول الحرب بعد ذلك إلي حرب تدميرية فعلية.. ومع أن هناك العديد من الذين دافعوا عن سياسة تشرشل في ضرب الأهداف المدنية، إلا إنهم لم يتمكنوا من تعليل هذه السياسة أبدا.

 

***

 

اتجه القادة النازيون إذ ذاك إلي هتلر شخصيا، وأبلغوه رأيهم بضرورة مهاجمة الاتحاد السوفياتي، تفاديا لترك ألمانيا مكشوفة الظهر حين تشرع في عملياتها الحربية واسعة النطاق.. فلم يرَ الفوهور بدا من الموافقة علي رأيهم.. وفي 22 حزيران 1941 اقتحمت الجيوش الألمانية الاتحاد السوفياتي.. عندئذ وبشكل مباشر، وحدت بريطانيا والولايات المتحدة جهودها المادية لمساعدة ستالين للوقوف بوجه القوات الألمانية ودحرها.. وبدأت حملة منظمة لإرسال السفن المحملة بالذخيرة الحربية إلي روسيا.. وقد تم إرسالها عن طريق الخليج العربي وموررمانسك.

 

وفي هذه الأثناء كان تشرشل يقوم بحملة اعتقالات واسعة لجميع الذين كانوا يعارضون قيام الحرب مع ألمانيا.. وقد اعتمد في هذه الاعتقالات علي مذكرة كانت قد صدرت إبان الحرب الأهلية في أيرلندا، وكانت تقضي باعتقال جميع من يشتبه بأنهم ينتمون إلي الجيش الجمهوري الايرلندي.. وهكذا تم اعتقال أعداد كبيرة من الشخصيات دون محاكمة أو استجواب، ودون أن يتمتعوا بحق الدفاع عن أنفسهم.. وقد صدرت أوامر الاعتقال هذه جميعا عن طريق هربرت موريسون وزير الداخلية في ذلك الوقت ـ وهو الذي يعود بعد ذلك ليظهر في كندا إبان حملة التبرعات لصالح الصهيونية عام 1954.. وقد علل هذه الحملة الواسعة من الاعتقالات، بأنها جاءت حفاظا علي السلامة العامة، وللتحكم بالأشخاص الذين يخشى شرهم.. ولقد أثبتت التحريات التي جرت بعد الحرب، أن هذه الاعتقالات لم يكن لها أي مبرر إطلاقا، وإنها اعتمدت علي حجج سخيفة جدا.

 

وكان من بين المعتقلين، الكابتن رامزي والأدميرال السير باري دومفيل وزوجتاهما وأصدقاؤها.. وقد سجنوا جميعا مع العديد من المواطنين، في سجن بريكستون.. فبقي بعضهم حتى أيلول 1944.

 

وكانت قد سبقت عملية الاعتقالات هذه، حملة واسعة قامت بها الصحافة التابعة للمرابين العالميين، لتهيئة الجو لتشرشل ليقوم بخطوته.. وقد أوهمت هذه الصحافة الجماهير بأن لألمانيا طابورا خامسا قويا ومنظما بين صفوف الإنكليز، وأن هذا الطابور يقوم بالإعدادات اللازمة لهبوط القوات الألمانية.

 

وهناك العديد من الشواهد التي تبرهن علي ارتباط حكومة تشرشل باليهودية العالمية، وهي التي اعتقلت بشكل جائر العديد من الشخصيات البارزة وذات المكانة عند الشعب الإنكليزي، لا لذنب، ولكن لأنهم نادوا بأعلى صوتهم معلنين أن "اليهودية العالمية" هي التي دفعت بريطانيا إلي التورط في الحرب مع ألمانيا. 

 

ويرد علي مزاعم رجال حكومة تشرشل ما برهن عليه القضاء البريطاني وتحقيقات المخابرات البريطانية، إذ لم تثبت علي أي من المعتقلين علي الإطلاق تهمة التعاون مع الألمان التي لفقها عملاء المرابين العالميين.. وقد حاول هؤلاء تلفيق مثل هذه التهمة لزوجة الاميرال نيكولسون، أحد كبار قادة البحر البريطانيين السابقين، ولكن القضاء برأها، فعمدت حكومة تشرشل إلي اعتقالها دون أية تهمة، للانتقام منها علي مناداتها قبل الحرب بمنع نشوب مثل هذه الحرب.

 

ولم يُخمد السجن صوت الأميرال دومفيل ولا الكابتن رامزي، فكتب الأول كتابة الشهير "من أميرال البحار الناشئ"، كشف فيه عن سر الأحداث والجهات التي قادت إلي الحرب العالمية الثانية، وحذر منها الشعب الإنكليزي.. كما ألف رامزي كتابه "حرب دون اسم".. وتمكن هذان الكتابان ـ بالرغم من اختفائهما من الأسواق ـ من فضح أسرار المؤامرة للرأي العام الإنكليزي والأوروبي.

 

***

 

وتوفي رئيس الوزراء الأسبق نيفل تشامبرلين والألم يمزق فؤاده، وهو يري بلاده تساق إلي مجزرة شاملة للدفاع عن مصالح ومآرب حفنة من المرابين العالميين.. وتابعته حملة التشهير التي شنها هؤلاء إلي يوم وفاته، بل هي لا تزال تتابعه حتى الآن في كتب التاريخ، التي تصفه بالضعف والخوف من هتلر.. بينما لا يزال السير ونستون تشرشل يعيش حتى الآن مغمورا بالأمجاد وفي بحبوحة الثراء، تلاحقه أكاليل المديح أينما ذهب!

 

***

 

فور هجوم هتلر على روسيا، أعلن تشرشل وروزفلت أنهما وحكومتيهما سيسعيان لمساندة ستالين بكل الإمكانيات المتوافرة ليهما.. وقال تشرشل، في كلمة مؤثرة، إنه لا يتوانى عن وضع يده في يد الشيطان، إذا ما وعده هذا الأخير بالمساعدة للقضاء علي الفاشية الألمانية.

 

بعد ذلك شرع تشرشل ورزفلت بتقديم المساعدات غير المحدودة لستالين، واقترضا من أصحاب البنوك العالميين مبالغ خيالية، ثم قاما بتحويلها وفوائدها إلي حساب القرض القومي لكل من البلدين، بحيث تولى دفعها بعد ذلك المواطنون العاديون، بينما كان أصحاب المصارف يستريحون ويجنون مئات الملايين من الدولارات من تلك الصفقة.

 

واتفق ستالين وروزفلت وتشرشل علي معاداة الألمان.. وأكد روزفلت لستالين أنهم بعد الانتهاء من الحرب لن يكون هناك من الألمان ما يكفي لإثارة القلق.. وقد نقل فيما بعد أنه أمر بإطلاق النار علي 50000 ضابط ألماني بدون محاكمة.. ولم تكفّ الصحافة الموجهة عن الضرب علي أوتار سياسة النازيين الرامية إلي القضاء علي الشعب اليهودي.. ولكنها لم تأت علي ذكر سياسة روزفلت التي هدفت إلي استئصال الشعب الألماني.

 

وحلّ ستالين الكومينترن، وفي المقابل قدم روزفلت إليه تنازلات جديدة، فقد أطلقت يد ستالين في 600 مليون بشري يقطنون أوروبا الشرقية.

 

ولا يستطيع إلا تشرشل، أن يشرح لماذا كان يجلس ويصغي لإقتراحات روزفلت بإعطاء هونج كونج للصين الشيوعية لإرضاء ماوتسي تونج.. وكيف كان بإمكان تشرشل التظاهر بالصداقة الحميمة للرئيس الأمريكي، بينما كان الأخير يكرر دائما أنه يعتقد أن حل الكومنولث البريطاني ضروري لتقدم الإنسان ورخائه، وكان هتلر علي النقيض من ذلك في أفكاره.

 

***

 

ولم يظهر ستالين علي حقيقته إلا بعد ما احتل برلين وألمانيا الشرقية. 

 

كان الرأسماليون الغربيون ينظرون بعين الاهتمام والجدية لتحديات ستالين الظاهرة.. ولكنهم لم يكونوا يستطيعون فعل شيء.. وكان لديهم ورقة رابحة.. وقبل أن يلعبوا تلك الورقة أصدروا تعليماتهم لروزفلت ليحاول مرة أخيرة إعادة ستالين إلي الصف.. وعرض روزفلت إطلاق يد ستالين في الشرق الأقصى وإعطائه كل ما يطلب، مقابل أن يماشي أصحاب رؤوس الأموال في الغرب.. وركزت الصحافة الموجهة على أن روزفلت أطلق يد ستالين في الشرق الأقصى لأن مستشاريه العسكريين أخبروه أنه لا يمكن إخضاع اليابان بعد استسلام ألمانيا قبل سنتين من القتال الضاري.. وكانت هذه الكذبة من الوضوح، بحيث لم يضطر الجنرال ماك آرثر للكذب مباشرة.. وكان الجنرالات الأمريكيون علي علم بأن اليابان كانت تطلب عقد مفاوضات للصلح قبل ذلك الوقت بكثير.

 

ومرة أخري استولي ستالين علي ما يريد في منشوريا.. ثم عاد وكسر وعوده ورجع إلي تحدياته.. وكان ذلك كافيا لإثارة غضب القوي الخفية التي تدير البيت الأبيض.. ولا بد أنهم قدموا اقتراحا جهنميا مما جعل روزفلت يمرض ويموت.. وقيل إنه مات في منزل برنارد باروخ.. بعد ذلك قرر مستشارو حكومة الولايات المتحدة لعب الورقة الرابحة..  القنبلة الذرية.. وألقيت القنبلتان الذريتان علي هيروشيما وناجازاكي، ليعلم ستالين ما هو مخبأ له إن لم يسر علي الطريق.. وكانت حقيقة توفر القنابل الذرية لدي الولايات المتحدة قد أبقيت سرية حتى ذلك التاريخ.. وفي الوقت الذي ألقيت فيه القنابل، كانت اليابان قد هزمت، وكان الاستسلام وشيك الوقوع.. وهكذا ثم قتل ما يفوق مئة ألف إنسان وجرح وتشويه أكثر من ضعفي هذه العدد، لمجرد الإثبات لستالين أن الولايات المتحدة تمتلك فعلا قنابل ذرية.. وهكذا نري أن تشرشل أمر بقصف ألمانيا لإيهام ستالين بحسن نية الأمميين الغربيين، وبأنهم يسعون لصداقته، وأن الولايات المتحدة قصفت اليابان بالقنابل الذرية لتحذير ستالين بأنه يجب أن يسير علي الطريق وإلا......  

 

 

 

 
15خاتمة

 

 "أنا أعرف تمردكم وقلوبكم الصلبة.. إنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم، ويصيبكم الشر في آخر الأيام".. النبي موسى علية السلام.

 

***

 

في ختام هذا الكتاب لابد لنا من تعليق (مترجم الكتاب)..

 

إن القارئ الذي فرغ من قراءة الكتاب، يعود إلي مراجعة نفسه الآن مشدوها، ويتساءل: هل لليهود كل هذا النفوذ في العالم؟.. أصحيح أن النازية والشيوعية تعملان بوحي موجه واحد؟

 

هل يعقل أن جميع زعماء العالم العظام، كانوا أدوات، أو "أحجار شطرنج" ـ علي رأي المؤلف ـ بيد القوي الخفية؟

 

بل قد يصل التساؤل إلي حد الشك بوجود منظمة النورانيين، أو مجمع حكماء صهيون أصلا. 

 

ولو تركت مشكلة تقدير قوة نفوذ اليهود لهم، فقد يزعمون لأنفسهم توجيه الأوامر للملائكة، وتسخير الشياطين، والتحالف مع الإله.. فقد جاء في أحد نسخ التلمود علي لسان مناحم ".. وقد اعترف الله بخطئه عندما صرح بتخريب الهيكل، فصار يبكي ويمضي ثلاثة أجزاء الليل يزأر كالأسد، ويقول: تبا لي لقد حرضت علي خراب بيتي وإحراق الهيكل ونهب أولادي".

 

فما لاشك فيه أن اليهود طراز خاص من البشر، ذوو صفات معينة، وإمكانيات خاصة.. وكان لهم دور مُخزٍ في جميع الأحداث التاريخية المهمة، فهم مشوشو العالم ومسببو آلامه وويلاته.. ولكن نتائج أعمالهم تصيبهم هم دائما أكثر من غيرهم.

 

وجورج واشنطن زعيم الولايات المتحدة يقول فيهم:

 

"ومن المؤسف أن الدولة لم تطهر أراضيها من هؤلاء الحشرات، رغم علمها ومعرفتها بحقيقتهم.. إن اليهود أعداء سعادة أميركا ومفسدو هنائها".

 

أما الماسونية التي تدعي الصهيونية السيطرة عليها، هل حقيقة أن جميع أعضائها أدوات بأيدي اليهود؟.. إنّ في بلادنا ماسونيين كثيرون لا يعرفون من الماسونية غير الاسم ((هذا قبل أن يتم حظر الماسونية في مصر والدول العربية.. بالمناسبة: كان حمال الدين الأفغاني ـ أستاذ محمد عبده ـ منتسبا للمحافل الماسونية!!!.. بالمناسبة أيضا: إذا كانت المحافلل الماسونية قد ألغيت، فقد حل محلها في بلادنا نوادي الروتاري والليونز، التي استقطبت كبار الشخصيات وعلى أعلى المستويات!!!)).. هناك تجار انتسبوا في سبيل المال، وهناك مخدوعون انتسبوا حبا في السلام.. إن جميع هؤلاء عندما يكتشفون الحقائق سيكونون أشد عداء للصهيونية من غيرهم، لأنهم خدعوا أكثر من غيرهم.

 

وهاهي الشيوعية العالمية تحاول أن تتخلص من النفوذ اليهودي منذ أيام خروشوف.. وليست المشاكل الأخيرة التي أثيرت ضد السوفيت في دول أوروبا الشرقية إلا من صنع اليهود.. وفي بلادنا شيوعيون كثيرون يقتضي الأنصاف أن نبرئهم من الارتباط بالخارج، إنهم لا يفهمون من الشيوعية إلا أنها ستنقلهم من حياتهم إلي جنات النعيم.

 

إننا ونحن ننشر هذا الكتاب تنويرا للقارئ العربي نريده أن يعلم تمام العلم أن اليهود شعب مخطط، لا يتورع عن سلوك أنذل السبل لتنفيذ مخططاته وتنفيذ مآربه.. ولكننا نريده أن يعلم أيضا أن الصهيونية ليست قدرا لا بد منه، كما يدعي "شعب الله المختار".. ولكن التنظيم لا يقابل بالفوضى، والعلم لا يقابل بالجهل، والإيمان لا يقابل بالتواكل، والتعاون لا يقابل بالفرقة.

 

إن احتلال اليهود للقدس نذير بتدمير جديد، وقضاء نهائي علي مهزلة "شعب الله المختار"، وذلك يجب أن يشكل حافزا للعمل الجدّي لإعادة الأمور الشاذة في فلسطين إلي وضعها الطبيعي، لأن النصر لا ينزل من السماء، ولا يخرج من باطن الأرض، إنما أيدي العاملين المخلصين، تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنه الله تبديلا.